* محمد مهدي حميدة
يأتي معرض “رحلة عبر مصر” متواصلاً مع سلسلة المعارض الاستشراقية الجامعة لمنتخبات نادرة من مقتنيات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وهي معارض نوعية تنظمها إدارة الفنون بدائرة الثقافة والإعلام في الشارقة بصورة متعاقبة، لتتيح أمام جمهور الفن فرصاً حقيقية لمشاهدة وتأمل تلك المعروضات التاريخية الناقلة لصور من الزمان الماضي حول مجتمعات وشعوب الشرق الموجودة إبان القرن التاسع عشر الميلادي، مع التعرف أيضاً إلى صور توثيقية عديدة سعت في عمومها إلى مقاربة الواقع ومحاكاة أحوال الناس ورصد الأماكن الباقية والمتداعية عبر أرجاء الجغرافية العربية الممتدة من آسيا إلى أفريقيا، والمتجذرة في التاريخ الإنساني الحاكي لعصور النشوء والارتقاء والتطور الحضاري.
من هنا تكمن أهمية الفن الاستشراقي تاريخياً، حيث يحظى ذلك النوع من الفنون اللصيقة بصور الحياة وواقعها الزمني بامتلاكه لآلاف التصورات المرئية واللوحات والتخطيطات الواصفة والمبينة لمظاهر عمومية وتفصيلية منقولة في معظمها عن بلدان الشرق العربية، بما لها من تقاطعات تتعلق بنشأة الديانات السماوية وما رافقها من أحداث جليلة وشواهد وأماكن مقدسة مازال البعض منها شاخصاً حتى وقتنا الحالي، إلى جانب البعض الآخر من تقاطعات مغايرة تأتت نتيجة لكتابات أدبية ذات طبائع سحرية وأسطورية رسمت بدورها الكثير من الصور المخيلاتية الباهرة عن رونق الشرق وسحره وأسراره المخبوءة، ما دفع الفنانين للذهاب فرادى، أو ضمن جماعات أمكن للبعض منها الانتقال في حماية ورفقة الجيوش والحملات الغازية، أو ضمن بعثات علمية تخصصية عملت على تحري أدق تفاصيل المكون الشرقي المكاني والمجتمعي، وتدوينه كتابياً وبصرياً وفق تصورات ومعتقدات ينبغي تدقيقها والاشتغال البحثي على مضامينها وأغراضها.
إنعاش الذاكرة
وهذه النوعية من المعارض التخصصية، إنما تحمل من الأهمية والضرورة ما يمكن له الإسهام بإعادة إنعاش الذاكرة الإنسانية والعمل على بث إشارات معرفية قوية من شأنها الدفع بالمثقف نحو تحري ومحاولة تتبع صور الشرق في الذهنية الغربية، حيث تكون مجمل تلك الصور نتيجة لعلائق تاريخية متجذرة جعلت من الشرق والغرب صورتين متقابلتين – إن جاز لنا التعبير- أو بالأحرى صورتين متصارعتين ثقافياً ومعرفياً، وهو ما أدى لتفكير الغرب وقيامه في أزمنة مختلفة باستعمار مساحات عريضة وبلدان عدة منتمية لذلك الشرق الغني بالثروات والمعارف والحضارات، ومن ثم بسط هيمنته عليه، والسعي بكافة السبل للإفادة مما يمتلكه العالم الشرقي من شواهد أثرية ومعارف وخبرات لا شك أنها ما زالت تشكل قسماً رئيسياً في مسيرة الحياة خلال فترات زمنية شاسعة وليست بالقليلة.
