خريف ثقافي… !


خيري منصور

 
ما من نصف ربيع او ربع خريف الا في تقاويم من ذلك الطراز الذي يحوّل الاوطان والقيم الى كسور عشرية، كأن يكون هناك نصف خائن او ثلث وطن او عشرون بالمئة من الاستقلال.
هذه التقاويم التي ليست من صميم الجغرافيا ولا من صلب التاريخ، هي من نتاج انحطاط يتخفى تحت مساحيق تجميل او أقنعة مزخرفة، لأن المسألة هي اولا وربما اخيرا سياقات وتكوينات بنيوية ونسيجية، وغالبا ما تصبح هذه التقاويم والقيم الزائفة والملفقة بديلا للأصول في مراحل يتقمص فيها المغلوب الغالب وفق الرؤية الخلدونية فيحاكيه شكليا فقط واذا كانت هذه الآونة التي نعيشها كعرب ربيعية بالفعل فمن حقنا ان نتساءل عن حصة الثقافة من الغابة الخضراء، وأين هي الان في حمّى هذا النزاع الأهلي الذي بدأ يطفو على الدم والاطلال، ولسنا بحاجة الى تكرار الاحتراز من سوء الفهم بحيث نبدو كما لو اننا ضد التغيير وندافع عن استنقاع قومي دام عقودا حتى تطحلب وعشش فيه العطن، ولعلّ ما كتبناه في هذه الزاوية قبل اسبوعين بعنوان ثقافة إما … أو هو الاحتراز الكافي من التصنيف المانوي لأطروحات معرفية بحيث تكون مع الاتباع والتقليد او مع التنوير والتثوير، فالمجتمعات في حراكها الحالم تسعى الى التقدم ولو خطوة باتجاه المستقبل، لكن عندما يختطف الحراك ويصبح عشر خطوات الى الوراء، فإن المسألة برمّتها تصبح بحاجة الى مراجعة، خصوصا عندما تصبح القوى الخاطفة للحراك مؤدلجة ومدججة على هذا النحو الذي يهدد السلم الاهلي، والمنجز المدني ايضا . المفارقة هي ان خريفا ثقافيا لا تخطئه الا العين الكليلة هو ما نشهد عواصفه الان، فالثقافة ومجمل افرازاتها الابداعية تبدو مهددة بالبطالة، او على الاقل بالانحسار، بدلا من الانتشار، فأين هو غبار الطلع الذي تتلقح به الثقافة في هذا الموسم الاعجف ؟ كان اول ما لاحظته منذ بدء هذا العام هو شحة المنجز الثقافي من خلال ما تقدمه الصحافة والفضائيات من جردة سنوية لما كتب ونشر في العام الماضي . اما التحليل الاكثر رواجا لهذه المفارقة فهو يضاعفها ويضيف اليها بعدا كوميديا خصوصا اذا اقتصر على تصوّر تقليدي وموروث عن انشغال المجتمع بالسياسة أو بأي حراك يتعلق بها، وكأن الثقافة تعيش على فائض الفراغ والرّفاهية، وما يقال عن غياب النّخب كروّاد وطلائع للحراك السياسي يحب ان يقال ومن باب اولى عن غياب التنوير الذي يسبق التثوير ويعبّد له الطرق . لهذا يتورط من يقرأون التاريخ افقيا فقط بالمقاربة بين حراكات حديثة وبين الثورة الفرنسية مثلا، وكأن حقبة التنوير التي سبقت تلك الثورة ومهدت لها محذوفة من هذه التقاويم، ولعل ما قاله جان جاك روسو عن الفارق الجوهري بين الشقاء ووعي الشقاء هو المفتاح السحري لهذا القفل الأعمى، ففي غياب وعي الفقر ووعي الشقاء والبؤس تكون الثورات حكرا على الجياع، وتستعاد المقولة اليسوعية بعد اكثر من الفي عام وهي ان الانسان لا يحيا بالخبز وحده لكن مقابل ذلك فان الانسان لا يعيش بالورد وحده، لهذا كانت الحرية منذ البدء توأم الوعي باستحقاقه وفي غياب هذا الوعي تتحول الى عبء وحمولة باهظة يهرب منه الناس تماما كما عبّر عن ذلك اريك فروم في كتابه ‘الخوف من الحرية’.
* * * * * * *
لاسباب لا يتعذّر تحليلها كانت ثقافتنا هي الحائط الأوطأ في كل حراك تاريخي وثمة ثلاثة امثلة سنتوقف عندها اضافة الى امثولات قد لا يتسع لها المقام . ففي الربيع الأيوبي كان هناك خريف معرفي انتهى الى تساقط وصلب وقتل علماء وفقهاء من طراز السهروردي، ولم يكن ابن المقفع او الحلاج او غيرهما استثناء في هذا السّياق، وبعد هزيمة عام 1967 كانت الثقافة هي الضحية الاولى، بذريعة التقشّف فأغلقت مجلات وتوقفت سلاسل من الكتب في مختلف مجالات المعرفة، وقبل اسابيع فقط، اقترح اصولي مصري تجميد كل ما له صلة بالثقافة والفنون والنشر لمدة عام من اجل تسديد مديونيات اقتصادية، وكان عليه بأبسط بدهيات المعرفة ان يعي المديونيات الاخرى والتي هي حضارية التي ستترتب على هذا الحذف للثقافة من الحياة . حتى في المرحلة الناصرية التي شهدت انجازات كبرى لصالح الفقراء والفلاحين، ومشاريع قومية يعتدّ بها كالسدّ العالي ومصانع الحديد والصلب وتأميم قناة السويس، شهدت الثقافة خريفا في عزّ ربيع السياسة واستطاع سدنة الاتباع والتقليد منع شعراء حديثين مثل حجازي وعبد الصبور من حضور مؤتمرات ادبية في النطاق القومي. الثقافة هي العنزة السوداء في هذا القطيع، واحيانا هي البعير الأجرب في القافلة، لهذا تقلّص ميزانياتها وتكون كبش فداء في اي تقشّف،لأنها ثانوية أو مجرد استكمال لنصاب الدولة، وفي الحالات التي بدت فيها مزدهرة وفي ربيعها كانت تختطف لصالح الاعلام السياحي من خلال مهرجانات تقام باسمها، لكنها تنتهي الى مسخها وتحريفها و’أعْلَمتها’، وبدلا من تثقيف الاعلام الذي لا يزال ابنا نجيبا لشعراء النقائض وأكاديمية الهجاء والمديح التي بدّلت الخيمة ببنايات شاهقة حدث العكس وهو أعلمة الثقافة بحيث توضع كل عرباتها وراء بغال تجرها الى السطحي والمناسباتي والموسمي.
* * * * * * *
ثمة عدوى متبادلة لتهميش الثقافة وتهشيم المثقف اذا اصرّ على ان الارض تدور ونهر الزمان يجري ولا يقطع مرتين، بين الرسمي والشعبي، فالعزوف عن القراءة يؤدي الى جهل المجتمع بمثقفيه، وأدلجة المثقف او تدجينه وظيفيا يفرغه ويطفىء جمرة ضميره، لكن هذا لا يحول دون استدعاء المثقف في لحظة فوزه لترميم نرجسية اجتماعية او وطنية جريحة، كما يفعل الفلسطيني بادوارد سعيد او محمود درويش او غيرهما حتى في حال عدم قراءتهما، او كما قالت فنانة مصرية عشية تلك الكوميديا الرياضية بعد مباراة انتهت بمعركة بين مصر والجزائر، فقد قالت في سياق اعتزازها الوطني ان مصر نالت جوائز نوبل وكأن الجوائز تمنح للجنسيات وغاب عنها ان من نالوا الجائزة بفضل كدهم الشخصي، منهم من عوقب بالذبح كنجيب محفوظ، ومنهم من روى الحكاية كلها كأحمد زويل، هكذا تستدعى الثقافة كترميم او استكمال لكن بعد تجريد المثقف من جوهره ووعيه باطروحاته كي يصبح مجرد اسم يعامل كالنجوم في مجالات اخرى لا تعنيه.
واذا كان لكل ربيع سنونوة تعلنه في الافق، فإن لكل خريف نذره، والتي قد يعلنها غراب يحاول الهديل او سلحفاة تحاول التحليق عاليا، اما مظاهر الخريف من اصفرار وتساقط اوراق وعري وشجن غامض فلا يصعب على المرء ان يحزرها هنا وهناك، ففي هذه الاونة التي قد تستطيل لتصبح حقبة رحل مبدعون في صمت، وكتب ونشر آخرون في صمت، فالفضاء كما الارض مطوبان لاشتباك الديكة التي اصبحت صلعاء وكأن هناك قطيعة بين شعارين احدهما للرغيف والاخر لورد يعفّ عنه الموتى رغم جوعهم.

 

( القدس العربي)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *