* جوزف باسيل
أدرك ستيفان زفايغ خطر النازية التي وصلت الى السلطة بانتخاب ديموقراطي، ثم ما لبثت أن عدلت بالمانيا الى الديكتاتورية. إزاء هذا التحول وهذا الخطر أطلق زفايغ في كتابه “عنف الديكتاتورية” “صرخة التحذير” لأنه أيقن أن أي “صرخة” في وجه الديكتاتورية أيا تكن ستُمنع، بل ستستأصل. التجأ الى التاريخ والى أربعة قرون خلت ليصرخ من الماضي لعل الحاضر يدرك أن الديكتاتورية هي نفسها في كل زمان وفي كل مكان وإن غيّرت لبوسها.
اختار زفايغ في كتابه الشخصية الرئيسية “جان كالفن”أحد أعمدة البروتستانتية، ساردا الوقائع التاريخية بأسلوب السيَر التاريخية، عارضاً لحاضره ولكل حاضر يخضع للديكتاتورية، مبيّنا التناقض والصراع الى حد الالغاء بين نهجين: القمع والحرية، العنف والحوار، التعصب والانفتاح، التسامح وقبول الآخر، الديكتاتورية والديموقراطية. ليخلص الى ما دفعه في ما بعد هو نفسه الى اليأس والانتحار، وذلك عند تسلط الطغيان على المعارض الفرد “المتسلح بالمنطق”. فجاء كتابه متضمناً مقدمة وتسعة مشاهد، مستهلاً مقدمته بكلام لمونتاني: “… ثمة خسارات ظافرة تنافس الانتصارات…” ليطرح قضية وجودية لطالما أقلقت البشرية ألا وهي الحدود الفاصلة بين الحرية والسلطة وما تحمله من صراع دائم ومستديم بين الانفتاح والتعصب، والاستقلالية والخضوع والعقل وجنوح الرغبة.
تحكم الحرية والسلطة علاقة جدلية، فالحرية غير ممكنة من دون سلطة، وإلا صارت فوضى، والسلطة من دون حيرة تتحول تسلطا وطغيانا. هذه الحدود الناعمة بين الفوضى والتسلط لن يرسمها إلا العقل المتمثل في الكتاب بشخصية سبستيان كاستيليو المثقف المثالي والمستقل، حامل لواء حرية الفكر الانساني، على رغم عجزه عن الحصول على حق المواطنة وعزله وفقره، عاش بحرية دائمة كونه لم يرتبط بحزب ولم يتواطأ مع فكر متعصب، بل استمر في ادانة طغيان “كالفن” ومنهجه الاصلاحي. وحده كاستيليو “ناضل من اجل الجميع”، وضد جميع الطغاة، وبقي “الضمير” الذي لا يلين ولا يهاب شيئا. استمر متسلحا بالعقل على رغم تيقنه من عدم نجاح كفاحه. وكما دوّن هو نفسه وبخط يده “البرغشة ضد الفيل”، ومقاوما الاشكالية الاساسية التي يطرحها الكتاب ألا وهي “التبعية” المتحكمة بكل مفاصل العلاقة المعقدة بين الديكتاتور كالفن والمواطنين، فهو استطاع أن يخضع “بحِرَفية فائقة التنظيم” مدينة بأسرها، بل الدولة بكل تفاصيلها لمذهبه الذي بات قانون الدولة، مستأصلا كل استقلالية ومصادرا حركة التفكير لمصلحة عقيدته. إلا أن هذا ما كان ليتحقق لولا تكاسل المواطنين عن إعمال الفكر وخوفهم من الحرية الشخصية، مما دفعهم اندفاعاً لاواعياً نحو المنقذ الذي “كلما ألزمهم بالواجبات تمادوا في الاستلاب” و”بنشوة التضامن مع المجموع خضع بمحض ارادته للعبودية”. وهذا ما سعى زفايغ في كتابه الى تعريته كاشفاً النقاب عن التعقيدات المتشابكة التي حملت “أهالي مدينة جنيف في يوم السبت 21 أيار 1536 على التجمع في الساحة العامة بعدما استدعوا اليها بطريقة احتفالية وعلى عزف النفير، أعلنوا بالاجماع وبرفع الأيدي، أنهم اعتبارا من حينه يريدون العيش “بحسب الانجيل وكلمة الله”، وعبر الاستفتاء “أرقى منجزات الديموقراطية” وباسم الاصلاح الذي دعا اليه لوثر وتسفينغلي “لتطهير الكنيسة” و”العودة الى تعاليم الانجيل المنسية” سلّم اهالي جنيف وخضعوا لسلطة كالفن المطلقة، ذلك المهاجر الفرنسي الى بازل حيث تقاطع الطرق الاوروبية وحيث الصيغ المختلفة في البروتستانتية تتقابل وتتصارع، والذي اعتبره الداعية “فاريل” مرجعية لا جدال فيها، واعترف به قائدا ومعلما، وبات كتاب كالفن “تعاليم الديانة المسيحية” الذي ألّفه عام 1535 الدليل والمرشد والمؤلف المشتمل على قوانين الكنيسة البروتستانتية. وهكذا تحول كالفن من مجرد قارئ الكتاب المقدس” وواعظ بطلاً منقذاً فقبض على السلطة من دون أن يعي أبناء مدينة جنيف ومجلسها الذي تلكأ عن قراءة كتابه وما يتضمنه من أفكار تبرر التسلط، وقوانين حوّلت الجمهورية الديموقراطية ديكتاتورية ثيوقراطية خاضعة للقساوسة “الأوصياء على كلام الله”، ولهم كل الحق في أن يأمروا الجميع من “أعلى القوم الى أدناهم” وأن يقيموا “عقيدة الله ويهدموا مملكة الشيطان”. هم وحدهم مالكو الحقيقة ولهم وحدهم الحق في ادانة “العصاة” وسحقهم وفي أيديهم الحل والربط. لكن كل ذلك وفقا لكلام الله. وما ينطبق على المملكة الروحانية ينطبق ايضا على المملكة الدنيوية لتماثلهما، فلا بد من حدود واضحة وقوانين أسند فيها كالفن الى نفسه واجب تربية الناس على العقيدة الجديدة، لأنه الوحيد في هذا العالم الذي أعطاه “الله النعمة” لإعلان ما هو جيد وما هو سيئ، وهو الوحيد القادر على تفسير كلام الله وهو وحده يدرك الحقيقة. كما إن عاشق السلطة لا يتوانى عن اعتماد كل الوسائل لتحقيق غاياته حتى العنف تجاه الذات وتجاه الآخرين، بما في ذلك النفي والاضطهاد والقضاء على كل لذة وحتى القتل، حيث ان دينامية السلطة المطلقة لا تستوي إلا بصورة القائد الغائب وعودته بطلا بجريمة تختصر كل الجرائم، لذا أصدر حكمه القاضي بإحراق “الزنديق” سيرفيت، “أسير سطوة الشيطان” لمناهضته عقيدة كالفن. وبذلك ينقل “زفايغ” كتابه الى المستوى الآخر مستوى العقل الذي صاغه على لسان كاستيليو الناقد لممارسات كالفن في التعصب والعنف، طارحاً بمنهجه الهادئ العاقل فكرة التسامح ودور الارادة في ممارسته، إذ أن التسامح ممارسة وفعل وليس مجرد لغو وكلام. فيتأسس على رفض الاستبداد والعنف والاستعباد انطلاقا من أنه لا يحق لأي فرد ان يملك الحقيقة وأن يدّعي ان فكره يصلح لكل الازمنة، فالايمان لا يكون إلا بالحرية ولا يستوي الدين إلا بالاقتناع الحر. لينهي زفايغ مشهده الاخير” بالواجب الانساني للكفاح من أجل استقلالية الفكر ضد جبروت العنف”.
كالفن التكفيري على شاكلة تكفيريي أيامنا، امتطى الدين لممارسة السلطة، بل أسوأ أنواعها على الاطلاق. كالفن، قرون أوروبا الوسطى، نموذج للحكام العرب الطغاة في “قروننا العربية الوسطى” استخدم الدين، كما يستخدمونه، وادعى النطق باسم الله، كما يدّعون، وزعم ان كلامه هو كلام الله، كما يزعمون، لم يحكم الناس بالدين، بل بعصا الطغاة، كما يحكمون، وها هم يسوقون الناس الى جحيم الارض اليقين، وهم يعدونهم بجنة النعيم.
أول ما يستهدف الطاغية، الحرية، فهي عدوه الاول، كما كل حر، اما أصحاب العقل إن وجدوا، فهم عدوه الثاني، فوجوده نقيض الحرية والعقل. وفي مواجهة كل طاغية، ثمة ضمير يحمل هموم الناس، لا يهاب ولا يلين، وهذا الضمير موجود في كل زمان ومكان فردا أو جماعة يواجه الطغاة، وهذا ما نشاهده حالياً في سوريا ومصر وليبيا وتونس، والبقية آتية.
_____________
– عنف الديكتاتورية، ترجمة فارس يواكيم، الصفحات 223، دار الفرات
* (جريدة النهار)