لذا فإن الاستشراق بمعناه العريض يظل منفتحاً على التأويل والتفنيد والبحث بما يصعب معه الوقوف عند تعريف وحيد ومحدد، خاصة وأن هذا المعنى قد يتغير طبقاً لطبيعة البحث والمجال المرتبطين، وها هنا أجدني أميل عن قناعة للوقوف عند تعريف عمومي ومجرد كان قد وضعه المفكر الراحل إدوارد سعيد كمدخل أساس للتعاطي مع الاستشراق باعتباره – وطبقاً لسعيد نفسه- نوع من التفاهم من قبل الغرب للتواصل مع الشرق بأسلوب قائم على المكانة الخاصة التي يشغلها هذا الشرق ضمن الخبرة الأوروبية الغربية. فليس الشرق وحسب مجاوراً لأوروبا، بل إنه موقع أعظم وأغنى وأقدم المستعمرات الأوربية، وهو مصدر حضاراتها ولغاتها، ومنافسها الثقافي، وهو يمثل صورة من أعمق صور الآخر وأكثرها تواتراً لدى الأوروبيين. أضف إلى ذلك أن الشرق قد ساعد في تحديد صورة أوروبا (أو الغرب) باعتباره الصورة المضادة، والفكرة والشخصية والخبرة المضادة. ومع ذلك فلا يعتبر أي جانب من جوانب هذا الشرق محض خيال، فالشرق جزء لا يتجزأ من الحضارة المادية والثقافة الأوروبية. والاستشراق يعبر عن هذا الجانب ويمثله ثقافياً بل وفكرياً، باعتبار الاستشراق أسلوباً للخطاب، أي للتفكير والكلام.
أما الاستشراق الفني، فهو لا يذهب بعيداً عن ذلك التصور الفكري الذي صاغه سعيد في سعيه لرصد وفهم الاستشراق عموماً، إلا أنه ومن الناحية البحثية يظل مرهوناً بفرضية وجود دراسات وأبحاث جادة تسعى لاستجلاء ذلك المشهد المشتمل على كثير من الحقائق المتعلقة بعمل الباحثين والكتاب والفنانين المستشرقين على وجه الخصوص، وهنا ينبغي التنبيه على العديد من القضايا المرتبطة بموضوع الاستشراق الفني على أهميته في تاريخ الفن الذي هو أحد المتون الرئيسية لتاريخ الإنسان، والذي لم يحظ حتى الآن – في تصوري- بتنفيذ قادر على الإلمام بكافة الجوانب المرتبطة حقاً بهذا الموضوع وعلائقه المباشرة مع حقب تاريخية متعددة، خاصة وأن معظم الدراسات المنشورة في هذا المجال، إنما تبحث فقط في الجانب التوثيقي، وتقف عند المناحي التاريخية وتتعامل مع منتج الفن الاستشراقي في هيئته الاصطلاحية المجردة، ناهيك عن ندرتها وقلة عددها طبقاً لشهادة هامة قدمتها د.زينات بيطار الباحثة في فنون الاستشراق، والتي تقول في هذا الصدد: (عندما بدأت القراءة حول الاستشراق في عام1983 وجدت أن الدراسات الاستشراقية الغربية والسوفيتية والدراسات المقارنة بين حضارات الشرق والغرب جعلت دائرة اهتمامها علوم السياسة والاقتصاد والفلسفة، بينما بقى الاستشراق في الفن التشكيلي رغم أهميته هامشياً إلى حد ما بالمقارنة مع الفروع الأخرى للاستشراق).
واقع وآليات
أما عن واقع الاستشراق الفني وآليات عمله، فأرى أنه في نسج قسط كبير من مكونه ومنجزه العريض قد اعتمد بشكل أو بآخر، وبصورة رئيسية كذلك يمكن تبينها على ما يمكن تسميته بـ (مسرحة الواقع) وهو ما تطلب في ذلك الوقت الغابر من عدد ليس بالقليل من الرسامين الاستشراقيين أن يتصرفوا بصرياً في بناء اللوحة بالاختزال والإضافة لإظهار عناصر على حساب عناصر أخرى، وللتأكيد على أفكار محددة مقابل أفكار يتم تجاهلها، خاصة في تلك اللوحات التي رسمت خارج المواقع الفعلية ونقلا عن اسكتشات ورسوم تحضيرية، أو أوصاف وردت في كتب التاريخ والرحلات، ويتضح هذا الأمر جلياً كما هو معروف ومتداول لدى الأوساط الفنية، وخلال الكتابات المعنية في أشكال الوجوه البشرية على وجه التحديد، وكذلك في وضعيات الشخوص داخل اللوحات بشكل يكاد يخلو من الحيوية حتى أن كثيراً من مكونات تلك اللوحات يؤشر على كون تلك الشخوص الموجودة في ذلك السياق ما هي إلا نماذج رسومية وموديلات كانت قد رسمت في مكان وزمان مغايرين وفقاً لرؤية الفنان الساعية نحو اختلاق واقع جمالي، وتحقيق وجود لواقع تشكيلي أساساً يحمل مسحة من مخيلة الفنان البصرية، وهو ما يخدم فقط تصور الفنان عن الشرق، كما تم تصويره على سبيل المثال في الكتب المقدسة وقصص (ألف ليلة وليلة)، وغيرها من المنجزات وإصدارات الأدب المعنية بتوظيف الأجواء الشرقية، والتي ظلت حتى وقت ليس بالبعيد ترسم صورة الشرق الأسطوري وحكاياته العجائبية في مخيلة الغرب، حتى أن الفنانين المستشرقين أنفسهم حاولوا أن يقدموا أعمالاً تتسم بالملحمية في بنائها وتركيبها والتأليف بين عناصرها لمقاربة ذلك الخيال السحري الراسخ في الأذهان آنذاك، وهو ما انعكس على ذوق المعارض الفنية الأوروبية فيما بعد والتي احتلت خلالها لوحات الفنانين عن الشرق موقعها البارز والصدارة في معارض باريس المقامة عبر نصف قرن تقريباً يمتد من العام 1855 إلى 1900 كما تبين ذلك الناقدة د. مهى سلطان في دراستها المنشورة خلال كتاب معرض (بلاد الشام) والتي تؤكد خلالها على تلك الفترة التاريخية وبزوغ ما أسمته بالموضة الفنية لاسيما بعدما تكونت في العام 1893 جمعية الفنانين المستشرقين الفرنسيين التي تزعمها ليونس بنيديت (مدير المحفوظات في متحف اللوكسمبورغ) الذي اهتم بدراسة الحضارات الشرقية القديمة لاسيما العمارة والزخرفة الإسلامية. وكان من بواكير نشاطات تلك الجمعية تنظيم أول معرض للفن الإسلامي أقيم في العام 1893 في أروقة متحف القصر الكبير (الغراند باليه) في باريس.
وهذا الطرح السابق حول واقع وآلية العمل المعتمدة من قبل عدد غير قليل من الفنانين الاستشراقيين لا يسعى بصورة أو بأخرى للتجني على منجز الفن الاستشراقي، ولا يقلل بحال من قيمة وأهمية الاشتغال الفني على هذا النحو، ولكنه يحاول ألا يتجاوز هذه الحقائق الواردة عبر إشارات مؤكدة ومتناثرة في كتابات سالفة الوجود، تقر بذلك وتُخبر عنه، في الوقت الذي تغيب فيه حقائق ومعلومات أخرى بات البعض منها يتكشف من خلال بحوث معمقة لا تقف عند حدود الصورة، ولكنها تبحث في ظروف رسمها والبواعث الدافعة للفنان على الاهتمام بتسجيل أماكن أو مشاهد بعينها على حساب تغييب ما دونها عن قصد ربما لإيصال ما يريده هو فقط، أو ما يمليه عليه التوجه الذي يعمل خلاله.
بمعنى آخر يمكن القول بأنه ليس كل الفن الاستشراقي فن يحمل من المغالاة قدراً كبيراً في محاكاته للواقع، ولكن ما أعنيه حقاً أن هذه سمة واضحة يمكن تتبعها في جنبات كثيرة مما تتضمنه اللوحات الاستشراقية في عمومها إلى جانب ما تحفل به في ثناياها وخلال مسطحاتها المتفاوتة الأحجام والمتنوعة المرجعيات المكانية والزمانية من مكونات وعناصر تتعلق بأماكن العيش والعبادة والعمل، إضافة لما يرتبط منها بالطبيعة المحيطة وما قد تبدى من مظاهر الحياة اليومية والاحتفالات والأعياد أو حتى ما يرتبط بالموت والطقوس الجنائزية وما شابه ذلك.
التوثيق والتسجيل
فالاستشراق الفني يمكن له أن يكمل الصورة الكلية للاستشراق عموماً، وبدونه تظل مقاصد الاستشراق غائمة ومبهمة إلى حد ما، لذا فإن ذلك الفرع من أفرع الاستشراق، إنما يحتل مكانته الخاصة في التاريخ عامة وخلال تاريخ الفن على وجه الخصوص، نظراً لارتباطه بأماكن حضارية بارزة في الشرق قد استطاع أن يوثقها الرسامون العابرون للمدن والضواحي والمنتثرون في الصحاري والبساتين وخلال الشوارع والقصور ودور العبادة، ضمن لوحات فنية أمكن لها أن تحيلنا بشكل أو بآخر إلى جوانب رئيسية تعبر ربما عن واقع المجتمعات والبلدان طبقاً لما تصوره المستشرقون في سعيهم للتعبير عن مشاهد محددة ومناظر مفتوحة أو داخلية تحمل جميعها مدلولاتها وقيمها على المستويين الفني والتاريخي، بما يعضد من أهمية فن الاستشراق.
ليظل بذلك موضوع الاستشراق الفني من الموضوعات الجديرة بالبحث والتدقيق، لما يرتبط به من مؤثرات وأهداف قد نجدها أحياناً تتصادم مع مبدأ الفن للفن مثلاً، وكذلك مع الممارسة الفنية المجردة المفترضة في تسجيل وتوثيق واقع الأشياء كما كانت عليه في هذا الوقت، خاصة وأن الفنانين المستشرقين قد جاؤوا إلى المنطقة مشبعين بثقافاتهم وعقائدهم التي ترى الشرق بمنظور قد يكون مغايراً لما هو عليه بالفعل، ما يدعم تلك الصورة في نفوس أبناء الغرب القابعين هناك في بلدانهم دون أن تتاح لهم في ذلك الحين سوى كتابات ورسومات يتسم البعض منها بطابع فني مؤثر.
إلا أن ذلك لا يمنع بحال أو بآخر من القول بأهمية فنون الاستشراق وقدرتها على التوثيق والتسجيل لكثير مما تزخر به بلداننا العربية من مكونات حضارية تحتل مواقعها البارزة في التاريخ الإنساني.
ومن هنا تأتي قيمة الأعمال الفنية المعروضة حالياً بمتحف الشارقة للفنون، والتي تعكس في مجملها جدية الفنان المستشرق في بلوغ أهدافه المنتشرة في ربوع مصر من شمالها لجنوبها، حيث تشير أماكن اللوحات ومحتوياتها إلى ذهاب الفنانين الاستشراقيين إلى دير سانت كاترين في سيناء، ومرورهم بالقاهرة في شمال مصر، وانتقالهم لأسيوط والأقصر في الصعيد، والاستمرار في العمل والارتحال حتى عمق النوبة الممتدة إلى أقصى الجنوب المصري، مع سعيهم لتوثيق الأديرة القبطية والمساجد الإسلامية ومعابد الفراعنة، إلى جانب مشاهد من الحياة المصرية الجارية خلال القرن التاسع عشر.
____________
* (الاتحاد)