سردنة الشخصية في(منتعلا الملح..وكفاه رماد) لناصر الظاهري




*كمال عبد الرحمن النعيمي

(ثقافات)

تعد الشخصية من أكثر العناصر فاعلية في بناء القصة،كونها العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده العناصر الشكلية(1) وتتأتى أهميتها المتزايدة من قدرتها ـ بفعل مبدعها ـ على الكشف عن الصلات العديدة بين ملامحها الفردية، وبين المسائل الموضوعية العامة، بمعنى تمكنها من خلق فضاء واصل بين ما هو ذاتي وموضوعي،أو خاص وعام، فتبدو مشكلتها انعكاسا لمشكلة انسانية.
وعلى الرغم من اختلاف تعريفات الشخصية،فإن شبه إجماع ـ من الوجهة النفسية ـ يشير إلى أن((الشخصية هي بناء فرضي،بمعنى انها تجريد يشير إلى الحالة الداخلية والبيئية للفرد))(2)و يختزل محمد عزام الشخصية في القصة العربية إلى ثلاثة أنواع(3)
** الشخص الايجابي: الذي يعمل من أجل تغيير المجتمع نحو الأفضل( الشخص المفلس في النهاية) رغم جهوده ومحاولاته التغيير.
** الشخص السلبي: الذي يعمل من اجل تأييد السائد،واستغلال الوضع إلى أقصى حد،أي انه (الشخص الفهلوي ) الأناني الذي يدوس على القيم لتحقيق طموحاته الشخصية.
** الشخص الاشكالي: الذي يؤمن بقيم ايجابية في عالم منحط لكنه لا يجابه كالشخص الايجابي ولا يخوض في فساد الواقع،كما يفعل الفهلوي،وإنما يكتفي بالرغبة بالاصلاح(4)،وفي ضوء النظر إلى الشخصية من خلال هذه النظرية يقدم ادوين موير أنماطا من القصص،منها قصة(الحدث)،وقصة( الشخصية) والقصة (الدرامية)(5).
ف (قصة الحدث): تصف وقائع غير مألوفة بطريقة تهدف إلى الامتاع،حيث الحبكة فيها تتماشى مع رغباتنا لا عقولنا، وكما تخطط الشخصيات في قصة الحدث بطريقة ملائمة للحبكة،فإن الحبكة في (قصة الشخصية)تهيأ لتوضح الشخصيات،أما (قصة الدراما) فان الهوة فيها تختفي بين الشخصية والحبكة،فالسمات المعينة للشخصيات تحدد الحدث،والحدث بدوره ينمي الشخصية(6).

القاص ناصر الظاهري قاص خاص..وتكمن خصوصيته في قدرته على استخراج شخوصه القصصية من أماكن نادرة وعجيبة في أزمنة وفضاءات بعضها يصعب إيجاده حتى في الخيال،لكن الظاهري يرتدي طاقية الخفاء الإبداعية ويتجول في استراتيجية( الزمكان) ليستخرج منها شخصيات قد لايلتفت إليها أحد أو يشعر بوجودها انسان.. لكنّ ناصراً المبدع يشعر بها ويعيشها ويعايشها لحظة بلحظة ولا يرسم نهاياتها كما يشاء بل كما تشاء الأقدار في قصة(الشيطان لا يسكن الأدوار العليا):
(( في هذا المسجد الذي بني بدون بذخ واضح كعادة الميسورين من أهل الدار،استقرت أسرة نور الدين احمد بادشاه سراج الدين الحافظ، ويبدو من اسمه الأخير أنه ينحدر من أسرة شخص حفظ القرآن كعادة أهل الهند والسند، والذي سيختصره أهل العين بكلمة واحدة المطوع ليغنيهم عن اسمه الطويل،والذي سيغيب عنه شخصيا من كثرة مكوثه هنا لقرابة ربع قرن، ولن يتذكرها إلا حين يسافر إلى قريته في أحد الجبال المجاورة لمدينة بيشاور.
أسرة المطوع ستكبر في المنزل الملحق بالمسجد،فالبنتان زهرة وإخلاص ستبدآن المشي في خير ذلك البيت، والولد ولي أحمد سيولد في حيزه، والبنت الثالثة نرجس كذلك..))(7)،ومن البنت الثالثة(نرجس) بالذات، يتشكل النص وفق(الرؤية الاستقصائية) أولا: والتي تسمى ب(المسح التتابعي)(8) وتنهض على قيام القاص بإجراء عملية مسح واستقصاء لمعالم المكان الذي ستواجه نرجس قبل كل شيء:
(( كانت أحيانا تمشي حافية، وتضع نعليها في يديها أو جيبها،تظل تسمر نظرها في الناس دون أي حديث، تذهب إلى دكان الهندي وتشتري حلوى، وبالكاد تنطق كلمة،فهي تشير إلى ما تريد، وتعطيه قطعة نقدية معدنية تعرقت كثيرا في يدها، وإن كانت لا تفي. يظهر على الهندي حنين غائب لابنته البعيدة ربما، ويسامحها أو ينقصها مما تأخذ إن ظهرت ربوبيته التي تغذيها الغربة المرة))(9) وهكذا عرض (الواصف / السارد) للمكان دفعة واحدة أمام القارئ من التركيز على مكان معين،لأن الرؤية هنا فوقية،مما لا يسمح له بأن يثبت غير الملامح الخارجية العامة للمكان،وهذه الطريقة تتطلب وضع آلة التصوير على محور عمودي أثناء التصوير (10) وبما يؤمن للقاص تقديم منظر شامل لهندسة الفجيعة:
(( وباب صغير ووحيد يطل على مرأى الذئب المهرول عطشا، والذي يحمل في يده المشعرة عملة معدنية،وفي اليد الأخرى علبة حلوى معسلة قادمة من باكستان اشتهاها أبوها المطوع،وضحكت سن الأم التي بلا رائحة، وجعلت من اخوتها يأكلون وينامون،ثم يبكون لأنهم يحبون نرجس،ولا يعرفون كيف يحبونها..
نرجس وحدها ذهبت في وحدتها البعيدة تزكمها رائحة الذئب العطش، وخشونة يده المشعرة))(11).

وفي قصص أخرى من المجموعة يشتغل النص على جدلية( الأنا والآخر) وهنا تظهر قدرة الناص على استمكان تقانات النص في إشراك(الأنا) و(الآخر) في تصنيع القصة من خلال جدليات السارد مثل تقنية (الأنا الساردة ـ بوصفها فاعلا سرديا نائبا عن السارد في ميدان العملية القصصية ـ المركز البؤري الأساس والجوهري،الذي يجب فحصه ومعاينته وتأويله حين يتعلق الأمر بأي إجراء قرائي يغامر باقتحام القصة)(12) ،وهذا يظهر بوضوح في قصة( في المنزل21):
((بقيت انتظر قدومهما، راجيا أن يبقى جيسون يأكل رزا حلوا مع الملائكة،والقطتان لصقتا بالجدار تستشعران دفئا تمنيته أن يطول،والتلفزيون ينهي فلم المساء والسهرة الذي امتد أكثر من اللازم، وأشعرتني رومي شنايدر يومها بأن شاربي ان يخضر مبكرا، وأن أظل أحمل تلك الصورة للمرأة الممتلئة عافية إلى آخر ما تسمح به الرئتان من تنفس عميق،وما تسمح به الأذنان من وشوشة رطبة وقليلة ومعطرة تحت شحمتيهما.
قدومهما المتأخر قليلا الذي نبهتني له كحة متحشرجة من صدر (مستر ديفيد) نتيجة تدخين شبه مستمر من غليون،له رائحة الرجولة،والصبح الضبابي المبكر ،وطقطقة الخشب في منزل انجليزي ،يحمل الرقم 21))(13) ومن خلال المحاورة غير المنظورة(غير المباشرة) بين (الأنا= القاص) والآخر(مستر ديفيد وعائلته بضمنها القطتين) فإن السارد يعيش حالة تأزم من خلال الصورة السردية المتشكلة بمغامرة بل بمقامرة، تعتمد على نظرية أو فرضية قائمة على كف عفريت لا يأمنها ألاتزان ولا تثق هي به:
(( مرت ساعة، وكل شيء كان هادئا في ذلك البيت الانجليزي الذي طقطقة خشبه ولو مشيت فيه كراقص باليه معتزل، وفجأة ..تعاركت القطتان،وضج البيت،وصحا جيسون،والتلفزيون البريطاني عرض فلما ممتعا،وأنا تخربطت حالتي، مرة (احايز)بين القطتين المتشاجرتين بدون سبب،ومرة أسكت جيسون عن البكاء،ومرة توزني النفس إلى متابعة مشاهدة فيلم ليلة السبت))(14) أن مغامرة الحفاظ على هدوء وسكينة المنزل لحين عودة أصحابه هي سلسلة من المواقف الحرجة التي تجاوزها السارد بأعجوبة لم تنته حتى من خلال انعكاس الصورة حينما جاء مستر ديفيد وزوجته إلى الإمارات في دعوة عربية أصيلة من القاص.

وفي قصة(وكر المستعرضين) يحاول السارد أن يخفي (الأنا الناصة) ولا يكشفها إلا من خلال لمحة اعتراضية أو خاطفة في نهاية النص:
(( الذين مع الدكتور روائحهم روائح طلاب أتوا من أماكن بعيدة، وبطريقة مستعجلة،وثمة عطور أنثوية قاومت منذ الصباح حضور الندوات،وركوب سيارات الأجرة،روائح الذين مع رجال الأعمال صابون وكولونيا حلاقة،وروائح سيجار،وسجائر أميركية،مختلطة بعطورهم،هي عادة هدايا من زوجات غير مخلصات دائما.
بين الرجلين كان يجلس انسان خبيث يحصي عليهما دقات قلبيهما،ونبضات أعصابهما، وأنفاسهما الطائرة،ليسجل هذا الحوار الصامت!))(15)
وبين المرئي والمتخيل،تكمن حركية النص،ومن تداخلها ينشأ فضاء مشحون بالحركة والصورة، يثير المتلقي ويستفزه للأبحار في لجج النص لمعرفة وكشف أسراره وصولا إلى الغاية المتوخاة من كل ذلك والمتمثلة بالاستمتاع بلذة النص التي تسجل هنا مذاقا خاصا،نابعا عن شعرية مغايرة تتفاعل فيها اللغة الشعرية للسرد على آليات التصوير لتثمر عن ذلك طاقات جديدة مكتسبة تستجيب لمقاصد الرؤية البصرية،وضرورات اللغة السردية على النحو الذي يتيح للمتلقي فرصة تلقِ مزدوجة،تنهل من جمالية التصوير ذي الرؤية البصرية المباشرة، وجمالية السرد ذي الرؤيا التخيلية(16)
يشتغل عمل القاص ناصر الظاهري في مجموعته(منتعلا الملح..وكفاه رماد) في هذا الفضاء ولا سيما في قصصه(منتعلا الملح..وكفاه رماد)و(الليل..رهان آخر) و(جحر الرغبة) التي تنهض على تقانات العدسة السرد ـ تصويرية،على نحو يسمح بتسيّد الصورة بكل ما تحمله من خصوصيات تشكيلية داخل فضاء السرد،تاركا للأخير مهمة تركيب مكوناته على صعيد التأليف،ومهمة قيادة القارئ أو توجيهه داخل النص على صعيد القراءة.
قصة( منتعلا الملح..وكفاه رماد) تستجيب منذ العنوان للفاعل التصويري الذي يعمل بمعية السرد على بناء النص القصصي سردا وتشكيلا،إذ ينطوي العنوان بصيغته التركيبية على جملتين (الأولى فعلية:بتقدير:جاء منتعلا الملح،أو :رأيته منتعلا الملح) و(الثاني:اسمية: هذان كفاه رماد) أو (وكفاه فيهما رماد) ويمكن أن تكون هناك تقديرات لغوية أخرى،ولكن المهم أن الجملتين (الفعلية+ الاسمية) شكلتا معنى تركيبيا واحدا،هو(الملح:التصحر+ الجفاف) و(الرماد:الخواء+ الفشل)
(( وجرحه الغائر في الظهر بانغماس تلك الحديدة اللعينة الصدئة ببرودة وصلف ملح البحر،كانت تلامس العظم تحكه قليلا وتسير في الجلد،كان لا يتوقع أن تتوقف تلك الانغراسة حتى تصل إلى آخر عظام الرقبة،كان الموت في ذلك اليوم وفي الماء آخر ما كان يتوقعه،بعد كل هذه المعانقة اليومية مع البحر،وهذا التحور الجدي معه،كانت الحادثة انذارا بالغدر،والغدر إن لم يكن من شخص ملاصق فلا يسمى غدرا،وحدها الأنفاس القريبة تستطيع أن تميز،وتستطيع أن تعطي مسمى للحريق الذي يحدث مرة واحدة !))(17) هذا هو الجفاف النفسي الذي حوّل الملح إلى رماد.
وتمتاز قصص ناصر الظاهري باهتمامها النوعي بالتفاصيل وحساسية الحياة اليومية عبر الاحتفاء بعناصر القص التقليدية المعروفة بمسارها القائم على حضور العناصر وفي مقدمتها الحكاية،إذ تستأثر قصصه كثيرا بعناصر الحكاية التي تعد لدى الكثير من القصاصين زينة القصة وجوهرتها ،فعلى الرغم من كل أساليب التحديث والتجديد التي حظيت بها القصة القصيرة في السنوات الأخيرة،إلا أن الحكاية ظلت عنصرا مغريا وفعالا لتحقيق اكبر قدر من التداولية لفن القصة في مجتمع المتلقي.

وقد تنوعت دراستنا لمجموعة القاص المبدع الظاهري على مسارات تشتغل بين الرؤية الفنية، والتقانية المتعلقة بالأدوات،والآليات المتعلقة بحرفية وفنية كتابة القصة،والمواقف والقضايا والثيمات التي اشتغلت عليها التجربة،ومن ثم الجماليات التي حظيت بها على صعيدي التشكيل السردي والتعبير.(18).

قد تبدو شخصيات ناصر الظاهري في كثير من قصصه نمطية وغامضة أحيانا،أوإنها تتعمد ذلك وصولا إلى تكريس هوية ما ،ويمكن عد ذلك أسلوبا سرديا خاصا به، فنادرا ما تجد لديه وضوحا كاملا في الشخصية،حتى وإن دعت الحاجة الحكائية إلى ذلك، فشخصياته بعضها قد تقوقع على ذاته لاترغب هذه الشخصيات بالتصريح ولا الوضوح ولا التمظهر العالي،لذلك نجدها في أحيان غير مسماة ومفتوحة عل الاحتمال التأويلي.
كما أن الظاهري يضغط على بعض نصوصه بنثرية عالية أو ما يسمى بفن النثر المركز،مما ينحو بالقصة باتجاه القصيدة، بما تمتلك الأولى من مؤهلات الشعر من شاعرية ذات ضجيج صارخ ومجموعة لا تحصى من الشعريات،كما في قصة( ليس بالضرورة شاي الخامسة انجليزيا):
((كان فتى كثير السؤال ،ودون غضاضة، واسئلته يدور محورها حول الاستفهام،والاستغراب ،والدهشة،والعجب،وعادة ما يكون يعرف جوابها أو بعضا منه،لكنها إجابات مظللة، ومغبشة،وتستدعي دهشة الآخر،وعجبه،فهو في النهاية لايمسك الآخر شيئا،غير قبض ريح،وحين يجيب الفتى يكون جوابه بطريقة حلزونية، لولبية،يشرّق،ويغرّب،حول كلمات متقاطعة،ومتقاربة،وعادة ما تكون جملا غير مفيدة،لا تحمل أدنى فكرة،ولأنه شخصية شرقية،وتربية شرقية،فهو دائم الاعتذار ،ودائم التأسف،ودائم اللوم للنفس،ودائم هز الرأس،ودائم الحنحنة،والحنحنة والسعال من غير داع، ولأنه فتى يفقد في المدينة الأمومة،ويفق أنوثة الحياة…الخ))(19)
عندما قلنا إن القاص ناصر الظاهري قاص مبدع،فنحن نعرف ما نقول،وذلك أن الغالب من نصوصه يتسم بالإشراق الإبداعي الذي تحتاجه القصة العربية بعد أن كتبها كل من هب ودب وقال أنا قاص وهو ليس بقاص،ومع هذا فنحن لا نصفق للظاهري في جميع قصصه،ففيها هنّات هنا ومطبات هناك على الظاهري أن ينتبه لها ويتجاوزها.
إن الفاتحة النصية هي أهم العتبات النصية ولاسيما فيما يتعلق بالقصة القصيرة لذلك تُعد((واحدة من أهم عتبات الكتابة القصصية لم لها من دور بارز في حسم توجه القصة وتشكيل رؤيتها وبيان نموذجها))(20) وعل هذا الأساس تعمل الفاتحة النصية على الكشف عن مقولات القصة والتمهيد لأحداثها فهي بذلك تكشف عن شعرية خاصة تشتغل على فاعلية التركيز العلامي وتبئيرها في منطقة حيوية مركزة،وعلى اختزال الفاعلية الأدبية للرموز في ظلال هذه المنطقة وضخها بطاقة إشعاع كثيفة تشتغل في منطقتها وتمتد إلى الأعلى حيث عتبة العنوان وإلى الأسفل حيث طبقات المتن النصي، لذلك تعد عتبة الفاتحة النصية،اخطر عتبة بنائية من عتبات الكتابة،كونها تقرر مصير النص(21)،إذ أنها المحرض الرئيس لسحب القارئ المنطقة النص،ولم تحرضنا العتبة النصية في قصة(ليس بالضرورة..)للظاهري للانسحاب إلى منطقة النص واستكشاف مفاصله ومفاتنه وخباياه،الفاتحة النصية لهذه القصة ليست أكثر من (قصيدة كتلة )سحبتنا باتجاه الشعر ،في الوقت الذي كنا نتمنى فيه أن تسحبنا باتجاه القصة…
وعلى العكس من ذلك تماما فإن الفاتحة النصية لقصة (رسالة لم تصل من بغداد!) تأخذنا مباشرة إلى جماليات التشكيل القصصي في النص:
(( إلى زوجتي العزيزة خديجة..
ابني خليفتي من بعدي خالد.. ابنتي التي قد لا أراها..
هذه الرسالة تمنيت أن أوصلها بنفسي، لكنني كنت أخشى الضياع، والموت في عتمة بغداد،حيث كان كل شيء يوحي بالظلمة،والتيه،فكانت أنوار المضادات الأرضية،والصواريخ الساقطة،هي النور الوحيد الذي يمكن أن يدلني على أن الورقة البيضاء لم يملأها الحبر بعد،وان الخط العربي الجميل،فخر أستاذ اللغة العربية ما زال محافظا على اتزانه وانسجامه ونقشه..))(22) ونلاحظ هنا إن نهاية القصة متوازنة مع فاتحتها، فنقرأ النهاية:
((وجدت تلك الرسالة في جيب ممزق،لجثة تحمل ملامح عربية مغاربية في شارع جانبي من بغداد،وبجانبه سلاح خال من الذخيرة،وصدر مليء بالرصاص!))(23).

وإذا كانت هذه القصة تشتغل على نموذج(البطل الايجابي) فإن قصة أخرى تشتغل على المحور نفسه ولكن بأسلوب مغاير آخر على طريقة (البطل الفهلوي) الذي لا يجند نفسه من أجل مبادىء وقيم واضحة،بل بنوع من المغامرات المجهولة التي لا تؤدي إلاّ إلى (غوانتانامو) عل سبيل المثال،لا من باب الإصرار على حماية القيم ولكن من باب سوء التدبير،وذلك واضح في قصة( يمشي على أربع!):
((في السجن الذي دخله احمد بسبب الديون والنصب،وبداية ظهور عنف علني عليه،انفتحت له نافذة جديدة من خلال حديث الحاج عبد الصبور اليومي عن معنى آيات في القرآن، وأحاديث مختارة،وتوجيه طاقة الغضب إلى عدو الدين وعن حورية من باكستان، لم يطمثها إنس ولا جان هي زوجة الدنيا إن هاجر اليها هجرة يحبها الله ورسوله،غير زوجات الآخرة إن استشهد في سبيل الحق، ومال شهري،وإخوان يحبونه في الله ويسألونه العفو والعافية.
ترك أحمد الإمارات واستقر في الجنة الموعودة بها سنوات الجهاد والرماد،غابت أخباره، ولم يكن لأحد أن يذكره أو يتذكره، لولا ورود اسمه في قائمة المرحلين إلى سجن غوانتانامو مربوطا بقوائمه الأربع!))(24).

إن شخصيات بقية قصص مجموعة الظاهري تتسم بالتغاير والاختلاف،ومثال على ذلك قصة ( حجر الرغبة) التي تشتغل على ثنائية التضاد(الشباب/ الشيخوخة) أو جدلية التناقض(الأنسنة) و(الشيئنة) التي يقول عنها كمال أبوديب((الشيئنة هي تحويل النابض بالحياة،المتوهج بالحركة والدفق،إلى جماد، يتناول فضاء من الانبجاسات بحيوية الجسد وشبقية الروح، فيعجنه بين يديه ويخرجه سلسلة من الأشياء الجامدة التي لاتنبض فيها روح ولا تتحرك فيها نأمة من حياة))(25) وتظهر حاسة التشيئن في هذه القصة من خلال شخصية المرأة المثّالة التي تيبست أحلامها وتصحر شبابها وذوى جسمها الجميل،فأخذت تحاول تعويض ذلك بنحت تماثيل للشباب لتذكرها بجمالها وشبابها اللذين ذهبا أدراج الزمن:
((حجر..حجر، ما أروع الحجر،من قال انه لا يطوع؟من قال أنه صخر صوان،كتلة حجر؟حجري ناطق تجري فيه دمائي وعرقي،وتلك الأحاسيس التي أبثها له وحده، تلك الوشوشة والحديث الصامت بيني وبينه،شوق له،بحثي عنه،لا يدخل بيتي إلا حجر منتقى لأن كلام الإزميل والمطرقة ورقص الأصابع والفرشاة،حديث همس له كل المعنى،يكاد يسبر الروح في متاهتها البعيدة.
الآن وحين يستوي التمثال ويصبح كائنا فريدا مكتملا بكل عافية الحجر ،وحلمي المتخيل،وحين تنطق تفاصيل الجسد،ويتهيأ لي بطل أسطوري تهمه الانتصارات،وأتهيأ له مثل نساء المعبد،الشرقات باللذة الصامتة،ينطق الحجر وأغيب في دفئه:حجري غير الحجر !))(26)
وختاما فإن مجموعة(منتعلا الملح..وكفاه رماد) للقاص المبدع ناصر الظاهري من المجاميع الخاصة التي تشتغل أولا على ذكاء الناص وثقافته الواسعة وإدراكه لعبة السرد والسيطرة على مفاتيح القصة القصيرة وامتلاك وعي عال بتقاناتها،مما أهله أن يكون على المحك في امتحان كتابة القصة :هذا الفن الصعب: ومن ثم السيطرة على معطيات السرد و القدرة على إدهاش المتلقي وتأهيل نصوصه القصصية إلى أعلى شعرية قراءة ممكنة كما يقول ادونيس!
____________________________________
الهوامش والأحالات
الشخصية الاشكالية في خطاب احلام مستغانمي الروائي،رسالة ماجستير:حميد عبد الوهاب:2
الانسان،من هو؟،قاسم حسين صالح:13
فضاء النص الروائي،محمد عزام:86
البطل الاشكالي في الرواية العربية المعاصرة،محمد عزام:11
بناء الرواية،ادوين موير،ت:ابراهيم الصيرفي:67
الوجيز في دراسة القصة،لين اولتبنير،ت:عبد الجبار المطلبي :132
منتعلا الملح..وكفاه رماد،مجموعة قصصية،ناصر الظاهري:122
انظر:كتابنا:كلام المرايا:114
المجموعة القصصية:123 ـ 124
10.قضايا الرواية الحديثة،جان ريكاردو:ت:صباح الجهيم:128
11.المجموعة:127 ـ 128
12.شعرية طائر الضوء،د.محمد صابر عبيد:45
13.المجموعة:64 ـ 65
14.م.ن:59 ـ 60
15.م.ن:35 ـ36
16. السرد بالتصوير الحكائي في قصة(صور)،د.خليل شكري: 80 ـ81
17.المجموعة: 16 ـ 17
18.توصيف الكتاب النقدي المشترك(بلاغة القص)،بقلم:د. محمد صابر عبيد:صفحة الغلاف الاخير
19. المجوعة:45
20. بلاغة الاستهلال القصصي ،جميلة العبيدي:39
21. العتبات النصية في قصص كمال عبد الرحمن النعيمي،زهراء الشرابي:90
22.المجموعة:75
23.م.ن:77
24.24
25. انظر: مقاله: جدلية الانسنة والشيئنة،مجلة ثقافات:37
26.المجموعة:90

المصادر والمراجع

الانسان ،من هو؟ قاسم حسين صالح،دار الشؤون الثقافية العامة،بغداد،1984
بناء الرواية، ادوين موير،ت:ابراهيم الصيرفي،مراجعة: عبد القادر القط،الدار المصرية للتأيف والنشر،دار الجليل للطباعة،القاهرة،1965
البطل الاشكالي في الرواية العربية المعاصرة،محمد عزام، الاهالي للطباعة والنشر والتوزيع،دمشق،1992
بلاغة الاستهلال عند سعدي المالح،جميلة عبد الله العبيدي،ضمن كتاب اسرار السرد(مشترك)
توصيف(كتاب:بلاغة القص) بقلم:ا.د. محمد صابر عبيد،(مشترك) دار الحوار ،سورية،2011
جدلية الانسنة والشيئنة،ا.د. كمال ابو ديب،مجلة ثقافات،جامعة البحرين،كلية الاداب،العدد(5)
السرد بالتصوير الحكائي في قصة (صور) ـ بلاغة القص ـ مشترك
الشخصية الاشكالية في خطاب احلام مستغانمي الروائي،رسالة ماجستير ،حميد عبد الوهاب البدراني،كلية التربية،جامعة الموصل،2009
شعرية طائر الضوء(جمالية التشكيل والتعبير في قصائد ابراهيم نصر الله)،ا.د.محمد صابر عبيد،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،2004
10.العتبات النصية في قصص كمال عبد الرحمن النعيمي،رسالة ماجستير،زهراء وليد الشرابي ،كلية التربية ،جامعة الموصل،2012
11. فضاء النص الروائي،مقاربة بنيوية تكوينية في ادب نبيل سليمان،محمد عزام،دار الحوار ،سورية،1996
12.قضايا الرواية الحديثة، جان ريكادو،ت:صباح الجهيم،وزارة الثقافة والارشاد القومي،دمشق،1977
13.كلام المرايا(دراسات نقدية في الشعر والقصة والمسرح والرواية)كمال عبد الرحمن النعيمي، الشؤون الثقافية،تربية نينوى،2011
14.منتعلا الملح..وكفاه رماد،مجموعة قصصية،ناصر الظاهري ،منشورات اتحاد كتاب وادباء الامارات،2011
15. الوجيز في دراسة القصة،لين اولتنبير وزميله،ت:عبد الجبار المطلبي ،الموسوعة الصغيرة(137) منشورات دار الشؤون الثقافية،بغداد،1983
__________________________________
* ناقد من العراق .

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *