لطفية الدليمي.. فـي عيدها السبعين



* باسم فرات

بدأ تعرفي بشكل كبير على الأدباء وأنا في المتوسطة (تسمى الإعدادية في غالبية الدول العربية)، تعرفي عليهم كان عن طريق القراءة ولم يكن اجتماعيًّا، أي من خلال إبداعاتهم ومنشوراتهم، ومعظمهم لم ألتق بهم حتى وقت متأخر أو حتى يومنا هذا، والكاتبة لطفية الدليمي واحدة ممن كنت أتابع منشوراتهم، وكانت نظرتي للكُتّاب في تلك الفترة، حيث مازلت في بداية مراهقتي، لا تختلف عن نظرة أقراني لنجومهم المفضلين في مجالات الرياضة والتمثيل والغناء، فكل شاعر وروائي وقاص ومسرحي وناقد- وبعبارة أخرى كل مَن يحترف الكتابة- كان نجمي الذي أترقب ما ينشره أو يُنشر عنه، وكنت ألتهم الحوارات التي تجري معهم وأتأمل صورهم بدهشة المُعجب، وحين أشتدّ الضغط عليهم للكتابة توازيًا مع اشتداد المعارك على الجبهة الشرقية، كنت أَتَألَّم كثيرًا حين أقرأ لأحدهم ما يوحي أنه للحرب، فقد كنت مراهقًا ثوريًّا أكثر مما يجب، أزن الأمور بمنظار تمردي ومراهقتي، لم تكن الحياة قد لقّنَتني دروسًا في التأني وثقافة “احمل أخاك على سبعين محملاً، وألتمس لأخيك عذرًا” بل كنت متسرعًا قاسيًا في أحكامي، جاهلاً حقيقة وطأة النظام الشمولي حين يتربع على هرمه مَن تَجَلّت عبقريته في حمل مساوئ البادية والريف والمدينة معًا، مع تمثّلٍ لشخصيات أدمنت تاريخ الإنسانية بعنفها وأوهامها، فضَيّعَ البلاد والعباد حتى هذه اللحظة وإلى ما يشاء الله.

حين أتذكر تلك الفترة أقف بإجلال يكاد يقترب من القدسية لكُتّابِنا الذين نجوا بأقل الخسائر، أشاروا بحنكة الحكماء إلى عورة الطاغية، وحين أقول بحنكة الحكماء، لأن التباهي بأنهم كتبوا بحرية وأشاروا إلى الكوارث التي يتسبب فيها الحاكم الشمولي تعني تبرئته من طغيانه، ومنحه صكوك براءة لا يستحقها، وبشكل تلقائي تثبيت التهم على ضحاياه، فالكاتب الذي يتعرض لسؤال ساذج وغبي من قبل صحفي أثناء حوار أو لقاء ما، من مثل “هل تكتب بحرية؟” سوف يكون غبيًّا إذا أجاب بالنفي، بل يصبح معاندًا للآية الكريمة “وﻻ تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” هذه الآية التي كانت حرز الجميع الإجباري في تلك السنوات الدموية، مثلما أتذكر في تلك الفترة حين كنتُ أقرأ عناوين فتشمئز روحي لمجرد أن الكتاب صدر ضمن سلاسل “ديوان المعركة” “قصص تحت لهيب النار”، “روايات قادسية صدام” هذه السلاسل التي نجا منها البعض، والكثير لم يتمكن وحديثي هنا عن الكُتّاب المكرسين إبداعيًّا، أي ممن نشروا أكثر من كتاب وكُتِبَ عن إبداعاتهم عشرات الدراسات والبحوث والمقالات، وأجريت معهم حوارات ولقاءات صحفية مكتوبة ومسموعة ومرئية، قبل بداية كارثة حرب الثماني سنوات. فثمة فرق بين مَن وجدَ نفسه مجبرًا تحت عيون وعسس الطاغية وبين مَن ذهب من تلقاء نفسه طلبًا للشهرة وسكب ماء الوجه، وخيانة الكلمة والإبداع، ولم يكن قد نشر ما يلفت الأنظار له، فكانت تلك السلاسل أسهل طريقة لكي يتباهى بسطحية أنه نشر ديوانًا أو كتابًا عن دار الشؤون الثقافية، وهنا يكمن الفرق الشاسع بين الجيل الذي تنتمي إليه الكاتبة لطفية الدليمي، حيث قدموا الكثير للثقافة العربية وهم في العشرينات والثلاثينات، وبين جيل سلاسل الحرب الدموية.

نهاية التسعينيات من القرن المنصرم أو سنة 2000، في آخر بقعة في العالم، حيث الوحدة وفقدان كل ما هو يرتبط بثقافتي الأم، نزلت قبيل الظهر من شقتي لتفحص بريدي، فوجدت ورقة مُقَوّاة، من مكتب البريد، ذهبتُ وإذا بطرد مُرسل من قبل الشاعر سلمان داود محمد، يتضمن مجموعة من الكتب من ضمنها رواية للكاتبة لطفية الدليمي “خسوف برهان الكتبي”. حين حصلت على الطرد لم أذهب لشقتي الصغيرة، بل إلى شقة الصديق الشاعر صباح خطّاب، وأريته الطرد، كنّا فرحين بهذه الهدية الثمينة التي تكَلّف عناء إرسالها سلمان داود محمد، في تلك السنوات الحالكة، حيث متوسط الرواتب كان لا يتجاوز الخمس دولارات، ولكنه كرم الشاعر وجنونه. كانت الرواية إدانة واضحة للحصار، لم تكن منشورًا سياسيًّا، بل كانت عملاً أدبيًّا ممتعًا، وكان برهان الكُتُبي هو العراق، هو المثقف العراقي الذي يقف أمام وطأة الحصار الذي سببه النظام الشمولي، فتمت معاقبة الشعب العراقي على جريمة مخططها ومنفذها شخص واحد هو رأس النظام الذي كان كلما أمعن الغرب في تشديد عقوباته زادت قصوره وأسرف في البذخ وأمعن في القسوة والنرجسية. رواية خسوف برهان الكتبي وثيقة إدانة للحصار وللموت، وانتصار للإنسان العراقي الذي كَبَّلَهُ الحصار، حصار “الشرعية الدولية”، وحصار “القائد الضرورة”، وهذا لا يعني عدم وجود قراءات أخرى للرواية، ولكن هذه القراءة تتماشى مع خطاب السلطة آنذاك في ذم الحصار، الذي هي سببه وأسّه وبلاؤه وتعرية الحصار تعرية لها، وإلا فسوف تكون لطفية الدليمي ممن عرّضوا أنفسهم للتهلكة. والكثير من نتاج تلك الفترة يتسم بتعدد القراءات للنجاة من تهمة “معادٍ لخط الحزب والثورة”، هذه الجملة التي سحقت رؤوس الكثيرين وغطّت العراق بمدافن جماعية ولكاتب هذه السطور أكثر من اثني عشرَ شخصًا لا يعرف مصيرهم، بعضهم منذ نهاية السبعينيات والبقية في عقد الثمانينيات ومطلع التسعينيات.

في هيروشيما (2005- 2008) توثقت عبر الشبكة علاقتي بالكاتبة لطفية الدليمي، وبالذات بعد كتابتها لمقالتها الأولى عني “إبداع عراقي في المنفى”، فصرتُ أتحاور معها وأتواصل عبر خدمة المرسال “الماسنجر”. ومن الأمور التي أدهشتني بها، هي أنني حين كنتُ أتحدث عن اكتشافاتي الشخصية كقارئ ولستُ متخصصًا، بتاريخ العراق، وأن المشكلة ليست أكثرية عربية تُصرّ على إخضاع العراق كله لهيمنتها وبين أقليات هي قديمة وأصيلة تطالب باحترام تنوعها وتميزها وخصوصيتها، بل في العقلية الإقصائية التي “يتمتع” بها الجميع مما جعل الوطن يعيش- ولا يزال- جحيم أوهامهم و”تمتعهم” بهذا الوهم والتلفيق، ورحتُ أضرب لها الأمثال تلو الأخرى عن كل فئة لغوية ودينية ومذهبية وإثنية وقومية، وأن بعض الفئات- رغم نسبتها الكبيرة في العراق- مازالت في طور الإثنية، حيث القومية تعني ذاكرة جمعية وضميرًا جمعيًّا ولغة واحدة وثمة مئات الشخصيات التاريخية المشتركة، وغيرها من الشروط الأخرى الواجب توفرها بالجماعة لكي ينطبق عليها مصطلح القومية، وإلاّ فهي إثنية. كانت لطفية الدليمي تناقشني بهدوء الندّ للند، لم تُشعرني أنها أستاذة وأنا أصغرها بربع قرن تقريبًا، ولم تتهجم كما فعل غيرها، وتتهم لمجرد ذكري لحقائق مُغَيَّبَة عنا بخصوص شمال العراق وحقيقته التي لم تكن بصبغة واحدة مطلقًا، وأن دعاة المظلومية وضحايا صدام حسين يصرون أن يكون بصبغة واحدة ويحمل اسمًا عنصريًّا لفئة واحدة، إن كانت هذه الفئة تَدّعي وصلاً بالأقوام القديمة التي أسست أول مكتبة في التاريخ، أو أولئك الذين نزحوا له مؤخرًا بحيث لم نجد لهم منجزًا كتابيًّا يعتد به حتى صعود نجم هتلر. جمعت الكثير من أحاديثنا عبر المرسال “الماسنجر” بعد استئذانها، وكانت تلك الأحاديث فيها معلومات كثيرة عنها وعن الأدب عمومًا، وعن معاناتها في باريس وشجاعتها بترك باريس والاستقرار بعمّان، مُستغنيةً عن اللجوء الذي وجدت فيه إساءة لها ككاتبة مبدعة تعتز بإنسانيتها وتعي قيمتها، ولكن الذاكرة المحمولة (هارد درايف) احترقت نتيجة ربطي غلطًا لموصلتها الكهربائية، فأضعت معها ملفات كثيرة، منها كتابات لي، لكن تواصلي مع الكاتبة لطفية الدليمي لم يخفت، وبقيتُ على تواصل معها، أحرص عادة على أن تبدأ هي بالحديث، ليس استعلاءً وترفعًا، فما أنا إلاّ تلميذ في حضرتها، ولكن خجلي وحيائي يمنعاني، وهذا لا يمنع أن أكتب لها رسالة موجزة لأطمئن عليها. تعلمتُ منها الكثير ومازلتُ، ولن أنسى أول لقاء لي بها وكان في عمّان حزيران 2009، دعتني إلى بيتها وأقامت لي وليمة لا يمكن نسيانها، فبفضلها تناولت سمكًا بغداديًّا “مسقوفًا”، وكان صحن الدولمة وصحون المقبلات وكلامها في كل دقيقة وأخرى، هذه السلطة ممتازة ذقها، لا تأكل الخبز ولا الرز مع السمك، تناول هذه القطعة.. إلى آخر هذه الجمل التي أشعرتني أنني أقابل أمي بعد غياب طويل، فأنا كنت في حضرة أم ولم أكن في حضرة صديقة أديبة وكاتبة مبدعة كبيرة فقط، ثم تكررت اللقاءات في الأعوام 2010 و2011 و2012، ففي كل زيارة لي لعَمّانَ أحرص على زيارتها، وهي تحرص على لقائي، وهي صفة كريمة تتميز بها، فالكبير والكريم مَن يُشعر الآخر أنه نده وصنوه وصديقه ولا يُشعره أنه الكبير والنجم المشهور، وعلى الآخر أن يعي هذا، كما حصل معي حين جمعتني الظروف بشخصية عراقية كنتُ أراها نجمًا يستحق الإشادة به، وكان ينطبق على هذه الشخصية المقولة المعروفة “تسمع بالمُعيدي خير من أن تراه” فلم تصقل المنافي والعمر والكتب والسفر الكثير والتنقل والكتابة هذه الشخصية التي هي إحدى ضحايا نظام صدام حسين، ولكنها في الحقيقة صورة أخرى لمثالبه، شخصية تختلف تمامًا عن شخصية لطفية الدليمي الأم والصديقة حين تتعامل معها، فتعامل لطفية معي ومع غيري من خلال الحديث عن المبدعين العراقيين الشباب هو نظرة إعجاب بما يكتبون، وحين تختلف تنتقدهم من باب أنهم كبار، رغم أن أغلبهم يصغرها بأكثر من ربع قرن، عكس تلك الشخصية التي كلما تواصلتُ مع لطفية الدليمي تذكرتُها، فهي نقيض تام لها، فلا يوجد أَسْوَأ من الإلغاء والإقصاء والتزوير والغرور.

لطفية الدليمي كاتبة مبدعة تعلمت منها الكثير، ولا أكتم سروري أنني أعيش في زمن فيه كل هذا العدد الكبير من المبدعين العراقيين الذين تعلمت منهم، وأن غالبيتهم منحوني محبتهم وصداقتهم ولو عبر الكتابة والإبداع.

تحية للطفية الدليمي في عيد ميلادها السبعين.
____________
* شاعر من العراق يعيش في الإكوادور ./(العالم)

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *