* فؤاد اليزيد السني
(ثقافات)
النص الكامل
استبشرت خيرا بثورة الياسمين، التي أطاحت بأول طاغية من مصاصي دماء شعبه المستضعف، والمهدور الكرامة. استبشرت واستفتحت، وعدت إلى حياتي الروتينية المعتادة، تحت سماء بروكسيل الرمادية، وأنا جد مفتون، بما حصل لي، من مشاهدات ورؤى خارقة وعجيبة، عقب أحداث ثورة 14 يناير بتونس الحبيبة. ومرت علي بضعة أيام، إن لم أقل أكثر، وأنا ما زلت هكذا، عالقا ما بين الحلم المُرتَجى، واليقظة الواقعية المُرّة. وجاء ذاك اليوم القاصم لظهر البعير، وسقطت القشة على متن الحيوان الخرافي فكسرت ضلوعه الوهمية، وسقطت بالمناسبة وافتضحت، كل تلك “الفزّاعات الإسلاموية”، والإرهابية، المنصوبة من قبل حكام الفساد، في ربوع المدن العربية، وسقط معها بالمناسبة، جدار الخوف العربي. لقد كان يومها يوم جمعة، الموافق ل25 من شهر يناير، من التقويم الشمسي. وكان الوقت صباحا، لهذه الجمعة المرتقب فيها، تقاطر الملايين من أبناء مصر العزيزة، على ميدان التحرير، للتعجيل بإسقاط نظام الطاغية الفاسد، حسني مبارك. وكنت حينها واقفا على الرصيف رقم (2)، في انتظار قدوم القطار المتجه إلى بروكسيل العاصمة. كنت شاردا نوعا ما، وإذا بغمامة زرقاء تتخطفني، فما شعرت إلاّ وأنا محمول على متن طبق طيار، صحبة ملاك تعرفت في قسماته فورا، على الملاك “منصور البُراقي”، الذي كان قد أقلني في سفرتي المِعْراجِيّة السابقة إلى رحاب جنان الغفران. وتعجبت من أمري، وأنا غير مصدق بالمرة، بتكرار هذا الحدث الإعجازي، وبصحبة الملاك نفسه. وإذا بصوت الملاك المتميزة نبراته، عن نبرات أصواتنا نحن البشر يخاطبني قائلا:
مرحبا بك يا أبا اليزيد، فهذا اليوم له شأنه في تاريخ الأمة العربية !
وتلا متمثلا بقوله تعالى من كتابه العزيز:
” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.” صدق الله العظيم.
وابتسم في وجهي ابتسامة المنتصر، وأشار بسبابته نحو الشاشة العريضة لمركبتنا الفضائية، فدهشت من رؤيتي لمحطة نزول، مزدانة بعدد لا يحصى، من الشعل الشُّهُبِيّة، المختلفة الألوان. وحين هممت باستفساره، جاءني رده تلقائيا:
لقد انتهت سفرتنا الخارجة عن الزمن البشري الطبيعي، وهذه المحطة البُراقِية التي تشهدها أمامك، تدعى عندنا ب”ذات الصراط، ألف لام، ميم ” وتلقب عند بعضنا ب”ذات الأنوار”، وهي أقل درجة من المحطة الكبرى التي ندعوها ب”أم البرق، ياسين”، والتي نزل فيها الحبيب المصطفى،خلال رحلته المِعْراجِيَة، التي قادته لغاية سُدْرَةُ المنتهى.
وما هي إلا لحظة غير اللحظات، وإذا بالملاك البُراقي منصور، يسلمني إلى ملاك آخر، كان في انتظاري، قائلا:
هذا مرشدك “نوران” !
واختفى عن نظري في رمشة عين. وكدت أشك فيما يحصل لي، وإذا بمرشدي الجديد “نوران” يطمئنني قائلا:
السلام عليكم، ومرحبا بك عندنا، في هذا اليوم السعيد، الذي لا يشبه الأيام السالفة في شيء.
فقلت له مستفسرا، والدهشة تغمرني:
من ذا الذي سعى في استدعائي ثانية؟
شيخ المعرة، بطبيعة الحال، لأمر جلل قد حدث عندنا، وهو الآن بسبب الحدوث عندكم. وهذا الخلاف، إن أحببت، ناتج عن سبب الفارق الزمني بيننا وبينكم. أو بعبارة أدق، بسبب توقيتكم الزمني النسبي، ولا زمنيتنا نحن، سكان الباقية.
فأجبته قائلا:
سبحان الله ! أنا الذي لم أكد أصدق دعوته لي قبل بضعة أيام.
فأجابني، وهو يلمع ويشع، في بزّته الفضائية المزركشة:
ما على الرسول إلا البلاغ.
وسار بي على متن مركبة زجاجية شفافة، كنا بداخلها وكأننا في جوف قطرة ماء مكبرة. وراحت تطوي بنا الفضاءات، والمجرات الكونية المتناثرة هنا وهناك، ولا هدير محرك يسمع لها، ولا اهتزاز، ولا ذبذبة، فقلت له مندهشا:
ما سر هذه المركبة العجيبة؟
فأجابني كالملاك السابق، متمثلا بقوله تعالى:
” فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق”.
وأضاف قائلا:
سبحان الحي القيوم، ربّي ربّ العزة عما يصفون، بقوله من كتابه العزيز “يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرُجُ إليهم في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون”.
واكتفى بهذه الشهادة الآياتية، الإعجازية. بينما رحت متعجبا في نفسي، وقد خطرت ببالي موسوعة “الفتوحات المكية”، للشيخ محي الدين بن عربي. وبالخصوص، الباب الثامن من المجلد الثاني، المتعلق بمعرفة أرض الحقيقة، وبحارها ومراكبها العجيبة، وخلقها المتفاوتون في البنية والأحوال. وفي هذه اللحظة فقط، من التأمل الداخلي، خطر ببالي، بأن الشيخ محي الدين، قد يكون هو الآخر، ممن جابوا في أسفارهم الروحانية، مثل هذه الآفاق الخارقة. وأدرك الملاك، بحدسه وبعلمه الملائكي، المركبان فيه بحكمة إلهية، ما كان يدور في خلدي، فبادرني قائلا:
نعم أنا من كان في خدمة الشيخ محي الدين بن عربي، إبان زيارته الأخيرة عندنا.
وكما تحدث لدى النائم، تداعيات الصور والرؤى، بدون أي رابط منطقي، أو زمني يربط بينها، وجدت نفسي للحظة، عند مدخل ساحة ميدانية، لا تقدير ممكن لمساحتها اللاّ متناهية، بتقديراتنا الفيزيائية الأرضية. وقد قفل مرشدي الملاك “نوران” سابحا بقطرته المائية، عبر سعة آفاق لا حدود لها. وكان إحساسي الوليد من جراء هذا التحول الفجائي، تسوده الطمأنينة، والهدوء. بل وسكينة ربانية، منبعثة من أعماق روحي، هذه الروح المجهولة، التي تعرفت لأول مرة في حياتها، على طبيعة هذه النعمة الإلهية. إحساس لا يعادله أي إحساس، أو أي ركون وخضوع إلى ملذات شهوانية جسدية. إحساس إذا صح التعبير، باللاّ نهاية التي لا تتحدد بأي مظهر خارجي زائف. إحساس بالتصالح الكوني، مع الإنسان الكامل. وشعور حقيقي، بمعرفة وإدراك ما معنى “الخلود الأبدي”.
وفي غمرة هذه التأملات، النابعة من أعماق روحي الجديدة، ومن إنساني الذي لم أتمكن من سبر أغواره، بهذا العمق من قبل، جاءني الخطاب، من رجل تمثل لي فجأة، على مدخل ساحة الميدان، في هيأة مخلوق تعرفت في قسماته، كما في حلته الفاخرة، على رجل سبق لي والتقيت بِه، في رحلتي السماوية السابقة. وقد سار ماشيا نحوي ومنشدا في آن:
إنما التّهْنِآتُ لِلْأكفاءِ
ولِمَن يُدنّي من البُعَداء
فقلت على البديهة:
أبو الطيب المتنبي !
فأجابني:
وأَسْري في ظَلامِ اللَّيْلِ وَحْدي
كَأَنّي مِنْهُ في قَمَرٍ مُنير
مرحبا بعودتك يا أبا السعود! فهذا يوم نؤرخ له بدمائنا وكرامتنا العربية، التي كان يحسبها العالم بأنها قد مضت بلا رجعة.
فاستفسرته عن هذه الدعوة الفجائية:
أوليس شيخ المعرة هو من دعا في طلبي؟:
بلى، ولكن لأسباب طارئة كلفني باستقبالك، وإخبارك عن سبب هذه الدعوة الفجائية. وبالمناسبة إن شيخنا أبا العلاء كما تعرف، قد راح في مهمة لغوية عاجلة. لقد راح إلى الجنة “العثمانية” مستقصيا لمصادر وأصول مصطلح “البَلْطَجِيّة”، الذي دخل مجتمعكم المدني، كما قاموسكم الجنائي مؤخرا. ولسوف يكون حاضرا معنا في احتفالات عرس هذه الليلة الميدانية الخالدة. ولقد أوصاني أن أطلعك على هذا الحفل المبارك، المتعلق بالمستجدات الثورية على أرض مصر الغالية. نعم تلك البلاد الحبيبة التي قلت فيها زمن كنت من أبناء الفانية:
أَقَمْتُ بِأرضِ مِصرَ فلا ورائي
تخبُّ بيَ الرّكابُ ولا أمامي
ومَلّني الفِراشُ وكان جَنْبي
يملُّ لقاءه في كُلِّ عام
وقليلٌ عائدي سقِمٌ فُؤادي
كَثيرٌ حاسدي صَعْبٌ مُرامي
لقد كنت سقيما حين مقامي بها يومها، ومتذمرا من حكامها الذين كانوا يعيثون فيها فسادا آنذاك. أما اليوم فبعد ثورة شباب “الفيس بوك”، ثورة (ال25 يناير)، ثورة محاربة الفساد، واسترجاع الكرامة، التي لا تساوم على مبدئها، والرأي الحر المسالم، الذي أصبح قادرا على الإطاحة بأكبر حاكم متكبر ومتسلط، فإنني أحمد الله أنني تكهنت بهذا، ونبهت ودعوت إليه في إحدى قصائدي، التي تبنت حكمتها إذاعة الجزيرة، حيث أقول:
الرّأيُ قبلَ شجاعةِ الشُّجعانِ
هو أوّل وهي المحلُّ الثّاني
فإذا هما اجْتَمعا لِنفْسٍ حُرّة
بَلَغت في العَلْياءِ كُلَّ مَكان
ولَرُبّما طَعنَ الفتى أقْرانَه
بالرّأْيِ قبلَ تَطاعُنِ الأَقرانِ
لَوْلا العُقولُ لكانَ أدْنى ضَغيم
أَدْنى إلى شَرَف في الإنْسانِ
كان ينشد، وأنا حال كوني شاردا، ولا ازداد إلا امتنانا بهذه الأبيات الرائعة. وما أن انتهى، حتى أخذني بالأحضان ودموع الكبرياء جارية على شواربه قائلا:
أبشر يا أبا اليزيد، فلقد منّ المولى عز وجل على شباب الكنانة، ومدهم بجنود من عنده، لا يعلم عددها إلا هو. وها هم الآن، وفي هذه الأثناء بالذات، في ميدان التحرير، وقد خرجوا بالملايين، يهتفون بالعهد الجديد للعروبة والإسلام، من بعدما أطاحوا بالطاغية المتكبر العنيد، الذي كان يحسب نفسه بعناده المستميت، من سلالة الفراعنة الخالدين. فلتحيا العروبة والمجد للشهداء !
فتعجبت من تسارع هذه الأحداث، التي تركتها حين سفري إلى هنا، في حيز الإمكان، فقلت له:
والله أنني لم أكن أتصور نبأ سارا مثل هذا، وبمثل هذه السرعة، خصوصا وأن ركائز الحكم الفاسد، كانت تبدو متأهبة للعدوان والإجرام، بكلابها “البَلْطَجِيّة” المسعورة، التي سلطتها على مَدنيّين عزل، وبإذاعاتها الرسمية المسترسلة ليل نهار، في بث الأكاذيب والافتراءات، وبموقف الجيش نفسه، الذي بدا غامضا ومترنحا بين، بين …
وقاطعني قائلا:
“ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين” يا أبا اليزيد. لا تستغرب بسبق الأحداث عندنا، لأننا نعيش خارج دائرتكم الزمنية النسبية. ونحن نعي بحكمة ربانية، خصنا بِها المولى، نحن أبناء الخالدة، وركبها في طبعنا التمثيلي، بحيث أنه بإمكاننا الرُّؤْيَوي الخاص بنا، أن نرى مجريات الأحداث الدنيوية كمتلقين ومتفرجين، قبل حدوثها بزمن طويل عندكم، وهذا فضل ومنحة ألاهية وكرامة لنا نحن سكان الباقية. لا قدرة لنا على التدخل في هذه الأحداث، بل معاينتها فقط. بل إننا لا نتأثر بها مثلكم. وهذه الفرحة التي نبديها حيالها، هي من باب الكرامة العربية الإسلامية، وفضيلتها، التي كنا ذات يوم من أيام الدنيا، من أبنائها. وهي من جهة أخرى، مناسبة للوقوف أمام انتصار الحق والعدالة كما الحكمة الإلهية، التي ألهمنا إياها، ووعدنا ، الذي لا يخلف الميعاد.
ثم توقف فجأة عن الكلام وتطلع إلي متفرسا في قسماتي وقال:
أو ما انتبهت لبزتك المشعة، هذه التي عليك الآن؟
وفوجئت بالفعل وأنا أتفقد أحوالي، ولباسي الجديد الذي لم انتبه إليه من قبل، وحين أردت استفساره بادرني قائلا:
أو لم تحس وتشعر بتبدل روحي في إنسانك؟
بلى ! أجبته، وهذا من لما أسلمني الملاك إلى هذه الخالدة.
كل هذا بسبب البزة المِعْراجِيّة التي عليك. هذه التي ألبسك إياها الملاك “منصور” قبل أن يأتي بك إلى هنا. ومن خاصية هذه البزة السحرية، أن تجعل منك أنت الإنسان الفاني، أنت الذي لم يذق طعم الموت الدنيوي بعد، أن تعيش مؤقتا بيننا، بروح أهل ديارنا الفردوسية، وبكل كمالياتها وملذاتها المطهرة، وبتصوراتها الحاسوبية التي تفوق قدرة كل خيال بشري. وتمثل بقوله تعالى” هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يُسبّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحليم”.
بالفعل، هذا ما شعرت به من لما وعيت روحي بهذه الفضاءات اللّا متناهية.
وأجابني مسترسلا:
سميها ما شئت، نفسا أو روحا، إلا أنها في دقة سرها ومعجزتها الإلهية، لا تشبه باقي النفوس، ولا سائر الأرواح البشرية في شيء. على كل حال، لقد تنحى الطاغية عن الحكم، وها هو ذا فضيلة الشيخ القَرْضاوي الآن، في هذه الجمعة الأرضية المباركة، يؤم بالجماهير المليونية، صلاة جمعة النصر، في ميدان التحرير، تحت كاميرات إذاعة الجزيرة.
سبحان مبدل الأحوال !
نعم لقد استحضرناك يا أبا الخير، لتكون ضيفنا الليلة، وشاهدا بيننا على هذا العرس المثالي، الذي دعوناك إليه، كممثل لكل الدول
العربية السعيدة بهذا النبأ، بل ولكل المعذبين في الأرض المنتظرين لساعة الخلاص والفرج.
وأشار مرشدي أبو الطيب نحو الميدان، وتقدمنا ماشيين جنبا لجنب، نحو الساحة وقد انتشرت فيها الخيام كحبات جواهر تلمع وتشع بملايين من الأطياف القزحية، هنا وهناك. وقد تخللتها ممرات من خالص تربة المسك، وحدائق مزدانة بكل أنواع وفصائل وأشكال، الورود والزهور والرياحين، التي لا يمكن أن يتصورها البال ولا خواطره. وراحت باقات من الشعل الاصطناعية، متفرقعة في فضاءات كوثرية، دونما إحداث لأية ضجة شبيهة بالصخب البشري. راحت تسطع بروقها الملونة على وجوه الحضور، وقد منحتها صفاء ليس بعده صفاء، وجلالا ليس بعده جلال، بهذه النعمة الربانية، نعمة المتعة بالخلود. وفي هذا الليل الميداني المضيء سناه، الذي لا يشبه بقية الليالي عندنا، من حيث أنه يكاد يشرق من صفوته، وسره الخلودي المستحوذ على سحر بهائه، لفت نظري رفيف وحفيف وخفقان حمائمي، لملايين الملايين من الأعلام والرايات والبيارق، البيضاء والخضراء. وشعرت برغبة ملحة في معرفة هذا الاختيار اللوني بالذات، حين بادرني مرشدي المتنبي قائلا،
اللون الأبيض هو رمز للفل والياسمين والنيلوفر، وهو مجازا رمز لثورة السلام العربي القادم. أما اللون الأخضر فهو عنوان للصفاء الإسلامي وروحانيته الخالدة التي تسكن هذا السلام وتؤيده وتسهر على مسيرته العالمية. ولقد كان هذان اللونان رمزا لعلم مصرنا الحبيبة، في منتصف الثلاثينات.
وإذا بقادم جديد، في حلة ملائكية يلتحق بنا قائلا:
يا مرحبا ! يا ألف مرحبا بضيفنا الدنيوي.
وما كدت أتبين بفراستي الشخصية من هو، بادره مرشدي المتنبي:
عيد مبارك يا شيخ المعرة !
وأي عيد يا فارس حمدان ! على كل حال إنه لا يشبه في شيء عيدك الذي قلت عنه:
عيدٌ بأِيّةِ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ
بما مَضى أَمْ لِأَمْرٍ فيكَ تَجْديدُ
وبادر مرشدي المتنبي قائلا:
قد كان ذاك في الدار الفانية، وبين قوم سقطت هممهم لغاية تطيري من عروبتي. أما اليوم فالكلام لضيفنا المعني بالأمر أن يقول لنا شيئا.
فأجبت مرتجلا و ثورة العروبة ما تزال تغلي نيرانها في دمي البشري:
عيدُ الكَرامَةِ على جَبينِ مِصْرَ
قَد أَضْحى لِفَجْرِ العُروبَةِ تَجْديدُ
فَعُدْ كُلَّ يَوْمٍ باللهِ عَلَيْكَ يا فَجْرُ
فَأَرْضُ العُروبَةِ ظَمْأى لَكَ يا عيدُ !
ومِنْ زُرْقَةِ طَنْجَةَ لِخُضْرَةِ الخَليج
قادِمٌ بها ثَوْرَةُ المَجْدِ جيلٌ يُريدُ
===
وعَهْدٌ جَديدٌ لَبّى في تونُسَ النِّداءْ
فأَضْرَمَ البوعزيزي النّارَ في الوقودْ
وفاضَتِ الزّوابِعُ والعَواصِفُ والرّياحْ
فأَسْقَطَتْ أَوْثانَ حُكّام فَسادٍ تَسودْ
بِدايَةً لِجيلٍ جَديدٍ حامِلٍ بالفَلاحْ
أَقْسَمَ العَهْدَ بِالزّحْفِ نَحوَ الخُلودْ
بارك لكم الله في ثورتكم المدنية، يا شباب “الفيس بوك” !
قال لي الشيخ ساخرا، واستدعاني لمصاحبته نحو الميدان لحضور الحفل المليوني. ومشى يتقدمني وروائح العطور المكية تفيض منه، وقد تهندم بحلة مصرية تقليدية، لم تزده إلا بهاء وجلالا، في النظر. وما هي إلا لمحة بصر، حتى تواجدنا ثلاثتنا: وأعني فارس حمدان، شيخ المعرة، وأنا، في وسط ميدان الحفل الفاخر، وقد حفت به مخلوقات لا يعدها إلا الذي خلقها. مخلوقات من مختلف الأجناس والأنواع، وأقصد، من الجن والملائكة والبشر الخالدين. جموع هنا وهناك، ولكن منتظمة في أخلاقيات احتفالية مسالمة ونظيفة. لا تسمع لها لغطا ولا فوضى، بل قيلا .. سلاما .. سلاما. عالم قد ضمخته العطور وزينته حور العين، وشباب قد تصنفهم من بين فتيان الفتوة. بالرغم من كل هذه التجمعات، فإنني كنت أخال نفسي في عالم فارغ بسبب اتساع مساحته، التي ليس لأي نظر بشري أن يحدها. وبسبب اكتسابي لروحي الجديدة المستعارة والمؤقتة، فإنه كان بإمكاني وبحسب رغباتي أن أسافر في تصوراتي وتمثلاتي إلى ما لا نهاية. وكان بإمكاني أيضا، أن أضفي عليها ما شاءت لي رغباتي، من سعة الخيال وآفاقه التصورية اللّا محدودة. وكالداخل في رؤية نبوية، أشار علي شيخ المعرة، بالتقدم نحو مكان خصص لنا، في قلب المنصة الهلالية، التي تتواجد من حيث مركزها، كجوهرة العقد، من هذه الساحة المترامية الأطراف. ولقد فرشت على الطراز العربي، وزينت بفرش بطائنها من استبرق وسرر موضونة قد اتكأت عليها قاصرات الطرف، كأنهن الياقوت والمرجان. واتخذنا مكاننا من بين هذه المخلوقات الحورية المطهرة، اللائي كن مشغولات بنثر الزهور من صحاف ذهبية، ورش ماء الورد، بمزهريات فضية، على كل قادم جديد. فيما راح خدام من الملائكة المأمورين، الذين نعتهم شيخنا ب”البررة”، يطوفون علينا بأباريق من فضة وأكؤس بلورية من معين. وقد تعالت تسبيحات الحمد من هنا وهناك، حتى كدت أحسب نفسي، في يوم مشهود من أيام الحج. وجلست أخيرا، متخذا مجلسي على يمين الشيخ، فيما راح المتنبي في دردشة عاطفية مع إحدى زوجاته من مطهرات أهل الجنة. وتناولت مع الشيخ أطراف الكلام، وفي نفسي كنت أتمثل بتلك الأبيات الشعرية القديمة التي نسيت قائلها:
ولما قَضينا من مِنى كلّ حاجَة
ومسّحَ بالأركانِ من هو ماسِحُ
وشُدّت على هُدُب المَهاري رحالُنا
ولا يَفطِن الغادي للذي هو رائِحُ
أَخَذْنا بِأَطرافِ الأحاديثِ بَيْنَنا
وَسالتْ بِأَعْناقِ المَطيِّ الأباطحُ
وبينما نحن كذلك، وإذا بصوت منادي يطلب من شيخ المعرة، بالتقدم إلى منصة الخطابة، والتفضل بإلقاء خطبته المنتظرة من قبل الجماهير المليونية المنتظرة. وللحين استوى الرجل الحيوي الذي كنت أجاذبه أطراف الحديث عن موسوعته الأدبية، وقد اتخذ له صورة جديدة لشيخ جليل لا تزيده لحيته المشتعلة بياضا إلا وقارا ورزانة في عيون الحضور، وقد اشتعل رأسه شيبا. وتقدم نحو المنبر، وقد أطبقت سكينة ربانية على أجواء الميدان الغاصة، واستفتح قائلا:
بسم الله الرحمن الرحيم، الذي ليس كمثله شيء، والصلاة والسلام على النبي المصطفى خير المرسلين، والعز والديمومة للمؤمنين المجاهدين، والحمد لله الذي أوجد الأشياءَ من عدم عدمه. وأوقف وجودها على توجه كلمه. لنتحقق بذلك سرَّ وقدومِها من قِدمه. ونقف عند هذا التحقيق على ما أعلمنا من صِدقِ قِدَمه.
يا أهالي هذا المقام المحمود ! يا من منحتم نعمة الخلد والأدبية، باسمكم نقيم هذا الحفل الرمزي المليوني، احتفاء بالبعثة العربية الإسلامية الكبرى، المنحدرة منها رسالتنا. إنها ثورة الكرامة من المحيط إلى الخليج. إنها بداية الطريق إلى قدسنا الخالدة. إنها تونس الغراء أمس، ومصر الأبية اليوم، والعراق غدا، وليبيا بعد غد، والبقية آتية بعدها، ولاحقة بها، لا ريب فيها. وإن جنود المولى عز زجل، تتوافد في هذه اللحظة، على جبهات القتال الأرضية، لتشد من سند المجاهدين الذين اشترى منهم الله أنفسهم، وتحبط مؤامرات الحكام الفاسدين، ومن ساندهم من خونة ومرتزقة. أنظروا … !
وتوقف الشيخ الجليل عن الكلام، وأشار بسبابته نحو الفضاء، الذي اشتعل لتوه، منورا بالآلاف من المصابيح الحمراء، وتابع قائلا:
إنها أرواح الشهداء هذه المصابيح التي تشاهدونها الآن، وهي قادمة من الشهيدة ليبيا. فلا حزن ولا خوف ولا ذل، بل الكرامة والشهامة والحرية لشعب الشهيد عمر المختار. وها هي ذي جنود ربك تطيح الآن بالطاغوت، الذي ظن بأن عبادته أولى بعبادة الذي لا يموت. والله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. !
وردد الحضور من بعده مباشرة ” الله أكبر .. ! الله أكبر .. ! الله أكبر .. !
ونزل الشيخ الجليل من منصته عائدا، في وسط غابة كثيفة من الأعلام الخضراء والبيضاء والحمراء هذه المرة، وقد انشقت صفوف الوفود أمامه، وتمثلتها في انشقاقها، كمعجزة انشقاق البحر، حين عبور النبي موسى عليه السلام. وحين انتهى به المقام إلى مجلسنا، استدعاني لمصاحبته في زيارة الاحتفالات الميدانية، بمختلف إنجازاتها، وتصوراتها الإبداعية. وللحين تجلت لي ساحة الميدان، وقد امتدت على مستوى نظري، وكأنها لوحة زيتية من أعمال الرسامين الانطباعيين. ومشينا بتؤدة ووقار بين أسراب من حوريات يوزعن الحلوى على الحضور، وقد تجملن وتزيين بحل وحلل مصرية تقليدية. وبينما أنا غارق في هذا الحلم الفردوسي، إذا بالشيخ يجرني من يدي نحو منصة رائعة المنظر قائلا:
إنها منصتي المفضلة، إنها منصة شعراء صنعوا تاريخ الشهادة. وهم ممن كانوا قد استطابوا الموت عند الحرب. وهم الآن من قطان جنة ” طيبة”.
واقتربنا من المنصة، وقد تأهب عليها شاعر في مقتبل العمر وقد اكتسى بلباس حربي إسلامي وتقدم قائلا:
أنا قَطريّ بن الفجاءة المازني، ولقد سلم علي قومي ثلاثة عشر مرة بالخلافة، وأنا فارس وشاعر إسلامي مذكور، وأنا القائل:
أقولُ لها وقد طارتْ شَعاعًا
من الأبطالِ وَيْحَكِ لن تُراعي
فإنّكِ لو سَألْتِ بقاءَ يَومٍ
على الأَجَلِ الذي لَكِ لَنْ تُطاعي
فَصبرًا في مَجالِ المَوتِ صَبرًا
فَما نَيْلُ الخُلودِ بمُستطاعِ
ولا ثَوْبُ البقاءِ بِثَوبِ عِزٍّ
فيُطْوى عَن أخي الخَنَعِ اليَراعِ
سَبيلُ المَوتِ غايةُ كلِّ حيٍّ
فَداعيهِ لأهْلِ الأَرْضِ داعي
ومَنْ لا يُعتَبَط يَسْأم ويَهرَمْ
وتُسْلِمُهُ المَنونُ إلى انقِطاعِ
وما لِلْمَرءِ خيرٌ في حَياةٍ
إذا ما عُدَّ من سَقَطِ المَتاعِ
وانتهى من إلقائه، وراح يسير خلف حورية مكلفة بمرافقة الحضور إلى مجالسهم، فيما تقدم إلى المنصة شاعر آخر، وهو في لباس حربي شبيه بمن تقدمه، وقدم لنا نفسه قائلا:
أنا الشاعر، الفارس المقدام بشامة بن حزن النهشلي. وقد حزت على مقامي هنا، في هذه الجنان السعيدة، بما قدمت يداي من بطولات في الدار الفانية. وأنا القائل:
إنّا بني نَهشَلٍ لا نَدّعي لأبٍ
عنْهُ ولا هو بالأبناءِ يَشْرينا
إنْ تُبْتَدَر غايةٌ يوماً لمَكْرُمَةٍ
تَلقَ السّوابِقَ منّا والمُصَلّينا
ولَيْسَ يَهلِكُ منّا سيِّدٌ أبداً
إلاّ افتَلَينا غُلاماً سيّداً فينا
إنّا لَنُرْخِصُ يومَ الرَّوْعِ أنفُسَنا
ولَو نُسامُ بها في الأمْنِ أُغْلينا
بيضٌ مفارِقُنا تَغْلي مراجِلُنا
نَأْسوا بأموالِنا آثارَ أيْدينا
إنّي لَمِن مَعشَرٍ أفنى أوائلَهم
قيلُ الكُماةِ ألا أينَ المُحامونا
لَوْ كانَ في الألْفِ منّا واحِدٌ فدَعوا
مَن فارِسٌ خالَهُم إيّاهُ يَعنونا
إذا الكُماةُ تَنَحّوا أن يُصيبَهُمُ
حَدُّ الظُّباة وَصَلناها بأَيْدينا
ولا تَراهُم وإن جلّتْ مُصيبَتُهُم
معَ البُكاة على من ماتَ يَبْكونا
ونَرْكَبُ الكُرهَ أحياناً فَيَفْرِجُهُ
عنّا الحِفاظُ وأسيافٌ تؤاتينا
وما كاد ينهي من إلقائه، حتى سمعنا هلاهل الإطراء تتقاطر عليه من كل مكان. وقدم بعده فارس مدجج بالسلاح، وقدم لنا نفسه قائلا:
أنا ابن عبدة، ولقد قدمت للاحتفاء بهذا اليوم الخالد من جنة “طيبة “. وأنا قد اكتسبت مقامي الدائم بينكم، بموقفي الدنيوي من الحاكم مروان بن الحكم، حين نبهته بظهور الفساد في الدّين، بل حاربته عليه. وأنا القائل:
إنّ الدّينُ أَودى بالفسادِ فقُل لَهُ
يَدعْنا ورَأساً من مَعَدٍّ نُصادِمهْ
بِبيضٍ خِفافٍ مُرْهفاتٍ قواطِعٍ
لِداوُدَ فيها أثرُهُ وخواتِمُهْ
وزُرْقٍ كسَتها ريشاً مَضْرَحِيّةٌ
أثيثٌ خوافي ريشِها وقَوادِمُهْ
بِجَيْشٍ تضِلُّ البُلْقُ في حَجَراتِهِ
بيَثْرِبَ أُخْراهُ وبالشاّم قادِمُهْ
إذا نحنُ سِرنا بينَ شَرْقٍ ومَغْرْبٍ
تَحَرّكَ يَقظانُ التّرابِ ونائِمُهْ
وما إن انتهى من إنشاده حتى صعدت ثلاث حوريات وفتحن علبا فضية طارت منها مآت الآلاف من الفراشات الملونة، التي راحت تكتب في الفضاء المشع، بتشكيلاتنا المنوعة، أبياتا شعرية بأحرف عربية في غاية الهندسة الكوفية. ثم إنهن غادرن المنصة، فيما صعد وتأهب للإلقاء، شاعر على ملامحه استماتة أهل مؤتة. وتقدم معرفا نفسه قائلا:
أنا الفارس الحَريش بنُ هلال القُرَيعي. وأنا ممن شهدوا مع النبي فتح مكة ومعركة حنين. وأنا القائل يومها والمعركة حامية الوطيس:
شَهِدنَ مع النّبيِّ مُسَوّماتٍ
حُنَيْنا وهي دامِيَةُ الحَوامي
ووَقْعَةَ خالدٍ شَهِدَتْ وحكّتْ
سَنابِكَها على البَلَدِ الحَرامِ
نُعَرّضُ إلى السّيوفِ إذا التَقيْنا
وُجوهاً لا تُعَرّضُ لِلّطام
ولَسْتُ بِخالِعٍ عني ثيابي
إذا هَرَّ الكُماةُ ولا أُرامي
ولَكِنّي يَجولُ المُهْرُ تَحْتي
إلى الغاراتِ بالعَضْبِ الحُسامِ
وانتهى من الإنشاد، و عاد إلى مجلسه تتقدمه حورية من حوريات جنة “بدر”. وقدمت امرأة في حلة ملكية بهية. خلتها في بداية الأمر من أعرابيات الجنة الخالدات، حين تقدمت قائلة:
أنا الشاعرة العربية، عَمرَة الخَثعَمِيّة، وأنا من خوالد جنة ” عرائس”. ولقد منّ عليّ المولى بهذه الدرجة الفردوسية، تعويضا لي عن ابنيّ اللذين رثيتهما، بمنتهى الحزن البشري الكريم في الدار الفانية. وأنا القائلة:
لقَد زَعَموا أنّي جَزِعْتُ عليهِما
وهَلْ جَزَّعٌ أن قلتُ وا بِأباهُما
هُما أَخْوا في الحَربِ من لا أخا لَهُ
إذا خافَ يوماً نَبْوَةً فَدعاهُما
هُما يَلْبَسان المَجْدَ أَحْسَنَ لِبْسَةٍ
شَحيحانِ ما اسْتطاعا عَلَيْهِ كِلاهُما
شِهابانِ مِنّا أوقِدا ثم أُخْمِدا
وكانَ سنىً لِلمُدلجينَ سَناهُما
إذا نَزَلَ الأرضَ المًخوفَ بها الرّدى
يُخَفّضُ من جَأْشَيْهما مُنْصُلاهُما
إذا اسْتَغنَيا حُبَّ الجَميعِ إليْهِما
ولَمْ يَنْأَ من نَفْعِ الصّديقِ غِناهُما
إذا افْتَقرا لم يَجْثِما خَشْيَةَ الرّدى
ولَمْ يَخْشَ رُزْأً مِنهُما مَوْلياهُما
لقَدْ ساءَني أن عَنّسَتْ زَوْجَتاهُما
وأَن عُرِّيَتْ بعد الوَغى فَرَساهُما
يَلبَثَ العرشانِ يُستَلُّ منهُما
خِيارُ الأواسي أنْ يَميلَ غَماهُما
وما كادت تنهي من إنشادها، حتى صعد المنصة ولدان مخلدون من خدمة الجنة، وناولوها باقة من زهور حدائق الخلد، ورفعت للحين المنصة مختفية في موجة من التسبيح الملائكي، وكأنها لم تكن قط. وعرض علي الشيخ الجليل، وهو في غاية لذة الطرب التمثيلي، من الموروث الشعري الذي استمع إليه، أن نمشي نحو المنصة البرتقالية التي كانت قد تشكلت قبل حين أمامنا. وسماها لي الشيخ ب”منصة القومية العربية” وقطانها آتون من جنة “طروب”. وهي جنة شهداء الأغنية العربية المناضلة. وتوجهنا نحو المنصة التي بدت محاطة بجماهير غفيرة من عشاق الطرب للأغنية العربية. وإذا بقاصرة طرف قد تزيت بفستان مخملي مجوهر يخطف الأبصار، وتاج من خالص الأحجار الكريمة يكلل رأسها. وتصدرت المنصة تحمل في يدها محرمة بيضاء، وقد استرسلت في ترديد هذا المقطع للشاعر إبراهيم ناجي، الذي كان يبدو، بأن الحضور كانوا ينتظرونه بالذات:
أَعْطِني حُرّيتي أَطلِق يَدَيّا
إنّني أَعْطَيتُ ما اسْتَبْقَيْتُ شَيئًا
آهٍ مِن قَيدِكَ أَدْمى مِعْصَمي
لِمَ أُبْقيهِ وما أَبْقى عَلَيّا
ما احْتِفاظي بِعُهودٍ لَم تَصُنْها
وإلامَ الأَسْرُ والدُّنْيا لَدَّيا
والجموع الغفيرة تردد بعدها ” لمَ أبقيه .. وما أبقى عليّا .. يا سلام .. يا سلام .. !
نعم إنها الخالدة أم كلثوم بأطلالها، التي ملأت الدنيا العربية، وشغلت الناس، قال لي الشيخ.
بالفعل لقد كاد يكون صوتها، بنفس النبرة البشرية التي عهدتها، لولا هذه المسحة الملائكية المكتسبة بهذه الديار الأبدية. وعرج بي الشيخ نحو منصة أخرى “خضراء”، تقع مباشرة من خلفها، قائلا لي بأنها لأمجاد مصر الثلاثينات. ووقفنا على حورية قد تزيت بلباس عروسة، وراحت تطرب الحضور بصوت علوي، وآهات الآه، تصاعد إلى منصتها من كل مكان. وراحت متممة لمقطعها:
أيُّها الخَفّاُق في مَسْرى الهَوى
أَنتَ رَمْزُ المَجْدِ عُنْوانُ الوَلاءْ
نَفْتَدي بالرّوحِ ما ظَلَلْتَهُ
ونُحَيّي فيكَ روحَ الشُّهَداء
خُضْرَةٌ تَبْعَثُ في النَّفْسِ الأَمَلْ
وهِلالٌ لَيْسَ يَطويهِ الأَجَلْ
ومن جديد سار بي الشيخ في اتجاه معاكس وهو يقول:
هيا بنا إلى منصة “شعراء الثورة” وجلهم من الشباب. وهم في الواقع ما زالوا أحياء يرزقون في دنياكم، ومنهم من تغنى بقصائد لشعراء رحلوا. والفكرة هي عبارة عن تصور تمثيلي لبعض إخواننا الذين يعشقون هذا النمط من الشعر العامي.
وأنت يا سيدي الشيخ؟ قلت له متسائلا.
أنا تراثي ابن التراث العربي المعتق، يا أبا اليزيد ! وإن كنت لا أستهجن هذا الشعر الشعبي، الذي تستسيغه شعوبكم بالملايين، إن لكل مقام مقال.
ومشينا نحو المنصة وقد مشت عليها، فرقة “بناتية ” من العرب الأبكار، وقد تزين بفساتين حريرية مخللة بخيوط ذهبية متعة للناظرين، وقصرن من شعورهن المخللة بأنجم زهرية، على شاكلة الموضة النسائية، التي كانت جارية بالأندلس زمن الأديبة الشاعرة، ولادة بنت المستكفي. ورحن ينشدن أناشيد وطنية، كان صداها، فيما خيل لي، يصل أرضنا الدنيوية. وحين انتهين من إلقائهن، غادرن المنصة وسط موجة حريرية من التصفيق، وقدم شاب في بِدلة عصرية مقصّبة وتقدم قائلا:
أنا الشاعر عمار يوسف، من شباب ثورة ال25 يناير، وقد ساهمت في هذه الثورة بقصيدتي “يا ساحة التحرير”، التي أعيد إلقاءها عليكم الآن:
يا ساحة التحرير
يا ساحة التحريرْ
يا ساحة المصيرْ
يا ساحة الكادح و الفقيرْ
يا ساحة النساء و الرجالْ
يا ساحة الآمالْ
يا ساحة الإنجيلِ و القرآنْ
يا ساحة الأفراحِ و الأحزانْ
يا ساحة الأرواح
حين تفتدي الأوطانْ
بصدرِها الأعزل
مصرُ كلّها
تُقارعُ الطغيانْ !
رسالة إلى المعتصمين في ساحة التحرير
و مُلتحفاً بالظلامْ
حملْتُ إليكم منَ الأمِّ
ما هيّأتْ مِنْ طعامْ
و قالتْ بُنيَّ تُقبّلهُمْ
واحداً واحداً
و تُبلّغهمْ مِنْ دموعي
سلام !
و تخبرهُمْ أنّ مصرَ
منَ الشوقِ
بعدَهُمُ لا تنامْ.
وما أن انتهى من إنشاده، حتى تعالت صيحات ” ارحل .. ارحل .. ارحل .. !!” وصعد إلى المنصة شاعر قدم لنا نفسه قائلا:
أنا الشاعر الثوري قبيل الثورة. وأنا من تنبأ برحيل الطاغية، يوم كان يتمتع بجهازه البوليسي القمعي، حين خاطبته يومها بلهجتنا المصرية قائلا له ” ارحل بقى”.
اِرْحَلْ بَقَى
لا أخْتارْناه ..
ولا بايَعْناه نَجَح إزّاي .
سُبْحانَ الله
أَظُنّ أَفْصَحْ مِن كِدَة يَبقى عيبْ
بحْبّك يا رَيِسْ
وحُبّك يا رَيِسْ معكنن عَليـّــــا مْقَطّع لى قلبى مْطَلّع عَنِيّــــة
سيبونى في حالي وبيا اللّي بِيّـــــــة
دا كُلّ اللّي ليا مَحَرّم عليـّــــا عَشان حاجَة واحدة عَشــــــانَكْ يا ريس بْحبّــــــــــك يا رَيِسْ
دي كِلْمَة قالوها زَمان مِن ســـــــــنين وكُلّ اللّى قالها مْطَيَّـْن بِطـيـنْ
يا
سارق فْلوسنا يا كاتِمْ نْفوسنا يا واكل عرقنا برجلك دايْسنا ولِسّـــــه بحبك
واحب اللّي حبك
وباحْلْف ها حِبّك
واحب اللّى جاب
كَفى يوم اغْبَر عَلينا رَيِسْ
مبارك يا ريس
عليــــك البــــلد لابنـــك وابنــــه
وولد الولد سوزانك سوزانا جمالك جمالنا علائك علائنا وبكرة وبعده وطول الأمد غبــــاءك يا ريس
ملوش حل خالص وسايق فالهبل
وكلامك هجايص ولولاك يا ريس
مكنشى دا حالىوحال كل مصر يمدروخ ولا يـصقال
وا العيشة حرة وهي العيشة مرة ومش مـــر عاديدا صبرك يا ريس
ممرر بلادي وأسعار بترفع
ما تنزلش مرة وباين علينا هنطلع لبرة رغيفك يا ريس
بيصغر ما يكبرو سعره يا ريس
بيرفع ما ينزل سألنا دا ماله
قالو لنا الحديد وإيه العلاقة بسعره الجديد تكونش يا ريس
لغيت الدقيق
وبتطحن بداله
برادة حديد؟مهو أنت اللي عارف
وسامع وشايف
جمالك قشــطنا وعز اللي خاننا وولـــع بلدنا برفع الحديد ما تصحى ياريس
وصحى البلد هنبقى يا ريس كمالة عدد فوسط العوالم
وشعبى اللي هايم وكبته اللي دايم
وقرشه اللي عايم هنبقى يا ريس
كمالة عدد وأقولك وأعيد لك لأني بحبك
نصيحة فصيحة نصيحة مريحة لبلدي وبلدكما ترحل يا ريس ليه دايما متيس ودايما مهيس
مترحل بقى .. ! .
وللحين تعالت في ساحة الميدان أفعال الترحيل مرددة ” اِرْحَلْ .. ! اِرْحَلْ .. ! اِرْحَلْ .. !
وانتهى من الإلقاء، وهم بالنزول، حين اعترضه شاب، عليه ملامح الوقار والهيبة، حاملا آلة العود بين يديه. وتوجه نحو الحضور قائلا:
أنا الشاعر المغني الشيخ إمام. وأنا جد ممنون اليوم، بلقاء شاعرنا المتواجدة أبياته، في كل الدور العربية. ولقد غنيت هذه التحفة الشعرية لشاعرنا المجيد بعد رحيله عنا، ومفارقته لنا. وأنا اليوم أعيد على مسمعه، بل مسمعكم جميعا، اللحن الذي وضعته لتحفته:
يا مصر قومي وشدي الحيل
يا مصر قومي وشدي الحيل
كل اللي تتمنيه عندي
لا القهر يطويني ولا الليل
آمان آمان بيرم أفندي
**
رافعين جباه حرة شريفة
باسطين أيادي تأدّي الفرض
ناقصين مؤذن وخليفة
ونور ما بين السّما والأرض
يا مصر عودي زي زمان
ندهة من الجامعة وحلوان
يا مصر عودي زي زمان
تعصي العدو وتعاندي
آمان آمان بيرم أفندي
***
الدم يجري في ماء النيل
والنيل بيفتح على سجني
والسجن يطرح غلة وتيل
نجوع ونتعرى ونبني
يا مصر لسه عددنا كتير
لا تجزعي من بأس الغير
يا مصر ملو قلوبنا الخير
وحلمنا ورد مندي
آمان آمان بيرم أفندي
***
يسعد صباحك يا جنينة
يسعد صباح اللي رواكي
يا خضرا من زرع إيدينا
شربت من بحر هواكي
شربت من كاس محبوبي
وعشقت نيل أسمر نوبي
وغسلت فيه بدني وتوبي
وكتبت إسمه على جلدي
آمان آمان بيرم أفندي
وما كاد ينتهي من إنشاده، حتى تعالت هتافات الطرب الثورية من كل مكان، واستقبلته حوريات الحدائق، ورفيقه، بباقات من الورد اليمني. وخرجا معا في الإتجاه الخلفي للمنصة، في حين قدم صاعدا لدرج المنصة المصنوع من الأبنوس، شاعر شاب ذا ملامح وضاءة . وتقدم معرفا بنفسه:
أنا الشاعر ماجد كمال. وأنا ممن يدعون بشباب ثورة ال25 يناير. ثورة “شباب الفيس بوك”، كالأخوة، شهيد التعذيب، خالد سعيد، ووائل غنيم، منسق “الفيس بوك”، ومحمد عادل المنظم لثورة الشباب. وأنا القائل” الفيس أصدق أنباء من الكتب”. وهذه قصيدتي التي أهديتها لكل الثوار، أعيد إنشادها لكم:
يا شباب الفيس
يا شباب “الفيس” اثبتوا السّياده
لأنّكم جيلنا بأفكار جديدة
وإنكم إعصار جارف لا هواده
وإنكم أبطال للأمة المجيدة
وإنكم رمز السّماحه والوداده
وإنكم أهل الرقي تمشون سيده
وإنكم بالعزم سادات الإرادة
وإنكم للعز غاية ما يريد ه
وإنكم أعطيتو للعالم إفاده
إننا شعب(ن)إراداته عتيده
وإنكم فيذا الزمن غاية مراده
وإنكم أحييتم قلوب بليده
وإنكم بالزين عود بشتداده
وإنكم للعز إلهام القصيده
وأن واحدكم أخذ أحسن شهادة
أنتم أنتم للشرف قلبه ووريده
صوتكم يطرب قلوبن بارتداده
له جرس يرقص معه قلبي يعيده
لأن واحدكم صمد حتى الشهاده
لا رصاص (ن) حي لا مدفع يحيده
لأن واحدكم وقف كله جلاده
يالنصر يايفعل الله ما يريد ه
وانتصرتو وتستحقون الإشاده
سطّر التاريخ فيكم شي يفيده
وانتهى من إلقائه، وعاد إلى مجلسه وسط هتافات تهتف بالثورة العربية المجيدة. وقد مال الشيخ علي وهمس في أذني قائلا:”
والله يا أبا اليزيد ! لولا أن هذا الشعر قد ساهم في الإطاحة بالطغاة، لما وقفت للاستماع إليه، فروميات أخي المتنبي، هي عندي أغلى من كل ما سمعت. ولكن لكل عصر رجاله ولغته. وأنتم سكان الفانية، أدرى منا اليوم بشؤون دنياكم.
وقدم إلى المنصة شاعر جديد، قالت عنه مكبرات الأصوات الطبيعية، بأنه آخر من سيلقي فيما يتعلق بثورة ال25 يناير. وقدم لنا نفسه قائلا:
أنا الشاعر إيهاب عزت، ممن ساهموا في هذه الثورة المجيدة، وهذه قصيدتي:
مصر يا حرة….قصيدة لثورة 25 يناير
مصر يا حرة
يا صباح الخير بلادي
في الجبال و كل وادي
قاهرة و اسكندرية
و السويس لما تنادي
مصر يا حرة و أبية
يا صبية و يا عفية
جم ولادك دقوا بابك
جاي يضحي بروح رضية
كنا بنقول دا الصغير
لأ دا واعي جاي يغير
راح على التحرير يقولها
لأ لظالم لا لمزور
الشباب الأسمراني
قال دي أرضي و دا زماني
جاي أزرع في بلادي
و اجني زرعي الأخضراني
المرض جهل و بطالة
محسوبية و العمالة
كل دا و الحلم عايش
و الأماني مش محالة
قوم يا شعب و صون حقوقك
صرخة الحرية طوقك
كمِّل المشوار و واصل
فِكْرك الواعي شروقك
قولها كلمة و بكرامة
دم أخوك علِّم علامة
انتصر له طفِّي ناره
قول يا ماضي بالسلامة
اوعى لا يخونك حصانك
بالأصول حقق قرارك
الرئيس لو كان هيرحل
برده حارب يوم وصانك
الوفاء و العفو شيمتك
دا أنت مصري من شهامتك
كلنا بيصيب و يخطأ
بس مش ترجع لصمتك
لو ركبت الموجة آسف
بس كنت جبان و خايف
بس مصري لي حلمي
كنت غايب بس شايف
وألقى قصيدته بحماس كبير، ثم غادر المنصة، في حين صعدت إلى المنصة محله، راقصات عربيات، ورحن في رقصة شرقية على إيقاعات لمنوعات ومختارات موسيقية حديثة. وخرجت مغادرا من منصة شباب الثورة، وحين وصلت والشيخ إلى مخرج الدائرة، عبر حديقة تشتعل عبقا بمسك الليل، إذا بشاب وسيم قد بدأ بإنشاد حرّ وسط حلقة، على غرار ظاهرة “الحلاقي” الشعبية المتواجدة ببلاد المغرب. وقد فهمت من أحد الحضور أن، الشاب يدعى مصطفى هاشم، وهو من مجموعة شعراء الثورة.
قررت أعيش
قررت أغير بيدي لون شكل السّما
وأموت هنا
علشان أعيش
قررت أحرق نجمها
واطفي بأيدي شمسها
وارسم خريطة لأرضها
وأبدأ أعيش
قررت أرجع للعروبة عزها
واكسر حدود الذل واجمع شملها
من أقصى للأقصى هو حد أرضها
ونبدأ … نعيش
قررت اطوي صفحة سوده عشتها
وبالأمــل ويا الإرادة
هعيش في صفحة بحبها
قررت ارفع صوتي من بعد السكوت
وأقول يا ظالم أنت ظالم
حتى لو كان فيها أموت
وإيه يعني أموت
منا كل يوم عشته في موت
منا كل مسمع انه في عربي أنقتل
بسمع وموت
وإيه يعني أموت
ما كل ساعة في فلسطين الأبية
ناس تموت
وفى كل لحظة تمر وإحنا بدون كرامة
اسمنا عايشين في موت
هوا إيه معنى الحياة
وأنت صوتك جوى منك ينقـتل
وغصب عنك تلقى نفسك في السكوت
مهو لجل أعيش عمري بكرامة
تمن الكرامة دي أني أموت
متقولشى إني بنتحر وسط الميدان
دانا بحي حلم لأمتي مات من زمان
والحلم غالي يا أمي علشان فيه أمل
تمن الأمل ده يا أمي غالي
ويمكن أغلى من أني أموت
مهما أرسلوا دبابات ومدرعات
ومهما حاولوا يرهبوني بطيارات
زي الهرم هفضل مكاني ومش هموت
وإيه يعني أموت
أنا قولت لأمي مش راح أرجع
إلا بكرامتي وعزتك
ولو قلو لك أني موُت
قولي تحيا بلدي حرة
حتى لو ولدي يموت
أصل موتى في النوبادي
في حياتي وفيه حياتك
عشان تعيشي يا أمي حرة
لازم أموت
لازم أموت
وما إن انتهى أو كاد، حتى جذبني الشيخ قائلا:
بالفعل إنه شعر شعبي، وله منحاه وذوقه الخاص، ونحن من بني الخالدة، قد وهبنا منحة إلهية لفهم كل الألسن بالبشرية دونما حاجة إلى مترجم محلف. بالفعل لكم شعركم ولنا شعرنا. وبهذه المناسبة، تفضل معي لزيارة إحدى منصاتي المفضلة، ألا وهي منصة “المُسَمّطات الذَّهَبِيّة”. وشعراؤها هم نخبة ممن صنف، بعض المؤرخين العرب، معلقاتهم، من بين أجمل القصائد التي قيلت في الحكم، وفلسفة الحياة. وهم الآن مقيمين بجنة “الجوهرة”، وقد أتوا خصيصا، للاحتفاء بهذه السهرة المليونية الخالدة.
وسرنا باتجاه المنصة القزحية. وما كدنا نتخذ مكاننا من بين الحضور، حتى اعتلى المنصة رجل ملتحي، عليه حلة تقليدية للعرب القدامى قد راح شعره الكثيف منسدلا على كتفيه، وهو متقلد لسيفه اليماني وقوسه الصفراء. تقدم نحو الأمام وقدم لنا نفسه قائلا:
أنا الشاعر عمرو بن مالك الأزدي من قحطان، الملقب بالشَّنْفَرى، وقد اشتهرت بمعلقتي التي طارت شهرتها في الآفاق باسم “لامية العرب”. وأنا بالتحديد أعد من زمرة الصعاليك، وقد تبرأت مني قبيلتي ظلما، فانتقمت لنفسي منها. وما كان يخلصني من الذين كانوا يطاردونني، إلا سرعة الجري، الذي اشتهرت به، ولقد منّ عليّ المولى، وأنصفني من الذين اعتدوا عليّ وسببوا في تشريدي، بالدخول إلى جنة “الجوهرة”. وكانت مواقف عطفي على الحيوان، والرأفة بالفقراء والمحتاجين، والوقوف في وجه الظلم، من بعض الأسباب التي ضاعفت من حسناتي للفوز بالعفو الرباني و”لله في خلقه شؤون”. وهذه بضعة أبيات من “لاميتي”:
أَقيموا بني أمّي صُدورَ مَطِيّكُم
فإنّي إلى قَومٍ سِواكُم لأَمْيَلُ
فقَد حُمَّتِ الحاجاتُ واللَّيلُ مُقمِرٌ
وشُدّتْ لِطَيّاتي مَطايا وأَرْحُلُ
لَعَمْرُكَ ما في الأرْضِ ضيقٌ على امرئٍ
سَرى راغِباً أو راهِباً وهو يَعْقٍلُ
ولي دونَكُمْ أَهْلونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ
وأرْقَطُ زُهْلولٍ وعَرْفاءُ جَيْأَلُ
هُمُ الرَّهطُ لا مُسْتَوْدَعُ السِّرِّ ذائِعٌ
لَديْهٍمْ ولا الجاني بما جَرَّ يُخْذَلُ
وإنْ مُدَّتْ الأيدي إلى الزّادِ لمْ أكُنْ
بِأعْجَلِهِم إذْ أَشْجَعُ القَومِ أعْجَلُ
أُديمُ مِطالَ الجوعِ حتى أُميتُهُ
وأُضْرِبُ عنْهُ الذِّكْرَ صَفْحاً فاَذْهَلُ
وأَسْتَفُّ تُرْبَ الأرْضِ كيْ لا يُرى لَهُ
عَلَيَّ منَ الطّوْلِ امْرُؤٌ مُتَطَوّلُ
ولولا اجْتِنابُ الذّامِ لمْ يُلْفَ مَشْرَبٌ
يُعاشُ بِهِ إلاّ لَدَيّ ومَأْكَلُ
ولكنْ نَفْساً حُرّةً لا تُقيمُ بي
على الضّيْمِ إلاّ رَيْثَما أَتَحَوّلُ
واكتفى بهذا القدر وولى منصرفا، وشيخ المعرة يهمس في أذني سراّ ” والله لو لم يقل سوى هذا البيت الأخير، لكفاه مرتبة الخلود”. وقدم زائر جديد إلى المنصة، وما كدت أتبين من الرجل ذا العمامة البيضاء، حتى بادرنا قائلا:
أنا الشاعر والعالم الكيميائي، الحسين بن علي بن عبد الصمد، الطُّغرائي، المولود بإصبهان، ولكن العربيّ العربي. شغلت مناصب عديدة، لدى السلطان ملكشاه وابنيه محمود ومسعود. ومن بين هذه المناصب منصب الأستاذية ومنصب الوزارة. ولقد أشيعت عني تهم الإلحاد زورا وبهتانا، الله سبحانه وتعالى يقول ” يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم أحد بنبإ فتبينوا …………”. ومن مصنفاتي الشهيرة “لامية العجم”، هذه التي سأتحفكم ببعض من أبياتها، ولله الحمد والشكر:
أُصالَةُ الرَّأْيِ صانَتْني عن الخَطَلِ
وحِلْيَةُ الفَضْلِ زانَتني لدى العَطَلِ
مَجْدي أخيراً ومَجْدي أوّلاً شَرَعٌ
وكالشّمْسِ رَأْدُ الضُّحى في الطَّفَلِ
أريدُ بَسْطَةَ كَفٍّ أَسْتَعينُ بها
على قَضاءِ حُقوقٍ للعُلى قِبَلي
إِنّ العُلى حَدّثَتني وهيَ صادِقَةٌ
فيما تُحَدّثُ أنّ العِزَّ في النُّقَلِ
لَوْ أنّ في شَرفِ المَأْوى بُلوغُ مُنىً
لمْ تَبْرَحِ الشّمسُ يوماً دارَةَ الحَمَلِ
ما كُنْتُ أوثِرُ أن يَمْتَدَّ بي زَمَني
حتى أَرى دَوْلَةَ الأوْغادِ والسَّفَلِ
واكتفى بهذا القدر، وغادر المنصة وقد رافقته سبع حوريات سمراء، أبكارا، عربا، أترتبا، يتقدمنه، وهن ينثرن تُوَيْجات الزهور بمختلف ألوانها وأنواعها، على الحضور. وصعد بعده مباشرة، في حلة يمانية مشجرة، ومتعمما بعمامة عباسية سوداء، وتقدم قائلا:
أنا عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس المعرّي (ابن الوردي). وأنا من مواليد معرة النعمان. ولقد كنت في الدار الفانية فقيها، وأديبا، وناثرا، وناظما، ولغويا، ونحويا ومؤرخا. ولقد شغلت منصب القضاء بمنبج. ولي مصنفات عدة، أكتفي منها بذكر بضعة أبيات من اللامية التي اقترنت باسمي، “لامية ابن الوردي”:
إِعْتَزِلْ ذِكْرَ الأغاني والغَزَلْ
وقُلِ الفَصْلَ وجانِبْ منْ هَزَلْ
واتّقِ اللهَ فتَقوى الله ما
جاوَرَتْ قَلْبَ امرِىٍ إلاّ وَصَلْ
حارتِ الأفكارُ في حِكْمَةِ منْ
قد هَدانا سُبْلنا عَزَّ وجَلْ
كُتِبَ المَوتُ على الخَلْقِ فكَمْ
فَلَّ من جَيْشٍ وأَفنى من دُوَلْ
أينَ نُمرودُ وكَنعانُ ومَنْ
مَلَكَ الأرضَ وولّى وعَزَلْ
أيْنَ عادُ أينَ فِرْعَونُ ومنْ
رَفعَ الأهرامَ من يَسْمعْ يَخَلْ
أَيْنَ منْ سادوا وشادوا وبَنوا
هَلَكَ الكُلُّ ولم تُغْنِ القُلَلْ
أينَ أربابُ الحِجى أهلُ النّهى
أينَ أهلُ العِلْمِ والقَوْمُ الأُوَلْ
سيُعيدُ اللهُ كلاّ منهُمُ
وسَيَجْزي فاعِلاً ما قد فَعَلْ
إيْ بُنَيَّ اسْمَعْ وصايا جَمَعَتْ
حِكَماً خُصّتْ بها خَيْرُ المِلَلْ
أُطْلُبِ العِلْمَ ولا تَكْسَلْ فَما
أَبْعَد الخَيْرَ على أَهلِ الكَسَلْ
واحْتَفِلْ للفِقْهِ في الدّينِ ولا
تَشْتَغِلْ عَنْهُ بمالٍ وخَوَلْ
واهْجُرِ النّوْمَ وحَصِّلْهُ فمَنْ
يَعْرِفِ المَطلوبَ يَحْقِرْ ما بَذَلْ
لا تَقُلْ قد ذَهَبَتْ أربابُهُ
كلُّ مَن سارَ على الدَّربِ وَصَلْ
واكتفى بهذا القدر الحِكَمي من لاميته، ولم أفطن إلا وشيخ المعرة قد طار إليه وأخذه بالأحضان مسلما عليه. وحين عاد أخبرني بأن الرجل الذي نشأ ببلدته الدنيوية، كان من تلامذته الأوفياء الذين نقلوا عنه جراب علمه. وقدم زائر جديد من أصحاب الإلقاء، في حلة فلسطينية بارزة عليها آثار التقليد التراثي الفلسطيني الذي ما يزال متبعا إلى اليوم. وقد تعمم هو الآخر بكوفية فلسطينية، من فصيلة كوفيات فدائيي القدس. وتقدم قائلا:
أنا خليل بن أبيك بن عبد الله الصَّفَدي الشافعي. ولدت في صفد بفلسطين، المحررة قريبا إن شاء الله، وإليها انتسبت. ولقد شغلت منصب مدير ديوان الإنشاء، في كل من مصر ودمشق. ولي زهاء مائة مؤلف في الأدب والشعر. وسأكتفي ببعض الأبيات من لاميتي الصّفدية:
الجَدُّ في الجِّدِّ والحِرْمانُ في الكَسَلِ
فانْصَبْ تُصِبْ عنْ قَريبٍ غايَةَ الأمَلِ
واصْبِرْ على كُلِّ ما يَأْتي الزّمانُ بِهِ
صَبْرَ الحُسامِ بِكَفِّ الدّارِعِ البَطَلِ
وجانِبِ الحِرْصَ والأطماعَ تَحْظَ بِما
تَرْجو مِنَ العِزِّ والتّأْييدِ في عَجَلِ
ولا تَكونَنْ على ما فاتَ في حَزَنٍ
ولا تَظَلَّ بما أُوتيتَ ذا جَذَلِ
واسْتَشْعِرِ الحِلْمَ في كُلِّ الأمورِ ولا
تُسْرِعْ بِبادِرَةٍ يوماً إلى رَجُلِ
إنّ الفَتى مَنْ بماضي الحَزْمِ مُتّصِفٌ
وما تَعَوّدَ نَقْصَ القَوْلِ والعَمَلِ
ولا يُقيمُ بِأرضٍ طابَ مَسْكَنُها
حتّى يُقِدَّ أديمَ السَّهْلِ والجَبَلِ
فَمَنْ تَكُنْ حُلَلُ التّقوى مَلابِسَهُ
لَمْ يَخْشَ من دَهْرِهِ يوماً منَ العَطَلِ
مَن لَمْ يَصُنْ عِرْضَهُ ممّا يُدَنّسُهُ
عارِ وإنْ كانَ مَغْمورا منَ الحُلَلِ
منْ ضَيّعَ الحَزْمَ لمْ يَظْفَرْ بْحاجَتِهِ
ومنْ رَمى بِسِهامِ العُجْبِ لمْ يَنَلِ
منْ رامَ نَيْلَ العُلى بالمالِ يَجْمَعُهُ
منْ غَيْرِ جودٍ بُلِيَ من جَهْلِهِ وبُلي
منْ جادَ سادَ وأحْيا العالِمونَ لَهُ
بديعَ حَمْدٍ بِمَدْحِ الفِعْلِ مُتّصِلِ
واكتفى بهذا القدر، وتراجع إلى الوراء مسلما، فيما تناهى إلينا صوتا من المكبرات الصوتية الإعجازية، منبها الحضور بفترة استراحة لتناول ما طاب لهم، من الفواكه والمشروبات والحلوى. وانتشر بالمناسبة متموجا في كل الأرجاء، صوت فيروز الساحر وهي تغني “سنرجع يوما يا قدس فلا تحزني”. ودخلت في الاستراحة، وأنا حال كوني، سابح كملاح فضائي في الآفاق المسترسلة، وخارج عن كل قيد زمني دنيوي. وتناولت والشيخ بضعة قطع من الكعكة الفردوسية، وخضنا في بعض المسائل اللغوية، وبينما نحن كذلك، إذا بأبي الطيب المتنبي يظهر أمامنا قائلا، وكأنه خرج من لا شيء:
لقد التحقت بكم خصيصا للاستماع إلى الشاعر المقبل.
وفي هذه اللحظة بالذات، صعد إلى المنصة رجل عليه لباس أهل فارس الفاخرة، ومتعمما بعمامة أرجوانية، وتقدم قائلا:
أنا علي بن الحسين بن يوسف بن محمد بن عبد العزيز البُسْتي الشافعي. ولقد ولدت في “بُسْت” قرب سجتان، وإليها نسبتي. ولقد كنت من كتاب الدولة السّامانيّة في خراسان، في عهد السلطان محمود بن سبكتكين. ولقد ذاعت رسائلي الأدبية في تلك الفترة. ولي عدة أعمال شعرية مطبوعة، إلا أنني سأكتفي، بإلقاء بضعة أبيات من هذه المطولة، التي ألحقتني بزمرة أهل “الجوهرة”:
زِيادَةُ المَرْءِ في دُنْياهُ نُقْصانُ
ورِبْحُهُ غَيْرُ مَحْضِ الخَيْرِ خُسْرانُ
يا ظالِماً فَرِحاً بالعِزِّ ساعَدَهُ
إنْ كُنْتَ في سِنَةٍ فالدَّهْرُ يَقْظانُ
ما اسْتَمْرَأَ الظُّلْمَ لوْ أَنْصَفْتَ آكِلُهُ
وهلْ يَلَذُّ مذاقُ المَرْءِ خَطْبانُ
يا أيُّها العالِمُ المُرضي بِسيرَتِهِ
أَبْشِرْ فأنْتَ بِغَيْرِ الماءِ رَيّانُ
ويا أخا الجَهْلِ لوْ أَصْبَحْتَ في لُجَجٍ
فأَنْتَ ما بينَها لا شَكَّ ظَمْآنُ
صُنْ حُرَّ وَجْهِكَ لا تَهْتِكْ غِلالَتَهُ
فكُلُّ حُرٍّ لِحُرِّ الوَجْهِ صَوّانُ
من اسْتعانَ بِغَيْرِ اللهِ في طَلَبٍ
فإنَّ ناصِرَهُ عَجْزٌ وخِذْلانُ
فاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِماً
فإنّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أرْكانُ
لا ظِلَّ للمَرءِ يُغْني عَن تُقىً ورِضَا
وإنْ أظَلّتْهُ أوراقٌ وأَفنانُ
واكتفى بهذا القدر، وغادر المنصة في موجة من الهتافات بالسلام. وبدوري غادرت المنصة رفقة شيخ المعرة، وفارس سيف الدولة. ومشينا نتفرج على بدع فردوسية، لا تعد ولا تحصى. وكانت إحداها التي فتنت خيالي، حين ظهرت في الفضاء شاشات تلفازات سماوية، وقد بدأت تنقل ما هو قادم في المستقبل القريب، من مجريات الأحداث في البلدان العربية. وحين سألت شيخ المعرة، مستبشرا بهذه الأحداث السعيدة، أجابني قائلا:
إننا لا نخشى عليك، من نقل ما شاهدته من أحداث لأبناء الفانية، قبل الأوان، لأن ذاكرتك الفردوسية هذه، ستستبدل بذاكرتك البشرية، بمجرد ما تدخل في الطبقة الأرضية. ولن تعد تحتفظ إلا بصور رؤيوية، لا رابط فردوسي بينها. والآن هيا بنا لزيارة نافورة الخلد.
وسرنا وقد انبعثت على صراطنا برك وبحيرات تتلون بآلاف من الألوان المائية. وبينما نحن سائرين بخيلاء فردوسي إذا بالملاك ” البرقي” يعترض سبيلنا قائلا:
لقد حان وقت رجوعك إلى المعمورة السفلى.
وودعت شيخ المعرة، شاكرا له هذه الدعوة المباركة، وكذلك صاحبه المتنبي، الذي أبى إلاّ أن يودعني متمثلا ببعض أبياته:
لا افْتِخارٌ إلاّ لِمَنْ لا يُضامُ
مُدْرِكٍ أو مُحارِبٍ لا يَنامُ
لَيْسَ عَزْماً ما مَرّض المَرْءُ فيهِ
لَيْسَ هَمّا ما عاقَ عَنْهُ الظلامُ
واحْتِمالُ الأذى ورُؤْيَةُ جانيهِ
غِذاءٌ تَضوى بِهِ الأجْسامُ
ذَلَّ منْ يَغْبِطُ الذَّليلَ بِعَيْشٍ
رُبَّ عَيْشٍ أَخَفُّ مِنْهُ الحِمامُ
كُلُّ حِلْمٍ أتى بِغَيْرِ اقْتِدارٍ
حُجَّةٌ لاجئٌ إِلَيْها اللِّئامُ
مَنْ يَهُنِ يَسْهُلِ الهَوانُ عَلَيْهِ
ما لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
“وبارك لكم الله في ثوراتكم العاجلة والآجلة إن شاء الله”. وفجأة تجلى نجم كبير فوق رؤوسنا، وقبل أن يودعني، أضاف قائلا:
إنها روح المغفور له نجم الدين أربكان، قد قدمت إلى مأواها الخالد، الذي وعدت به. أجل روح المؤمن المجاهد، الذي أحيا هلال الإسلام بتركيا الكمالية، من بعد ما ظن علمانيّيها، بأن هذا الدين المحفوظ، قد قضي عليه إلى الأبد.
وتبخر هو الآخر صحبة الشيخ، ووجدت نفسي على متن مركبة فضائية لم يسبق لي أن رأيت مثلها من قبل. وقال لي الملاك “نوران ” وقد استبدل بزته المزركشة الشّعشعانية ببزة ضوئية فسفورية، بعد ثانية أو اثنتين … وما كاد يتم كلمته حتى وجدت نفسي من جديد، على رصيف المحطة، في انتظار القطار الذي قدم أخيرا، وقد بدأت قطرات المطر الشتائية، تتساقط على الرصيف، محدثة موسيقى شتوية كئيبة. وعند مدخل المحطة الرئيسي، توقف بعض المسافرين، أمام الشاشة العريضة، يتطلعون إلى البث الحيّ، الذي كان ينقل مباشرة، كتائب القذافي ومرتزقته، وهي تدمر بالمدفعية الثقيلة والطيران الحربي، مدنا أبت إلا أن تثور في وجه الطاغية، وتضحي بأرواحها الغالية، من أجل الكرامة والحرية، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، والنصر للثوار والمجد للشهداء.
انتهت –
____________________________
*أديب وشاعر من المغرب يقيم في بروكسيل بلجيكا