إديث بياف …. عصفورة فرنسا الصغيرة



أزهار أحمد *

 ( ثقافات )

إلى الأغنية التي تحاول النهوض ..

حفل موسيقي في المركز العماني الفرنسي

تسنت لي فرصة حضور حفل موسيقي في المركز العماني الفرنسي غنت فيه الفنانة الفرنسية آيرين روسيل Irène Roussel بعضاً من أغاني إديث بياف. كنت أعلم أن إديث ليست من سيغني وكنت أعلم أنه لا يوجد من يشبهها، لكن كان يكفيني أن أحضر حفلاً حياً أسمع فيه أغاني إديث بياف، حتى لو كان تقليداً. كان حفلاً جميلاً حاولت فيه الفنانة أن تجسد إديث صوتاً وصورة حتى بارتدائها الفستان الأسود، وحاول الجمهور أن يتأقلم معها، لكننا جميعاً كنا نفكربإديث وصوت إديث ومدى قوة التأثر بينهما. بعد ذلك الحفل وجدت نفسي غارقة في كل ما يخص عصفورة فرنسا وسحبتني يدي لأكتب عنها.
أول أغنية سمعتها لإديث بياف كانت بادام..بادام Padam Padam فأسرتني وأصررت على معرفة معنى هذه الكلمة فبحثت وسألت عنها فلم أجد لها معنى، والتفسير الوحيد أن بادام تعني صوت اللحن أو النغمة أي مثل صوت دقة القلب، لا أمل إذن للغات الأخرى أن تفسر هذه الكلمة اللتي تحمل عنوان أجمل الأغنيات.
حين نفكر بالكتابة عن الكائنات والأشياء والبشر الذين يمسون أعماقنا ولا نملّهم أبداً نصبح عاجزين أمام فتنهم وتسيح منا اللغة دون تروي. حتى الأفكار تسافر إليهم وحدهم وتتشبث بهم خوفاً من ألا نعطي الحب حقه والوصف حقيقته.
أتحدى نفسي في كتابة هذا الموضوع الذي قلّبته في رأسي كثيراً منذ مدة طويلة، ولم أجد المنفذ المناسب لكتابته حتى اللحظة، لكنني تشبعت بالتفكير به وآن الأوان أن أريح رأسي منه.
هل نتعلم الحب والشغف والإحساس من الحياة ومع العائلة والأصدقاء أم هي أشياء تخلق فينا؟ من أين تعلمت إديث قوة الحب وهي فاقدة له طوال حياتها؟ لم تكن إديث بياف فنانة عادية ولا عابرة، بل هي من الخالدين الذين يتجددون جيلاً بعد جيل ويتجدد الاحساس بهم كلما استمعت إليهم. فنانة مستحيلة تركت أثرها لامعً وبهدوء مثلما يتسرب صوتها من أعلى الدماغ إلى أخمص القدمين. وبينما أكتب عنها الآن أستمع لأغنيتي المفضلة لها “لا لست نادمة على شئ “No, je ne regretted وأتعجب من عظمة الإحساس لديها وكأن جسدها وروحها يخرجان من صوتها فتشع ضوءاً.
صوتها يثير الشجن والفرح والألم والبهجة وكل الأحاسيس، يكسر القلب حين يكون فرحاً ويلمّه حين يكون مفتتاً. صوتها يعكس حياتها المأساوية وعذابها الذي عاشته منذ ولادتها في أحد شوارع باريس الفقيرة، وهجر أمها ذات الأصل المغربي الإيطالي المغنية في الشوارع، التي تركت ابنتها لجدتها عائشة التي أهملتها ايضاً وتسببت في مرضها، ثم انتقالها لجدتها لأبيها التي تملك ماخوراً في نورماندي التي رعتها كما ينبغي إلا أن الأسى لم يرحمها فأصيبت بالعمى بسبب التهاب في عينيها وهي لم تتجاوز الخامسة، ثم أخذها أبوها معه إلى السيرك الذي يعمل فيه كبهلوان متجول إلا أنه طرد منه بسبب سكره وعنجهيته. وظل يحوم في شوارع باريس وطفلته إديث معه محاولاً كسب عيشهما من حركاته البهلوانية التي لم تكن تلفت انتباه الناس. حتى جاء يوم وهو يؤدي حركاته طالبه الناس بأن يجعل ابنته تقدم شيئاً فأجبرها على التصرف ولم تكن تجيد سوى الغناء الذي كسبته من جريها وراء أمها وهي في التاسعة ومن النساء في الماخور. فغنت وأذهلت أبيها وأذهلت الناس ومن يومها أصبح الغناء حرفتها. تحولت إلى مغنية شعبية في أزقة باريس تكسب قوت يومها وترعى أبيها السكير. ثم موت ابنتها وهي بعمر الثانية التي تركتها برعاية أبيها ولم تكن في هذا بأحسن من أمها التي وجدت أن حياة الشارع لا تناسب تربية طفلة، واتهامها بقتل الإنسان الذي اكتشفها ووقف بجانبها، إلى زواجها وطلاقها المتكرر عدة مرات ونجاتها من ثلاثة حوادث مميتة، إلى موت الشخص الوحيد الذي أحبتهوتعلقت به، إلى إدمانها وإصابتها بالسرطان وموتها المبكر.
تعلمت كيف تعيش بمرح وكيف تستخدم صوتها بعد أن طارت من قفص أبيها الذي ارتزق من عذوبة ذلك الصوت لسنوات، فكانت تجوب طرقات باريس تغني وتصدح بأغنياتها في صخب ومرح وانسجام فتستوقف المارة شغفاً وإعجاباَ. لم يكن يهمها شيء ولا تعيش لشيء، وحين تغني تحلق في سماء صوتها.

اعطت يديها الحياة فقتلها حب الغناء

انطلقت للعالم على يدي لوي ليبلي Louis Leplée الذي سمعها تغني فأسرته وأقنعها بالغناء في الملهى الذي يملكه ويرتاده الناس من مختلف الطبقات. وبالرغم من شخصيتها المضطربة إلا أنه لم يستسلم وظل مخلصاً في تقديمها للناس مقتنعاً بطاقتها، وأطلق عليها اسمها الفني هذا الذي يعرفه بها الناس حتى اليوم: العصفورة الصغيرةLa Môme Piaf . رافقتها في مسيرتها الفنية منذ أول يوم لها في الملهى المؤلفة والموسيقية مارجريت مونو Marguerite Monnot التي آمنت أيضا بقدرة إديث وأخلصت لها فكتبت لها معظم اغانيها ورافقتها لوقت طويل. كانت إديث تحب لوي ليبلي كثيراً وتعتبره أباً لها، إلا أنه مات مقتولاً ولسوء حظها أنها اتهمت بقتله فهاجمها الناس والصحافة وطردت من كل مكان تغني فيه حتى رآها بالرغم من إثبات براءتها حتى رآها رجل الأعمال والملحن والمؤلف الموسيقي رايموند أسو Raymond Asso الذي أخذ بها تماماً وقطع على نفسه وعداً بتعليمها الغناء والأداء الجيد كما يليق بفنان عظيم، وإيصالها للشهرة. كانت إديث وهي تغني جامدة لا يتحرك إلا فمها فعلمها رايموند أن تعطي ليديها الحياة وهي تغني، أن تمثل الحالة وأن تجسد الإحساس، فنجحت في ذلك مما زاد ثقتها وقوتها. بعد ذلك قدمها في أول حفل موسيقي راق بقاعة أي بي سي الشهيرة. لم تكن تلبس إلا القساتين السوداء التي أصبحت علامتها البارزة وكأنها تنقل للسواد الضوء من روحها وصوتها. نجحت في ذلك الحفل نجاحاً باهراً وأصبحت حديث الصحافة الفرنسية، وكانت نقطة التحول في مسيرتها الفنية.
في بداية الأربعينات، بدأت إديث بياف تستقر وازدادت شهرتها وأصبحت حديث الناس والمنتجين والمؤلفين وأصبح لديها الكثير من الأصدقاء المشهورين من ممثلين وفنانين وشعراء. إلا أن الشاعر الفرنسي جان كوكتو كان من أعز أصدقائها، حتى أنه حين تلقى خبر وفاتها قال: “لن أستطيع أن أتنفس بعد الآن”، وبالفعل مات بعد ذلك بساعات. أحبت إديث بياف جان كوكتو وقد كتبت له مرة رسالة تقول فيها: ” أريد دائماً أن أحميك من قسوة هذه الحياة، لكن كلما رأيتك شعرت بك تمنحني الحياة”.
لاقت إديث من منتصف الأربعينات و بداية الخمسينات شهرة ساحقة في فرنسا وأمريكا والمملكة المتحدة بالرغم من تدهور صحتها وإدمانها المتنوع وعنادها الدائم وعدم الأخذ بنصائح الأطباء.
كانت شغوفة بحب الناس لها ولم تكن تعتذر عن الغناء مهما كانت ظروفها، فقادها هذا الحب للوقوع في آخر حفلة لم تقبل الاعتذار عنها مع أنها كانت بالكاد تقف.

لست نادمة على شئ …فهذا اللحن يسكنني ليلاً ونهاراً…يا إلهي اجعله يبقى يوماً آخر.. لتصبح الحياة وردية

“هذا اللحن يسكنني ليلاً ونهاراً، يتبعني أينما أذهب، أسمعه حين أكون حزينة وبالأخص حين أكون سعيدة، ليس لحناً جديداً، لحن قادم من أعماق الزمن، لحن عبره مئات الموسيقيين، ويوماً ما سيقودني للجنون…بادام بادام ” هذه بعض كلمات أغنية “بادام بادام Padam Padam” والتي لا يمكن ترجمتها لأنها ببساطة تعني صوت اللحن. ما إن تستمع إلى هذه الأغنية حتى تدرك أنك تحت تأثير سحر يوقع قلبك، فتصمت عاجزاً عن التقاط الحالة التي تذيبك بها.
“أعطني قلبك وروحك لتظل الحياة وردية للأبد…هذه الكلمات من أشهر أغنياتها ” الحياة وردية La Vie en Rose” التي غنتها أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا في منتصف الحرب العالمية الثانية، وهي أكثر اغنيتها شهرة وتداولاً لارتباطها بحدث تاريخي.
من الأغنيات الرائعة أيضاً أغنية ” Milord ميلوغ”، وهي عن الوحدة والفراق. تقدم إديث هذه الأغنية بحب وسعادة تعكس فيها واقع الأغنية. تقول ” تعال ميلوغ، اجلس بجانبي، البرد شديد بالخارج، أنا أعرفك جيداً ولكنك لا تعرفني، فأنا مجرد ظل في الشارع أراك دائماً مثلما رأيتك البارحة مع حبيبتك الجميلة ذات العينين الناعميتن، لكنها يا ميلوغ كانت بلا قلب، لم تكن تحبك. ماذا حدث لك ميلوغ، هل تبكي؟ لا أصدق أن تبكي، تعال ابتسم معي وغن معي وارقص معي..”
أغنية “لا لست نادمة على شئ “No, je ne regretted من الأغاني التي لا أملّ من سماعها وهي بحق أغنية خالدة بكلماتها ولحنها واحساس عصفورة فرنسا الصغيرة بها لأن الأغنية تجسد حياتها كما قالت حين سمعت كلماتها أول مرة. ” لا لست نادمة على شيء، لا على الأشياء الجيدة ولا السيئة، كلها سواء ولا يهمني الآن، كل شيء مضى وانتهى واختفى، كان الماضي سعيداً، تكفيني ذكرياتي الصغيرة ولا تهمني أحزاني ولا سعادتي بعد الآن”
أما أكثر أغنياتها حزناً وعمقاً فهي أغنية “يا إلهي” Mon dieu وقد كُتبت هذه الأغنية لها وللرجل الوحيد الذي أحبته بصدق الملاكم مارسيل كردان إلا أنه مات في حادث طائرة وهو في طريقه إليها. ولم تتعافى إديث بعدها فحملت الحزن والذكريات حتى ماتت وهي تردد اسمه. ولم تتمكن من غناء هذه الاغنية إلا بعد سنة من وفاته. تقول الأغنية ” ياإلهي اجعله يبقى معي أطول من ذلك ليملأ حياتي بالحب ، يوم، يومين، أو ثمانية، فقط اجعله يبقى، اجعله يبقى معي أطول من ذلك مهما فعلت وأخطأت، اجعله يبقى ستة اشهر، ثلاثة أشهر أو شهرين. اجعله يا ربي يبقى معي شهراً واحدا، اجعله يبقى قليلاً”.

أخاف الوحدة أكثر من الموت، وأحب الليل حين يكون مضاءاً

حياتها سلسلة من المعارك بين الغناء والبقاء، بين العيش والحب وهذا ما أوضحه أوليفر داهان مخرج فيلم الحياة ورديةLa Vie En Rose) ) الذي يحكي حياة إديث بياف إنما برؤية مغايرة هدفت إلى فهم بياف وتقديم إحساسها وإبداعها وليس بعرض فصول حياتها فكان ناجحاً بكل المقاييس.

رشح الفيلم للأوسكار وفازت المملثة العظيمة ماريون كوتيلارد التي قامت بدور إديث بياف ونالت جائزة أحسن ممثلة. يكفي أن أعترف أني بعد أن شاهدته عشت أياماً من الدهشة والتأثر والحزن. لعبت ماريون كوتيلارد الممثلة الفرنسية دورها بإتقان رهيب اندمجت فيه حتى تجاوزت مرحلة التمثيل والتقليد والتقمص. لا بد وأن ماريون كوتيلارد خضعت لجلسات مضنية نفسياً وجسدياً من التدريب ووضع الماكياج، لأنها وبصدق لا تجعلك تفرق بينها وبين إديث بياف الحقيقية فاستحقت جائزة الاوسكار بجدارة. الفيلم عبارة عن فلاشات تحكي طفولة إديث ومراحل حياتها الأخرى، وعلاقة تلك المرحلة بكل ما مرت به بعد ذلك. فيلم يجعلك متعاطفاً مع الألم والوحدة والقسوة ويجعلك راغباً في الركض نحو حياتك. إخراج متقن وتمثيل صادق ورؤية تنجيك من الالتباسات. لا داع لأن تقلب صفحات الانترنت الالكترونية أو الصحف القديمة لتعرف كل أخبار وحياة عصورة فرنسا الصغيرة. أورد المخرج وبذكاء شديد النضج الفني والإنساني الذي بلغته إديث بعد معاناتها وشهرتها، حين أجرت معها صحفية فرنسية حواراً بسيطاً عن رؤية إديث حول الحياة.
من هم أصدقاؤك المخلصين؟
الأصدقاء الحقيقيون هم الأصدقاء المخلصون
هل تحبين الليل؟
حين يكون مضاءاً جداً
هل تخافين الموت؟
أقل من الوحدة
ما هي أغلى لحظات حياتك المهنية؟
كل لحظة ترفع فيها الستارة
ماذا سيحدث لو لم تتمكنين من الغناء؟
لن أتمكن من العيش
يكفي أن تشاهد هذا الفيلم لتعرف أن إديث بياف فنانة عظيمة خلقت للحياة والفرح والغناء، فما كل قسوة موت وما كل ألم دمار، وليست السعادة للعظماء.

 

* روائية من سلطنة عمان

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *