تلك هي مدينتكم


العزب الطيب الطاهر *

هو وطن أم جزر موزعة على القبائل التي تتدافع للهيمنة على أجزائه وتقسيم أنحائه . فتيان باللون الأسود وسلسلة ألوان أخرى يتهافتون على النيل من الوطن وجماعة تسعى إلى القبض على مفاصله وجماعات متناثرة تضيق بها العبارة وشعب غوايته التأمل والمدينة تهب عليها الرياح من كل الاتجاهات يسكنها اللهب ودخان منبعث من غازات مسيلة يقذف بها العسس وزجاجات مولوتوف يدفع بها صبية غير محددي الهوية والقصور توشك على التهاوي والنيل حزين مسكون بالوجع مثلي مررت عليه اليوم دموعه ممتزجة بأمواجه التي تتحرك بصعوبة من فرط بكائه المكتوم

من أين ياليلى أبدأ؟

فالشعر صار رمادا والشعراء يتبعهم قاذفو المولوتوف والغازات والدم أضحى من السهولة إراقته. غاب ياليلى الفرسان فرفيقاتك أصبحن في مرمى سهام العدوان وتوحش نفر خرجوا من العتمة. لكسر شوكتهن. لم يعد ياليلى في المحروسة من يهمه أمرك وأمر رفيقاتك بكاء وعويل صياح ولطم على الخدود وصمت حين يتعالى صوت الوجع. ليس معلوما من يسكب الزيت على النار أو يقتل أو يفقأ عينا. أو يصب الألم في صدور الصبايا وأجساد الفتيان

قالت لي ليلى: تلك هي مدينتكم خاب مسعى من يشرع السيف ويقلص مساحة العدل فيها. هي عطشى للحلم سكنتها الأشواق الكبرى للحرية والحق والبراءة. هبت عليكم بعد يناير شموس. ثمة من ينفر منها. من يمقتها. من يسفر عن وجهين حيالها. وجه علني: يحملها على كفيه ويغنيها . ووجه سري: يلفظها ويسعى لتكون نارا وليس نورا يطفئها حتى من بين من تغنوا بيناير

قالت لي ليلى: تلك هي بضاعتكم . تمزقتم. داحس والغبراء فيكم فذوقوا وبال أمركم إن لم تحتشدوا إن لم تستعيدوا عافية المحروسة تطاردكم اللعنات والركلات والخيبات

هممت بالرحيل. مسكونا بالوجع أمضي وليلى تغرقنى في عتمة الأشياء المحروسة تبكي رجالها وليلى تبحث عن الرجل الحلم من يمتلك جسارة الخروج من الوجع من يفسد على الموبوئين الكذابين القتلة بهجتهم بالغنيمة من يكشف أسرار هتك عرض المدينة ويلوح بسيف العدل والحرية من يغزل خبزا للجوعى ويعيد فرحا مسروقا

قلت: ياليلى أعينيني على قول الشعر فقد جف النبع وخفت الهدير وسكنت الأصابع عن العزف تلك هي مدينتنا أبقني بجهتها الشمالية قرب انبثاق شمس جديدة أو قمر جديد فالمدينة تبكي غياب الضوء ورحيل الأحبة وسفر النخيل وسقوط التيجان وصمت النيل أجل ياليلى النيل صامت حدقى في ضفافه لن تعثري إلا على الصمت يفرض سطوته على بهائه القديم

قالت لي ليلى: كنت مع زرقاء اليمامة أفتتني بأن المدينة لن يغيب عنها النخيل ولكن الصمت سيلازم نيلها ما دام رجالها يتصارعون. نفر منهم تفتنه شهوة السلطة. ونفر آخر يقوض الحلم سعيا للشهوة ذاتها. صرنا أنت وأنا ممزقي المشاعر. جوعنا واحد. قهرنا واحد. وعتمتنا لا تنتهي متى تغادرنا العتمة ياليلى ؟

في أنحاء المدينة يسري جبروت. لم تلمسه البشرية من قبل ليست مدينتنا ياليلى دخانها حالك وعسسها موغلون في الوحشية والبراءة سافرت عنها حدائقها خاصمتها الورود أين الأقحوان والياسمين وقوس قزح غاب عن أفقها النائي

ليست مدينتنا ياليلى. مدينة من إذن؟

المتوحشون القتلة الكارهون للشعر . مفجرو رؤوس الأطفال مغتالوا براءة النسوة والصبايا. رافضو الحسن والحسين. مقيمو محاكم التفتيش في الطرقات والحارات. سارقو الأقوات والزيوت. صانعو العاهات وفاقئو العيون ومن يزينون للسلطان وجهته دون حق أو بصيرة

المدينة لم تعد لي أو لك ياليلى. باهتة ملامحها جامحة خيولها. عطشى للدم المسكوب في بياراتها وجداولها وحدائقها. جاثية هاماتها. منحنية قاماتها. النار عنوانها وندى الفجر خاصمها أعيديني ياليلى لأشواقي القديمة ولسيرتي القديمة دثريني بحبلك السرى امنحيني عشق المدينة من جديد

قالت لى ليلى: دثرتك بمحبتي. لكن المدينة حبلى بالحزن فاتكئ على قطعة من شمس. تبتل إلى خالق الأكوان. والسلطان الأعظم صانع المدن والبشر والحجر من يحيي العظام وهي رميم. من أنقذ نوحا وأصناف المخلوقات من فيض الماء الجبار. من حمى الكعبة ونصر محمدا وصحبه كي يضفي السكن على المدينة

أتبتل لك ياالله: لا تدع المدينة لأهلها خذها بناصيتك احمها من شرورهم اهدهم لمحبتها والسير آمنين في طرقاتها ووديانها وسهولها. خذ الغلو منهم. أعد لهم سكينتهم وبراءتهم ووداعتهم باعد بينهم وبين شهوة السلطة أقل عثرتهم ياالله افتح لهم سبل الاقتراب لا تباعد بينهم أعد لهم حبور الوجوه واطمئنان القلوب وراحة العقول افتح بينك وبينهم هم طيبون يارب مستحقون لرحمتك وفضلك وعفوك وعافيتك ورضاك وأمنك

قالت ليلى: يارب لا تترك أهل المدينة غرقى في الوحل وفي النار وفي العتمة. وفي مخاصمة البراءة والوداعة أجعلهم يغادرون غفلتهم وصمتهم وجحودهم وغيابات الجب التي أدخلتهم فيها شهوة السلطة. اذهب عنهم رجس الشيطان والإنسان. امنحهم يارب سرورا بعد وجع. فرجا بعد كرب. صباحا بعد ليل. عذوبة بعد سنوات الملح

السطر الأخير: اكتبي في دفتر أيامي ياليلى: أنى بحت لك بوجعي فتلك مدينتنا بهاؤنا الآتي وزماننا القريب والنائي ورحلتنا سويا إلى المنتهى. تلك المدينة هي من تؤوينا تحملنا. نسكن بين ضفافها لست رافضا لها لكني أمقت من سرقوا بهجتها وأحالوا ألوانها العفية إلى عتمة. فطوبى لمن يعشقها. يصبو إليها ’يكتب فيها حرفا من شعر أو يسكب قنينة عطر بنيلها الفياض أو يلمس كفها بدفء مقصود أو يحمل لها صفاء من قلب يهواها.
_______
* كاتب من مصر .
عن(الشرق) القطرية.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *