زينب حفني في روايتها ” وسادة لحبك “..!



محمد معتصم
الخطاب الروائي والمرأة والمجتمع

تُنْهِي زينب حفني روايتها ‘وسادة لحبك’ بكلمات أغنية المطرب طلال مداح يمتدح فيها بلاده ويجهر فيها بحبه وتعلقه بالديار ومراتع الطفولة، تقول الكلمات:’ وطني الحبيب لا أحب سواه. وطني الذي عشت تحت سمائه. وهو الذي قد عشت تحت رباه. منذ الطفولة قد عشقت ربوعه. إني أحب سهوله ورُباه’. ص (151)، لكن المفارقة تأتي لاحقا في الجزء الثاني من الرواية الذي منحته عنوانا جاء في صيغة السؤال دون أن يبتعد عن دائرة المعنى العام للرواية في جزئها الأول ‘هل أتاك حديثي؟’، تكمنُ المفارقة في كون الوطن الذي نعشقه ونفنى في محبته يستقبل الحب بالعكس فيبادل المحب قسوة وجفاء، كيف؟
يتأسس محكي فاطمة وجعفر في الجزء الأول ‘وسادة لحبك’ على الأمل والحب، فبعد تجربة الوحدة وقسوتها تتعثر فاطمة بحب جديد ينسيها غربة الذات، هكذا يكون محكي فاطمة مسارا سرديا بهيجا حافلا بالمعرفة والحب وامتلاء الذات بالسعادة الفردية، لكنه في الجزء الثاني ‘هل أتاك حديثي؟’ يتحول على مستوى البنية وعلى مستوى الدلالة؛ من حيث بنيته يتحول محكي فاطمة من محكي إطار [رئيسي] إلى محكي فرعي وثانوي ضمن محكي إطار آخر هو محكي فائزة، ومن حيث الدلالة يتحول إلى مأساة وفاجعة تكشف عن اختلالات بنيوية عميقة في المجتمع، ومظهر المأساة الخلاف العقائدي بين المذهب السني والمذهب الشيعي، فشخصية فاطمة سنية بينما جعفر شيعي، والمجتمع [السعودي] يرفض الاعتراف بالزواج بين المذهبين ولا يعترف بشرعيته.

ييجلى المأساة في مستويات عديدة:
تشبث فاطمة وجعفر بحبهما،
رفض أخ فاطمة الاعتراف بالزواج،
نجم عنه سجن فاطمة،
تعرض فاطمة الاضطهاد والاستغلال الجنسي داخل سجن النساء،
وضع فاطمة لمولود كان ثمرة زواجها من جعفر ضدا على الأعراف،
وفاة فاطمة وحيدة داخل السجن،
تمسك جعفر بذكرى فاطمة والخوف من خوض تجربة جديدة مماثلة أمام صلابة الواقع.
يعد محكي فاطمة وجعفر الخيط الناظم لموضوعات الروايتين، وتعد موضوعة الخلاف العقائدي بين المذهبين السني والشيعي الموضوعة الأساسية في الروايتين، إلا أن الكاتبة لم تقف عند هذه القضية المذهبية وآثارها على العلاقات العاطفية والاجتماعية بل تطرقت إلى قضية أخرى محورية في جل أعمالها وهي وضعية المرأة المطلقة والأرملة في المجتمعات العربية التقليدية بناء ووعيا، أي على مستوى الأفراد وعلى مستوى المؤسسات الاجتماعية.
تبعا لذلك نجد شخصية المرأة مهيمنة على السرد، سواء أكانت ساردا شاهدا على حياة شخصيات أخرى متخيلة مشاركة أو كانت شخصية متخيلة غير مشاركة، أي أنها لا تنتج خطابها ومحكيها السردي بذاتها بل يتم نقل محكيها عبر قناة سردية أو قنوات أخرى؛ من قِبَلِ ساردين خارجيين آخرين. الشخصية المحورية في الجزء الثاني من رواية ‘هل أتاك حديثي؟’ منحتها الكاتبة اسم ‘فائزة’ وهي الشخصية المحورية والسارد في آن، سارد يبني محكيا إطارا يضم إليه باقي المحكيات الصغرى التامة والمحكيات الأصغر غير التامة المؤثثة للفضاء الروائي، وهي سارد خارجي يروي قضايا اجتماعية وسياسية خارجية وعن سلوك ثقافي واجتماعي مسكوت عنه، والأهم أن الخطاب والقضايا تطرح من وجهة نظر امرأة، تبدو مرة وجهة نظر نسائية وأخرى نسوية مؤطرة بفكرة مسبقة عن الرجل وعن المجتمع.
من القضايا الخارج نصية التي اعتمدتها الساردة في بناء محكي فائزة وفي تحديد السياق زمنيا ومكانيا؛ الانتفاضة والثورة المصرية من أجل الكرامة والحرية، ويتحدد محكي فائزة على مستوى الخطاب ببداية الانتفاضة وتجمع المتظاهرين بميدان التحرير ورصدها للحراك السياسي ووحدة المشاعر وتآلفها وتضامنها ضد كل أشكال التدخل لإفشال الحركة الشبابية العفوية ثم تطورها إلى ثورة على رموز ومؤسسات النظام السياسي السابق في مصر، لكن المحكي على مستوى القصة فيمتد إلى طفولة فائزة الأولى كمحكي استرجاعي ثم يلتقي بالخطاب في نقطة محددة وهي ذات دلالة وتأثير على المسار السردي برمته، تتحدد في المقتطف الآتي:’ شعور بالكآبة يتملكني منذ أن فتحت عيني هذا الصباح. تاريخ اليوم يوافق الذكرى السنوية الخامسة لوفاة أمي. حمدت الله أنها لم تذق مرارة طلاقي. ظللت أنا وأختي تهاني محور حياتها إلى أن ذهبت إلى بارئها.’ ص (7)
إذن، محكي فائزة عن الطفولة الأولى ليس إلا محكيا مسترجعا لترميم الحكاية الإطار، وإبراز ‘العلة’ الخارجية والمنطقية التي تلحم مقاطع المحكي وتؤلف بين فضائيه؛ الفضاء الخارج نصِّي في الواقع الذي تفرضه الظروف السياسية التي مرت وتمر بها مصر، والفضاء النصي المتخيل الذي يتطور في سياق تطور السرد وتنامي أحداثه كما تقدر ذلك قصدية الكاتبة، والفضاءان هما: مصر/القاهرة والمملكة العربية السعودية/جدة، وفيهما تقع أغلب أحداث رواية ‘هل أتاك حديثي؟’ بالإضافة إلى فضاء ثالث له سياقه السردي كذلك وهو فضاء إنجلترا/ لندن، هكذا يكون الجزء الثاني من رواية زينب حفني قد وسع من فضاء السرد الذي كان محصورا في الجزء الأول من الرواية ‘وسادة لحبك’ في المملكة العربية السعودية/ جدة ولبنان/ بيروت. وتوسيع المكان يشترط توسيع دائرة الزمان السردي، حتى لا يبدو محكي فاطمة وجعفر في الرواية الأولى موازيا لمحكي فائزة في الرواية الثانية ومتزامنا معه في آن.
أما المقتطف السردي أعلاه، فيؤكد على الصيغة السردية التي دأبت عليها الكاتبة في أعمالها الروائية، وهي بناء السرد بناء متواترا وتداخل محكياته ومقاطعه السردية لا يميل إلى التركيب والتعقيد بل يجنح عادة إلى الوضوح، لأن الخطاب اروائي لدى زينب حفني منشغل أكثر بالمضامين بتأثيث المعنى لا الشكل الظاهر، ولهذا نجد رواياتها تنهض عادة على فكرة أو موقف أو ظاهرة، ولم تحد عن هذا الاختيار المبدئي في روايتيها ‘وسادة لحبك’ و’هل أتاك حديثي؟’.
في روايتها الجديدة ‘هل أتاك حديثي؟’ تبرز ثلاث قضايا مختلفة الأبعاد، وهي:
الخلاف الفقهي والمذهبي بين السنة والشيعة وآثاره على الحياة الاجتماعية والثقافية وامتداداته السياسية وإلى سلوك الأفراد والحياة العامة والخيارات الشخصية (الحريات الشخصية).
الانتفاضة والثورة في مصر ومسألة الحق في الكرامة والحرية، والانفجار العفوي للكتل المستضعفة ضدا على التخاذل والاستسلام الذي شل روح المقاومة والمعارضة وحولها من طاقة مراقبة وفاعلة وموجهة إلى سلطة خطابية ولسانية. وهو ما دلت عليه نتائج الانتفاضات والثورات في العالم العربي.
وضعية المرأة المطلقة والأرملة في المجتمعات العربية، وكشف النقاب عن التفاوت الشنيع بين الخطاب والممارسة، خطابات التحرر والتجدد والتغير والتطور على مستوى القول الفكري والأدبي والثقافي والسياسي والممارسة التقليدية حبيسة الفكر التقليدي المتعصب للرأي الواحد والرافض لكل محاولات التأمل والتفكير والتأويل الجديدة بما يناسب أفق الخطابات المزعومة وروح العصر. أي أن الخطابات يقف مداها عند حدود العادات والتقاليد والتأويل والتفسير العقائدي في قرون سالفة مختلفة.
النفاق الاجتماعي وتستر الأسر على عيوب الزواج، كما تصفه الرواية عبر محكي صافي وابن عمها هشام، والقضية المتستر عنها، الشذوذ الجنسي، تحت ستار الحياء والحشمة والفضيحة.
التصوف كملجأ وملاذ لطمأنينة الروح المنتفضة لكن العاجزة أمام صلابة الواقع/ المجتمع بعاداته وتقاليده وأعرافه وخطاباته المجوفة الرنانة، وتعقد الحياة المعاصرة وتشعب الخيارات بين الخوف من مغامرة الخروج عن المألوف والعادي إلى الجديد الذي تبين أنه هو ذاته محكوم بقوى خارجية متسلطة لها مقاصدها حساباتها المركبة الأبعاد. وهذا المظهر ‘اللجوء إلى التصوف أو العزلة الذاتية’ من مظاهر الرواية العربية الجديدة، ولا يمكن قراءته إلا من زاوية ‘الصدمة’ التي يعيشها الفكر والمجمع العربيين.
تعدد القضايا التي تطرحها رواية زينب حفني ‘هل أتاك حديثي؟’ قاد السرد نحو تعدد في المحكيات، وهي تتوزع بين محكي إطار يمثله محكي فائزة، وقد جاء على النظام السردي التالي:
فائزة في بيت والديها (محكي الطفولة المسترجع)،
فائزة في بيت الزوجية (الطمأنينة، الغيرة ثم الطلاق)،
فائزة بعد الطلاق (الوحدة، الوعكة الصحية ثم زيارة الطبيبة النفسانية)،
فائزة وجعفر (حب من طرف واحد/ الفشل)
فائزة والشاب المصري بلندن (بوح واعتراف)
فائزة وابناها أحمد ومحمد (الفرح والطمأنينة/ عودة المحكي إلى بنيته الأولى)
وتتكون أيضا من محكيات صغيرة تامة وهي متعددة، أهمها:
محكي فاطمة وجعفر، وهو محكي مسترجع لكن وظيفته الأساسية بناء لحمة السرد السابق في الجزء الأول ‘وسادة لحبك’ باللاحق في ‘هل أتاك حديثي؟’، وقد منحته الساردة امتدادا وتجددا من خلال محكي فائزة وجعفر، تشابك الخيوط والروابط العاطفية بينهما من جهة فائزة تحديدا، إلا أن جعفر فضل التحصن بذكرى فاطمة حتى لا يخوض تجربة الألم مجدد ما دام الخلاف بين المذهبين قائما ولا يسمح بالزواج بين سنية وشيعي.
محكي تهاني، الأخت الصغرى لفائزة ومحنتها مع زوجها الديبلوماسي بعدما أقعده المرض.
محكي صافي وابن عمها هشام الذي كشف عمق مؤسسة الزواج في المجتمعات التقليدية.
محكي صافي ورأفت، الذي يرسخ فكرة المأساة والحس الفجائعي في مسار حياة صافيناز….
لم يؤثر تعدد الفضاء وتعدد المحكيات وتعدد القضايا على الصيغة الروائية التي اختارتها الكاتبة في جل رواياتها، وهو ما يستدل منه على أن الرواية عند زينب حفني ليست تجريبا شكليا، بل هي موقف ورسالة اجتماعية وسياسية وفكرية تشارك بها في إجلاء الرؤية أمام أبناء جيلها على حقيقة الواقع والمجتمع الذي تعيشه ويعيشونه.


حفني، زينب: وسادة لحبك. دار الساقي. ط1. 2011م
حفني، زينب: هل أتاك حديثي؟. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1. 2012م


( القدس العربي )

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *