* عبد الكريم كاظم
القراءة هي ممارسة الحرية المطلقة، القارئ لا يرضى أبداً بذاته ومكوناته المعرفية وإنما يعرضها دوماً لحمض الاختبار والتجربة والتأمل، إنه يسعى باستمرار إلى نقض ذاته وابتكار الأساليب النقدية لدحض أفكاره، إنه دائم الشك في ذاته، يؤكد ذاته، في القراءة، بنفيها والقراءة، أيضاً، جزء لا يتجزأ من الممارسة النقدية المعرفية، وهذه الأخيرة لا يكون من دونها ولا تكون هي من دونه. إن هذه الإشارات تقودنا إلى ضرورة تفسير العلاقة الجدلية القائمة بين القارئ والكاتب من خلال معنى القراءة.
القارئ وليد إرث إقليمي وبيئة ثقافية لا مهرب منها، والقراءة تلغي الحدود، بين القارئ والكاتب، باتجاه وتقويها باتجاه آخر والسؤال الملحّ حول هذا الموضوع بحاجة متزايدة إلى تقوية اساسيات القراءة بالمعرفة وبأنواع مختلفة من الاطلاع والتواصل أو التفحص والإحاطة النقدية. وإذا شئنا الاختصار فإن القراءة تكتسي أهمية بالغة وتحتل موقعاً معنوياً هاماً من حلبة الجدل الفكري والفلسفي والمعرفي في الثقافتين، ثقافة القارئ وثقافة الكاتب، ذلك أن الفكر الإنساني أو الإرث الثقافي كله أصبح ينظر إلى نفسه في المرآة مقيماً ما بلغه من نتائج ومعالجاً صحة المعارف ومصداقية الكتابة والثقافة والفنون والآداب والعلوم الإنسانية الأخرى.
عندما يستيقظ القارئ فيّ مجدداً ليقول: مهما عمل خيال القارئ في النص تشريحاً وتفسيراً وتأويلاً ليقبض فيه على سر جذبه إليه فإنه يدرك شيئاً وتغيب عنه أشياء، وعندما يغوص القارئ في قراءة كتاب أو بحث ما فإن الكلمات والمعاني والدلالات تنقله إلى عالم جديد من جهة ومن جهة أخرى تكشف عن هوية الأفكار المتحررة وفنية اللغة التي انساقت طيعة من دون أن تستعصي على الكاتب ومن دون أن يقسو القارئ عليها، وهذا ما حافظ من دون أدنى شك على ديمومة التواصل وبقاء همزة الوصل شاخصة بين معنى القراءة والكاتب. ثمة قارئ يستشف بعناء كبير الخطاب الفلسفي والأدبي والعلمي والنقدي المنبثق من تجربة متجذرة في صميم الكتابة الرصينة والوعي المعرفي، ولكن هذه الحقيقة قد تخفي أمرين: الأول هو أن تقنية الكتابة عند بعض الكتاب لا تدخل طائعة أُطُر مذهب أدبي ما حددت قواعده الفكرية المعرفية اللغوية مسبقاً، فقد يستغل كاتب ما انماطاً تعبيرية مختلفة لنقل رؤيته الخاصة لهذا الواقع أو ذلك الحدث أو تلك القضية، والثاني هو ثنائية تكاملية، بين خيال القارئ ومعنى القراءة أو مخيلة الكاتب، وسمت طبيعة القراءة مثلما حددت المنحى أو الأسلوب المتفرد للكاتب وبهذا تتخلص القراءة من الإشكاليات، إن على صعيد المعجم اللغوي الخاص بالكاتب أو على صعيد تقنية الأسلوب الصارم للقراءة نفسها تتجه همزة الوصل في معنى القراءة إلى خلق صورة حسية بين القارئ والكاتب تساعد في الكشف عن ملامح الواقع بكل دلالالته وتعقيداته وبدافع الصورة الحسية تعمل القراءة على تقريب المجرد وتمثيله حسياً، بمعنى الانتقال من المجرد إلى المحسوس سيتم بشكل مفاجئ لا ينبئ به أي سياق نقدي ولا يبرره سوى النزعة التأملية للقراءة الفاحصة في ذات القارئ، فهي وحدها تؤمن الوصل والربط بين العالمين.
يؤخذ النص الأدبي المقروء برمزيته وهيكلية بنائه معياراً يتوكأ عليه القارئ إما في بناء صورة متخيلة متنامية تستمد عناصرها من الواقع العام أو الخاص في النص وتخرجها وفق هيكلية النص المرجع تماماً كما ارتكز عليه الكاتب في حادثة ما أو فكرة ليصور لا حقاً واقع جديد تبعا لمراحل الكتابة. إذا كانت القراءة على هذه الصورة قد تقودنا تلقائياً إلى التفسير فإننا في هذه الحالة نتوقف عند نوعين من التفسير النقدي بميزان الكتابة القابلة للقراءة عند القارئ: التفسير المعرفي المحض والتفسير الواقعي الخاضع للتجربة الذاتية في القراءة.
إننا نسعى من خلال هذه الملاحظات إلى تقويم تجربة القراءة فمثل هذه التجربة تستدعي الاعتماد على متن كبير ومتنوع وهوامش ضرورية ونعتقد ان مثل هذا التراكم لم يتحقق بعد، ولكن قناعتنا تملي علينا القول بأنه لتطور الكاتب لا بد من مشروع كبير للقراءة، ونقصد بالمشروع توفر قارئ يملك مساحة فكرية بمعطيات نقدية متجددة يسعى الكاتب من خلالها إلى بلورة كتابة معرفية جديدة مكملة ومضيئة، ولن يتم ذلك إذا لم يكن هناك قارئ جاد يتابع ما يجري على الساحة الثقافية الكونية وذلك من خلال البحث والترجمة والقراءة المتأنية التأملية وتجاوز كل ما هو سائد وتقليدي ومتداول من خلال اقتراح كتابات معرفية رصينة تمليها التجارب والمعارف والنصوص والأفكار المتجددة، لأن القراءة ليست مجرد تعليق إنشائي على هذا الكتاب أو ذاك بل هي محاولة اخرى لإنتاج المعرفة من خلال محاورة النصوص والاستغراق بما تحمله من دلالات معرفية تآزر المخيلة وتقترح تصوراً نقدياً مغايراً للعلاقة القائمة بين القارئ والكاتب والمعنى، وبالإضافة إلى كل ما سبق فإن استمرار مشروع القراءة أو ديمومة همزة الوصل يحتاج إلى بيئة ثقافية نقية خالية من الأمراض، قديمها وحديثها، والعقد الموروثة والممارسات النزقة أو بيئة منفتحة ومفتوحة تذلل صعوبات البحث عن الكتاب الجيد او البحث الرصين بمختلف انواعه مثلما تبحث عن الكاتب الجيد والقارئ الجاد، لأن القراءة تظل في غالب الأحيان عملاً فردياً، إن استلهامات القراءة المتفحصة تعبر عن إعادة إنتاج تجربة الكاتب ووعيه ومصادره المعرفية المتنوعة ومعارفه الفكرية مثلما تلغي الفواصل وتقفز على المعنى بمخيلة خصبة توازي مخيلة الكاتب تتجمع فيها علامات وعلاقات ومؤشرات معرفية لا نهائية تستدعي الخطوط العامة للفكر والتفكير والتفكر.
_______________
* كاتب وشاعر من العراق (العالم) .
_______________
* كاتب وشاعر من العراق (العالم) .