عبدالله القاسمي:الثورة لم تنتج أي قصيدة مهمة


* حوار: نور الدين بالطيب

الثورة لم تنتج نصوصا مهمة وشعراء أكلوا على موائد الثورة مثلما أكلوا على موائد بورقيبة وبن علي والقصيدة هي احتفاء بالتفاصيل الصغيرة .

كان عبدالله مالك القاسمي طيلة سنوات من سكان باب البحر وضواحيه، متنقلا بـ «جثته» من مقهى الزنوج الى اتحاد الكتاب ولينفار وفلورانس والروتندة… منشدا قصائده الهاربة مثل العصافير الحمام غير عابئ بضجيج. 
الان، خفت صوت عبدالله واصبح اكثر حزنا وحكمة وعزلة لكنه اكثر وفاء الى الشعر اكثر من ذي قبل. التقيناه وكان هذا الحوار معه.
أين اختفى عبدالله مالك؟
من الوهلة الأولى، يبدو سؤالك غريبا باعتبار أني موجود و لم اندثر تماما من الجغرافيا، وان كنت من الحيوانات المهددة بالانقراض،كغيري من الأشباه البشرية.!! فأنا موجود إذن، وظاهر للقراء من خلال ركن «تداعيات» نافذتي الأسبوعية بجريدة الأخبار، التي اطل منها على العالم منذ 30 سنة تقريبا ولكن سؤالك لا يبدو غريبا ،إذا ما اعتبرت الاختفاء هو التغيب عن المنتديات الأدبية والمقاهي والساحات العامة… صحيح أني بهذا المعنى، اختفيت وانزويت في بيتي بعيدا عن الضجيج العمومي واللغط الهمجي والغبار العالي
الى وقت قريب كنت من أمراء الليل في باب البحر، ثم اختفيت ،هل ملّ عبدالله مالك القاسمي الشعر والشعراء؟
فعلا كنت ومازلت من محبّي الحياة والمغرمين بها ومن عشاقها، ولا أتصور أن شاعرا يكتب قصيدة ما ،بمعنى يتنفسها وينبض بها، ويعيشها بكل حواسه، يكون غير مهتم بالحياة وإيقاعاتها وألوانها وظلالها، لست شاعر فكرة أو مضمون أو رسالة أو إيديولوجيا، لا، أنا أكتب تجربتي الخاصة ،الحياتية المعيشية بالأساس، وإذا كانت التجربة المعيشية تستل عناصرها ومادتها الأولى من الواقع، فإنها لابد أن تحمل جزءا من ثقافة هذا الواقع وأن تنقل صورة عنه، لا تعكسه بالضرورة، بل تصنعه ،فتصبح القصيدة هي الواقع الجديد، فكنت تراني امشي في القصيدة أو ترى القصيدة تأتيني الى باب البحر في أوقات متأخرة من الليل، لتسهر معي وتشرب قهوتها.
صحيح لقد ابتعدت قليلا عن أجواء العاصمة للأسباب التي ذكرتها وبقيت مرابطا ببيتي في مرتفعات جبل عمار هناك اطل على مراتعي القديمة، هل يمكن أن أملّ الشعر والشعراء ؟، ربما، حين اكون مفرغا من الأحاسيس، حين تعبرني الصحراء فلا أجد ما يكفي من ماء اروي به عطش الروح أو ما يكفي من طيور لسمائي القاحلة فأهجر الشعر أو هو يهجرني، ولكن عند سطوع أول شعاع للشمس على شرفات الفجر يعود لي الأمل وتعود لي الحياة من جديد فاستقبلها مرحبا ومبتهجا وتكون القصيدة، اما الشعراء فاني مازلت احتفظ ببعض بالتقدير والاحترام لبعضهم، من الذين لم يركبوا الثورةو لم يتزاحموا على موائد وولائم الطائفة السياسية الجديدة حكومة ومعارضة كما فعلوا مع كل الأنظمة السابقة، أعرف والكل يعرف، بعض الشعراء مثل بعض السياسيين، من استفاد من العهد البورقيبي ومن عهد بن علي ومن الثورة مستعملين نفس الدهاء ونفس الانتهازية ونفس العهر الأخلاقي والفكري لتقمص دور الضحية الأبدية.
لم نقرأ لك شيئا عن الثورة طيلة عامين هل هو موقف؟
اعتقد أن كل كتابة هي تعبير عن عدم رضى وإعلان عصيان وتمرد، كل كتابة هي حالة من عدم الانسجام وعدم قبول بالأمر الواقع، واقع يرفضه الشاعر ويريد تغييره وهي بهذا المعني تكون الكتابة فعلا انقلابيا وثوريا، وإلا ما معنى أن يكتب الشاعر ولا يكتب الإنسان العادي،الفرق بينهما أن الشاعر يكتب ما يحس به بينما الإنسان العادي لا يكتب ما يحس به بل ربما يترجمه الى أفعال في الواقع.
صحيح أن الثورة التونسية حصلت يوم 14 جانفي 2011 لكن سبقتها نضالات سياسية واجتماعية وثقافية تراكمت على مدى عقود لتبلغ مرحلة الغليان والاحتقان ثم الانفجار ، ولئن كانت نضالات السياسيين ونشطاء المجتمع المدني والحقوقيين بارزة للعيان من خلال السجون والمنافي والتعذيب والملاحقات، فان للمثقفين، كتابا وشعراء ومسرحيين وفنانين ومبدعين في كل المجالات إسهامات خفية تساهم في التعبئة النفسية والمعنوية وفي تهيئة المناخات لتحقيق الثورة والرفع من منسوبها الشعبي، ولئن كانت البندقية هي التي تصنع النصر فللإبداع أساليبه وإمكانياته وأدواته الجمالية والفنية التي تحرض وتساعد على إسقاط الدكتاتوريات كما وقع في الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر.
في تونس الثورة لم تصنعها البندقية ولم تصنعها النخب السياسية والفكرية وانما صنعتها الدماء الحارة والصدور العارية.
انا لم اكتب قصائد تحمل مضامين سياسية او ايديولوجية مباشرة، كانت قصيدتي دائما منذ ،عصر الإيديولوجية الأول، عندما كان الشعر في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، خطابا إيديولوجيا أو لا يكون ، كانت قصيدتي، متمردة على عصرها، لا تنخرط فيه ولا تسقط في مستنقعاته بقيت قصيدة عذراء، متغنجة محتشمة وشبه متحجبة، غير سافرة ومتبرجة، تلمح ولا تصرح، تعيش واقعها ولا تتوهمه أو تتخيله، ومازالت هذه القصيدة غير منفصلة عن واقعها تماما، كنت أحياها كما قلت بكل جوارحها ولا أتخيلها على الورق كما يفعل العديد من الشعراء، لا استطيع ان اكتب مثلا عن حالات لم أعشها ولم انغمس فيها، ان قدراتي التخيلية ضعيفة جدا فلا استطيع أن أتخيل أمرا أو حالة أو مشهدا لم أره من قبل، فانا على رأي الشاعر الفرنسي «مالا رميه» الشعر يكتب بالكلمات لا بالأفكار
ولأني عشت هذه الثورة، ـ رغم المشككين في صحتها ـ، فأني اعتقد انها ثورة وليست انتفاضة او انقلابا او تمردا ،فاني كتبت بعض القصائد كما عشتها واقعا وليس نزقا او ترفا ثوريا هي ليست قصائد مواضيع بل كما كان يقول د. محمد صالح بن عمر هي «قصائد مناخ» تلك التي تتداخل فيها المعاني الحافة والرموز كهيئة شبكات من الحقول الدلالية والمعجمية أي قصائد وفية لأسلوبها السابق نفس الأسلوب الإيحائي والإيمائي الذي مازلت اكتب به أي الأسلوب الذي يعتمد الهمس والخفوت والهدوء بعيدا عن صراخ البيانات واستعراضات المناشير الثورية ولذلك لم اتعمد المتاجرة بهذه القصائد ولا التظاهر بها، فقط نشرت البعض منها في جريدتي الأخبار، في ركن تداعيات وعلى صفحتي في الفايسبوك دون دعاية ودون ضحيج يذكر.
كيف تقيم نصوص الثورة الى حد الآن؟
كل القصائد التي كتبت عن الثورة التونسية خلال السنتين الفارطتين والتي سمحت لي الظروف بقراءتها غير جديرة بالقراءة قد تكون هناك قصائد أخرى في المستوى لم اطلع عليها ولكني اشكك في جودتها لأن الإبداع رغم حالته الانفعالية المباشرة وتلقائيته وعفويته وصدقه ومواكبته للأحداث الساخنة فانه يحتاج الى الاختمار والشحن الذهني والامتلاء الروحي قد تكون القصائد التي كتبت عن الثورة صادقة وعفوية ونيتها حسنة فان ذلك لا يكفي لكي تكون القصائد ذات قيمة شعرية فنية وجمالية جيدة وعالية ان عنصر الزمن مهم بل وضروري أحيانا حتى في الحالات الخاصة والحميمة مثلما حصل للشاعر الفرنسي فيكتور هيجو الذي انتظر ثمانية أشهر كاملة لرثاء ابنته , حتى القصائد التي كتبتها لا اعتبرها منتهية بل هي محاولات أولى للتمرين على كتابة قصيدة الثورة… قد اكتبها في يوم من الأيام وقد لا أكتبها لست مستعجلا ولا مهتما..
اعتقد ان السنوات القادمة ستظهر بعض الأعمال الابداعية الناضجة والمهمة في الشعر والمسرح والسينما والقصة والرواية وغيرها وليس مثل هذه الاعمال الشعرية والمسرحية والسينمائية والغنائية الرائجة الآن وهي إعمال جلها مستعجلة ومتسرعة ومتشنجة ذات طابع انتهازي واضح وصارخ.
سنوات مضت لم نقرأ لك مجموعة شعرية هل هي أزمة نشر ام اختيار منك؟
آخر مجموعة شعرية صدرت لي في أواخر 2006 بعنوان قصائد للمطر الأخير ولكن بعدها كتبت العديد من القصائد وهي مجمعة لدي الآن ويمكن اصدارها في مجموعة جديدة ولكني لا أنوي في الوقت الحاضر فعل ذلك لأني أحسست وبشكل قاطع وبالتجربة ان لا فائدة من إصدار مجموعة شعرية في زمن عز فيه القارئ لقد اكتشفت أن النشر على صفحات الفايسبوك أسرع وأسهل واقرب لتفاعل الناس وأكثر انتشارا وأكثر رواجا، اعرف انه ليس الحل الأمثل لكني استعمله الآن لنشر العديد من القصائد التى وجدت تفاعلا مع المتصفحين للمواقع الاجتماعية.
كيف تقرأ مستقبل تونس ؟ هل أنت متفائل؟
لقد فوجئت هذه الأيام بحفلات «هارلم شايك» الراقصة تعم المعاهد الثانوية والساحات فبعد أن كانت هذه الرقصات مستهجنة لأنها غير أخلاقية وربما إباحية حسب منتقديها فان رد وزارة التربية بطرد مديرة معهد الإمام مسلم بالمنزه أين وقع الحفل جعل هذه الرقصة تنتشر في كامل تراب الجمهورية حيث أصبح الرد على قرار الوزير هو الرقص وليس العنف او الفوضى او الإضراب كم تمنيت ان يستعمل الفن وحده كوسيلة احتجاج للرد على أي موقف معارض فإذا كان هذا الرد الإبداعي السلمي هو المعتمد في التصدي للرأي المخالف فأنا متفائل بمستقبل تونس اذا تمشت في هذا الدرب السلمي المتحضر والمتمدن ولكني أخشى لا قدر الله من ردود الفعل التي يمكن أن تحصل من تبعات الهرلم شايك لآن التطرف يقود الى التطرف والشيء اذا بلغ حده ينقلب الى ضده.
عبد الله مالك القاسمي
من مواليد عام 1950 في تونس
اشتغل موظفا في وزارة الفلاحة ثم في وزارة الداخلية .
انتقل للعمل في اتحاد الكتاب التونسيين
اهتم بالصحافة فأشرف على بعض الملاحق الثقافية فيها.
عضو اتحاد الكتاب التونسيين منذ بداية الثمانينات.
صدر له من الكتب :
لغة الأغصان المختلفة (شعر بالاشتراك) الأخلاء تونس 1983 .
مهرجان : (مسرحية شعرية للاطفال) تونس 1989 .
هذه الجثة لي ( شعر) الدار التونسية للنشر 1992 .
حالات الرجل الغانم ( شعر) مكتبة الكتاب تازركة تونس1999
قصائد للمطر الأخير 2006
( المصدر : الموسوعة الكبرى للشعراء العرب )
____________
* عن الشروق التونسية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *