” سلطانات الرمل ” والرواية المعرفية




أمير تاج السر *
( ثقافات )

( أيضاً للأسماء عندهم وظيفة بعينها، تستعيد روائح عابرة لقارات الزمن الفسيحة، كما خيولهم حين يسمونها أحيانا بأسماء عاتية مثل: ومضاء، وهيجاء، أيضاً لأسمائهم معجم يصعب على الحضر لفظه: مجحم، معجون، شْلاش، ذْعَار)
كان هذا مقطعا صغيرا من رواية سلطانات الرمل، التي قرأتها مؤخرا للكاتبة السورية لينا هويان الحسن، وهي رواية صيغت عن حياة البدو، ابتداء من عاداتهم وتقاليدهم وتعاملهم مع الصحراء خضراء أو جافة، إلى طقوس حلهم وترحالهم، وتعاملهم مع المرأة وزواجهم وختان أبنائهم، وأسمائهم ومعانيها، وكل ما يمكن أن يشكل عالما شديد الخصوصية، وغير معروف إطلاقا إلا في شذرات تكتب أحيانا هنا وهناك. ولأن لينا ابنة ذلك المكان، وخبرته جيدا، استطاع نصها أن يبدو نصا خبيرا في تحريه ورصده، وصياغته للأحداث معجونة بعطر المكان كله.
فأثناء قراءتك للرواية، لا تستطيع إلا أن تبدو بدويا، ومنتميا للعشيرة، ومرتديا طقوسها، وتتحاوم بين الخيام المنصوبة لاصطياد الطقوس أو تلك القصور التي يسكنها كبار العشيرة، ويديرون منها شؤون الصحراء. ثمة إشارات مكثفة لعالم الصيد، للغناء في الليالي المقمرة، للحب والخيانة والغيرة التي تسكن القلوب، وأيضا للموت الذي يترصد هنا وهناك، وبقلم أعتبره رشيقا للغاية، تحول التاريخ المتخيل إلى متعة حقيقية.
هذا النوع من الكتابة، أستطيع أن أسميه الرواية المعرفية، أي الرواية التي تكتب كرواية، بشخوص وتحركات، وتصاعد درامي، وفي نفس الوقت، تدس في داخلها معرفة للقارئ، ربما لا يستطيع الحصول عليها إلا في تلك الكتب عن حضارات الشعوب، والتي ربما يمل قراءتها، بعكس النص الأدبي الذي يعطيك متعة متابعة تشويقه حتى النهاية، وتخرج وقد ارتديت ثيابا جديدة للمعرفة، بقصد من الكاتب أو من دون قصد، وفي كتابتنا العربية قليل من هذه النصوص، إذا ما قورن الأمر بكتابات الشعوب الأخرى.
مثلا عالم الصيد والصقور، أنواع الطيور التي توجد في المكان، طريقة الاحتفاء بالغريب وإكرامه، طريقة الزواج ومواثيق الطلاق، وكل ذلك، تستطيع أن تعثر عليه بلا عناء.
على أن الرواية، لا تكتفي بهذا العالم وحده، وإنما أيضا تنزاح إلى المدينة في أجيال لم تترك الصحراء نهائيا، وإنما شكلت لها المدينة وجهة أخرى، هي أيضا انعكاس لصحراء تسكن في الداخل ولا تبارح القلب لغة الكتابة كذلك كانت مختلفة، إنها لغة متنوعة بتنوع المواقف، حريرية في المقاطع الحريرية، ونازفة حين يستوجب النزيف، وخشنة جدا في مواقف الرجولة الصحراوية التي تكتب من حين لآخر.
إذن نحن أمام رواية مختلفة، لا تتبع خط الروايات التي نقرأها باستمرار، ولكن تصنع خطها الخاص، ولا نستطيع إدراجها من ضمن أدب الصحراء الذي قام إبراهيم الكوني بكتابته على مدى عقود، فالكوني تحدث كثيرا عن الأساطير وركز على ميثولجيا بعيدة، ومندثرة، بعكس لينا التي تكتب الصحراء كما هي، والتي ما زال يعيشها الكثيرون في كل مكان قاحل نظريا في الوطن العربي، وممتلئ معرفيا إذا ما غصنا فيه بحنكة، ولعل الكاتبة تستطيع أن تخص هذا العالم بمزيد من الإضاءات في المستقبل، مهتدية بما سطرته في سلطانات الرمل، ولا أشك أن ذلك سيحدث مستقبلا..



* روائي من السودان

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *