* حوار: أحمد عبد اللطيف
من حقك أن تحب أو لا تحب من تشاء لكن واجبك أن تحترم الإنسان.
لا يمكن الوصول إلى جزيرة لنثاروتي إلا بالطائرة، ومغامرة الوصول بمركب انطلاقاً من أقرب المدن الإسبانية تستغرق أياماً. هذه إذن الجزيرة المنعزلة التي عاش فيها الكاتب البرتغالي العظيم جوزيه ساراماجو، الفائز بجائزة نوبل عام 1998، وأحد أهم وأشهر الفائزين بالجائزة العالمية الرفيعة. جاء إليها صاحب “العمى” و و”البصيرة” في بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد أن احتدت الخلافات بينه وبين نظام الحكم في بلده على أثر صدور رواية الإنجيل وفوزها بجائزة الرواية الأوروبية، حينها اعترض بابا الفاتيكان عليها. واستغلت حكومة البرتغال الفاسدة هذه الحادثة لتهاجم الكاتب الذي ينتقدها على الدوام، هكذا قرر ساراماجو فرض النفي الاختياري على نفسه في هذه الجزيرة، وتزوج مترجمته بيلار دل ريو، وأقام في إحدى جزر الكناري الواقعة في البحر المتوسط حتى نهاية حياته.
في الطريق إلي بيت ساراماجو (1922- 2010) ولقاء أرملته بيلار دل ريو، خطر ببالي سؤال اعتبرته حكماً مسبقاً، لكنه ظل يلح عليّ: كيف يمكن أن يكون الكاتب شيوعياً، من أكثر الكتاب المدافعين عن حقوق الفقراء وأكثر المتعاونين مع الإنسان في كوارثه، ويعيش في نفس الوقت في جزيرة فخمة، ومنعزلة عن العالم بهذا الشكل؟ الإجابة جاءتني عند وصولي للجزيرة وتجولي بها، عند مروري من أمام بيته قبل موعد اللقاء بساعة. حينها، بشكل يقيني، أدركت أن ساراماجو أحد أكثر الكتاب اتساقاً مع أنفسهم، إنه يكتب كما يعيش، ويدافع عن مبادئه في الحياة كما في الكتابة. لنثاروتي ليست هي الجزيرة الفخمة التي توقعتها، بل محض قرية نظيفة ومنظمة، كل بيوتها بيضاء بشبابيك خضراء، تتكون من طابقين أو ثلاثة علي الأكثر، لها نفس الطراز المعماري. لقد عاش الرجل في صورة مصغرة من العالم الذي كان يحلم به ويدافع عنه، عالم المساواة. لنثاروتي أيضاً، على ما أظن، صورة قريبة لقرية طفولته التي ظلت في مخيلته حتي لحظاته الأخيرة، كأنه أراد أن يستعيد في سنواته الأخيرة سنواته الأولي، وهو ما يبرر صور جده وجدته في غرفة مكتبه ومكتبته.
التقيت بأرملته بيلار دل ريو في المكتبة، المفتوحة للزيارة العامة من التاسعة صباحاً للثانية ظهراً. وتضم المكتبة آلاف الكتب التي قرأها ساراماجو علي طول حياته التي امتدت ما يقرب الثمانية والثمانين، وصالة قراءة تضم مائدة وتليفزيون يعرض اللقاءات التليفزيونية مع الكاتب البرتغالي وزوجته بالإضافة لأفلام وثائقية عنه. تضم كذلك مكتبه الذي أبدع عليه روايتيه الأخيرتين “مسيرة الفيل” و”قابيل”. أمام المكتبة مباشرة يقع بيت ساراماجوس ويتكون من طابقين، شاهدت هناك المكتب البسيط الذي كتب عليه “كل الأسماء” “العمي” “البصيرة”، “الذكريات الصغيرة”، “انقطاعات الموت”، “الكهف”، وكذلك السرير الذي مات فوقه والفراندة التي كان يجلس فيها، والأنتريه، واللوحات المعلقة على الجدران، وصوره العائلية.
فضّلت بيلار أن نجري الحوار في “مكتبة ساراماجو” محاطين هكذا بكتبه التي كتبها وقرأها وكتبت عنه. بعد أن تجولنا بين الكتب والصور، قلت بتلقائية: “من المؤسف أنه مات”، فنظرت لي بيلار وقالت: “الألم ليس في الموت، بل في الحياة التي يجب أن نحياها كل يوم”. كانت السيدة متأثرة جداً، ولابد أن التجول في أشيائه أثارت لديها الذكريات. بدأت هي الحديث، واستمعت لها:
-ساراماجو كان كاتباً متسقاً مع نفسه بشكل مذهل، كل ما كان يريده في الحياة أن تصل كلمته للإنسان الذي يكتب لأجله. عندما فاز بجائزة نوبل أنشأ مؤسسة ثقافية تحمل اسمه، وعند كارثة هايتي لم يكتف بالكتابة عنها بل تبرع بجزء من أمواله لمساعدتهم. كان يفعل ما يقول، وما يقوله كان وعداً. كان مشغولاً بالإنسان في كل مكان بالعالم، وكان آسفاً علي كل ما يقع من مجازر من صنع البشر أو كوارث طبيعية. أقول لك ذلك لأنني أعرف أنك مهتم بمعرفة ساراماجو في حياته كما عرفته في فنه.
بالطبع، الجانب الإنساني يكشف جزءاً هاماً في كتابة الكاتب، خاصةً عندما يكون من طراز ساراماجو.
جميل، أنا مستعدة للحوار الآن، يمكنك أن تسألني.
*سأبدأ من بداية ساراماجو ككاتب. لقد نشر روايته الأولى، وسّلم الثانية لدار النشر ولم تنشر أبداً في حياته، ثم لسبب لا نعرفه توقف عن الكتابة ما يقرب من ثلاثين عاماً . ماذا حدث بالتفصيل؟ وهل توقف عن الكتابة أم عن النشر؟
- في الثلاثين قدّم ساراماجو لدار النشر روايته “طاقة ضوء” وانتطر أن يهاتفوه ليخبروه بقبول أو رفض الرواية، وظل ينتظر يوماً وراء الآخر، فلم يهاتفوه ورفض هو أن يهاتفهم، قائلاً إنها مهمة الدار وعليهم أن يحترموا الكتاب لأن احترام الكتاب من احترام الكاتب. ولما طال الأمد ولم يهاتفوه قرر التوقف عن الكتابة. كان حساساً جداً، وكان يقول دائماً “من حقك أن تحب أو لا تحب من تشاء، لكن واجبك أن تحترم الإنسان”. هو إذن توقف عن الكتابة لا عن النشر، وانشغل بالعمل. كان ذلك عام 1952. وفي منتصف السبعينيات نشر ديوان شعر بعنوان “قصائد محتملة”. وفي 78 نشر روايته الأولى بعد العودة للكتابة “كتاب الخط والرسم” وتوالت أعماله.
*لكن، ماذا كان يفعل خلال هذه السنوات؟ إنها سنوات طويلة وغامضة في حياة الكاتب؟
ليست غامضة، هو لم يكتبها فقط لكنه كان يتحدث عنها مع المقربين. لقد عمل ساراماجو في بداية حياته ميكانيكياً، وفشل، لأنه لم يكن ماهراً في الأعمال اليدوية بقدر ما كان بارعاً في التنظيم. هكذا قال له صاحب المؤسسة التي كان يعمل بها إنه رجل يحب القراءة والثقافة وسيناسبه أكثر العمل في المكتب، فعمل في مكتب المؤسسة وانتقل من مؤسسة سيارات إلى أخرى كموظف، أثناء ذلك كان يعمل مترجماً، وترجم أعمال تولستوي من الفرنسية كلغة وسيطة، لكن كما تعلم، فالترجمة لا تقيم حياةً، من هنا بدأ بالتعاون مع الصحف بكتابة المقالات كما عمل محرراً بدار نشر. لم يتوقف أثناء كل ذلك عن القراءة أبداً، فقرأ في التاريخ والفلسفة والأدب، وكان يحب كافكا وبورخس وتوماس مان.
*عندما نشر ساراماجو ذكرياته الصغيرة، توقع القراء أن يعقبها ذكريات عن شبابه وشيخوخته، لكن ذلك لم يحدث؟
-لأنه لم يهتم بكتابة العالم وهو ناضج، كان يقول دائماً إننا عادةً ما نتشابه في النضج، بينما في الطفولة نكون في طور التكون. لذلك أراد أن يحكي للعالم من طفولته، حيث المخاوف والوساوس. لهذا كتب ذكرياته الصغيرة، لكنه في المقابل كان يحكي عن فترات شبابه ونضجه. الآن، في مؤسسة ساراماجو، نقوم بإعداد كتاب عن منظوره للكتابة ولماذا كتب، وسيكون في طبعة محدودة، وسيضم جزءاً من حياة ساراماجو الناضج.
*النصف الثاني من أعمال ساراماجو كان من ترجمتك، هل وجدتِ صعوبات مثل التي يجدها المترجمون من لغات أخرى؟ وهل كنتِ تسألينه عما يبدو غير واضح؟
– ساراماجو كما تعلم كاتب صعب جداً، ولم يكن أبداً سهلا على الإطلاق. مع ذلك، على المترجم أن يعرف كيف يحل هذه الصعوبات، وأن يحافظ في الوقت نفسه علي لغة الكاتب وإيقاعها. الحقيقة التي أود أن أعترف لك بها أنني لم أكن أسأله فيما يخص الصعوبات، رغم أنه يجيد الإسبانية والبرتغالية بنفس القدر. حيث أنه كان يرفض التعاون معي، لذلك كنا نتناقش ونحتد أحياناً، لأنه في المقابل كان يقبل التعاون مع مترجمين من لغات أخرى.
*فيما يخص لغة ساراماجو، يمكنني أن أرصد تطور اللغة من ” ثورة الأرض” حيث اللغة الصعبة والمفردات شبه المهجورة الممزوجة مع السرد شبه الشفاهي، إلى لغة “مسيرة الفيل” حيث اللغة السيالة المعتنية بالسرد وتطور الحدث. العمل الأول من ترجمة بالتاسار، والثاني من ترجمة بيلار دل ريو.. هل كان للمترجم أي تدخل؟
-إطلاقاً، هذا التطور حدث في لغة ساراماجو نفسها، والمترجم نقلها كما هي. في “ثورة الأرض” بزغ الأسلوب الساراماجي في السرد لأول مرة، وبينما كان يكتب الحكاية بلغة صعبة تمتزج فيها السخرية بالفكاهة كان يقفز إلى ذهنه الأبطال الذين عرفهم في حياته، هكذا حصل هذا المزيج اللغوي. سأوضح لك الأمر بصورة أخرى: كان ساراماجو يقول إنه في البداية كان يصنع للتمثال عينين وأذنين وفماً وأنفاً، ثم أنه أصبح فيما بعد يعتني بالحجر. هذا التحول حدث مع رواية “الإنجيل كما يراه المسيح” لذلك فالكتاب الذي نحن بصدد إصداره يحمل عنوان “التمثال والحجر”.
*ومن هنا بدأت الفكاهة تميز عمل ساراماجو؟
– نعم، لكن ساراماجو أيضاً تميز في كل أعماله بحس الفكاهة والسخرية.
*كزوجة، ومثقفة كبيرة، هل كان ساراماجو يسمح لكِ بقراءة مخطوط رواياته قبل نشرها؟ هل كان يطلب رأيكِ؟ وهل كان يأخذ به فيعدل شيئاً؟
-أولاً: نعم كنت أقرأ المخطوط قبل النشر لأنني كنت أترجمه إلى الإسبانية، فكما تعلم فأعمال ساراماجو كانت تصدر بالبرتغالية والإسبانية في نفس الوقت. ثانياً: ساراماجو لم يطلب مني رأيي أبداً فيما يكتب، أبداً، ولا أعتقد أن الكاتب في حاجة إلى رأي أحد أياً كانت الثقة بينهم.
* لكن ماركيز مثلا كان يهتم برأي ألبارو موتيس، وهناك الكثير من الكتاب الذين يقدمون مخطوطهم لأصدقاء ليعرفوا آراءهم.
-أعتقد أن ذلك ربما يحدث في البدايات، بعدها يكتب الكاتب ما يود كتابته دون أي تأثيرات خارجية. وعلي أية حال، ساراماجو لم يكن من الكتاب الذين يقدمون مخطوطاتهم لأحد، إنه كان يعرف ما يود أن يقول ويقوله بالطريقة التي يراها الأفضل.
*وهل كان من الكتاب الذين يمسحون كثيراً؟ كم درفت لكل رواية؟
- ساراماجو كان يكتب علي الكمبيوتر مباشرة، وبالتالي من الصعب معرفة إن كان يمسح أم لا، كما أنه كان يطبع الرواية بعد أن يتيقن أنها على شكلها النهائي. في البداية كان يرتب العبارة في عقله، ثم يكتبها على الكمبيوتر. وعندما ينتهي من الرواية كان يقول: انتصرت في المعركة والآن يجب أن ألقي الموتى، والموتى كانوا الكلمات والعبارات الزائدة. أضيف فقط أنه كان يكتب صفحتين في اليوم، ولم يكن يكتب أكثر من ذلك. وكان يقول دائماً: على الكاتب ألا يتعجل وعليه ألا يهدر الوقت كذلك.
*يبدو لي أن ساراماجو كان منظماً في حياته كما كان كذلك في كتابته.
-كان كذلك بالفعل، لكنه لم يكن له طقوس، فلا كان يرتدي الكرافتة الزرقاء ولا كان له متطلبات محددة للكتابة، بل كان يقول إن ما يحتاجه ليكتب هو نفس ما يحتاجه نجار لصناعة كرسي، مكاناً مريحاً فحسب. وكان يومه هكذا: في الصباح كان يفطر ويقرأ الجرائد ويرد على الإميلات ويكتب مقالاً ويراجع ما كتبه في اليوم السابق حتى وقت الغداء. بعد الغداء كان يشرع في الكتابة. بالليل كان يفضل القراءة، وعلى الكومودينو كان هناك دائماً كتاب خيال علمي، كان يحب هذا النوع من الكتب.
*وهل كان يكتب يومياً؟
-نعم بالطبع، كان يكتب صفحتين على الأكثر.
*بما أنك ناقدة ومُحاضرة جيدة لأدب ساراماجو، أين من الممكن أن تضعي اسم ساراماجو في قائمة تضم روائيي القرن العشرين؟
-الأول بالطبع
*ولو كانت القائمة تضم الروائيين منذ بداية فن الرواية؟
-سيكون من الأوائل. انظر، الأمر ليس فيه تحيز لأنني زوجته، أنا أحدثك الآن كدارسة للأدب وكقارئة، لقد أحببت ساراماجو واعتبرته كاتبي المفضل من قبل أن أعرفه. أعترف لك أيضاً أنني كنت راهبة حتى سن الأربعين وأن ساراماجو هو من منحني فرصة الحياة بطريقة أخريى. لكن بعيداً عن هذه التفاصيل، فلننظر في أدب ساراماجو، إنه الأفضل: لقدرته على تحليل العالم، لقدرته علي مهاجمة السلطة، لقدرته على تقديم الكائن البشري، لتحيزه للإنسان، لآرائه الصائبة، لحجم أعماله وجودتها، وقوتها في الوصول لقلوب القراء، لتميزها بالشفقة. كما أن هناك العديد من المجلات المحترمة التي أعدت قائمة عن أهم الأعمال العالمية، وكان من بينها أعمال ساراماجو.
* من وجهة نظرك، ما هو أفضل عمل كتبه ساراماجو؟ ولماذا؟
- لا أعرف، فكل يوم لي عمل مفضل، يتوقف ذلك على استعدادي للقراءة ومزاجي واللحظة التي أقرأ فيها. فأحياناً أختار “الإنجيل كما يراه المسيح” والآن “البصيرة” لما يحدث في العالم من سوء استخدام السلطة، كما يحدث في الربيع العربي، والمظاهرات التي تحدث في أوروبا. لقد توقع ساراماجو كل ذلك، وهاجم السلطة التي تسيء للشعوب. في النهاية “البصيرة” رواية سابقة ترى عالم اليوم ببصيرة واضحة وجلية.
*ما الخطوات التي كان يتبعها ساراماجو لكتابة رواية؟
-في البداية تأتيه الفكرة واضحة، ثم يبدأ في كتابة العنوان، وتتكون الحكاية في رأسه بينما يتنزه ويجلس ليتأمل، ثم يشرع في كتابتها على مهل، هنا تواجهه صعوبات السرد، بينما يكتب البداية وهو يفكر في النهاية. ويأتي كل يوم ليراجع ما كتبه ويضيف الجديد، وبعد أن ينهي الرواية يراجعها ويعدل فيها ثم يطبعها. في “العمى” مثلاً، تظهر له امرأة مبصرة في وسط مدينة عمياء من بداية الرواية. امرأة بلا حجاب ولا تخضع لعبودية، امرأة حرة. هكذا كانت الشخصيات تظهر بهذه الطريقة.
* وما النصائح التي كان يعطيها ساراماجو للروائيين الجدد؟
- ساراماجو كان لحسن الحظ هذا الشخص الذي لا يعطي نصائح لأحد. مع ذلك، عندما كان أحد يسأله كان يقول:”لا تسرع لكن لا تهدر الوقت”. بالإضافة لذلك على الكاتب أن يكوّن نفسه بنفسه طبقا لقناعاته وظروفه ورؤيته.
* ومن كانوا كُتّابه المفضلين؟
من القرن العشرين: كافكا، بورخس، بيسوا، وأضيف إليهم توماس مان أيضاً. ومن تاريخ الأدب: راؤول أنداو (برتغالي) سربانتس (إسباني) جوجول (روسيا) وتولستوي.
* هل قال ساراماجو ذات مرة إنه يفضل بورخس؟
قال ذلك كثيراً، فهو يعتبر نفسه من عائلته. هو يتشابه أيضاً مع كافكا، لكل منهم طريقته في رؤية العالم وتفسيره وتصوره، لكن هناك تشابهاً ما.
*أي نوع من الكتب كان يقرأ؟
– كان يقرأ كل شيء، ويميل للخيال العلمي.
* ومن كان الروائي الأفضل بالنسبة له؟
-من ذكرتهم (تبتسم)
*وكيف كانت علاقته بجارثيا ماركيز؟
كانوا أصدقاء. كذلك كان صديقاً لكارلوس فوينتس الذين زارنا أكثر من مرة في البيت.
_____________________
*رسالة إسبانيا لمجلة ” أخبار الأدب”.