د. شفيق طه النوباني *
( ثقافات )
اتخذ النقد الأدبي في اتجاه من اتجاهاته الحداثية منحى يصنف الأدب على أساس جنسي، فركز على أدب المرأة أو المفاهيم المتعلقة بها في الأدب، وقد تعارف النقاد على البحث في هذا المجال بالنقد النسوي منطلقين في هذا الاتجاه النقدي من الجوهر الأنثوي في المرأة بوصفه جوهرا إنسانيا متباينا مع جوهر الرجل الإنساني. وقد جاء هذا الاتجاه النقدي مع اتجاه فكري آخر يسير بمحاذاته وليس في تضاد معه يحاول أن ينقد ويهدم السلطة الأبوية الذكورية الراسخة عبر التاريخ. ولعل من الضرورة بمكان الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الاتجاه الفكري لا يسطح المفهوم بحيث يقصر مجال البحث على الذكورة في مقابل الأنوثة، فهو وإن كان يعيد السلطة الأبوية إلى هذا التمايز وارتباطاته المتنوعة إلا أنه لا يتوقف عند ذلك.
وسأنطلق في تناولي لمجموعة عمار الجنيدي “ذكور بائسة” الصادرة في سلسلة إبداعات عن وزارة الثقافة من هذين الاتجاهين المتصلين، فالناظر في هذه المجموعة سيجد أنها تنطلق من مشروع أدبي يتعامل مع الذكور من منطلق مشابه لذلك المنطلق الذي يصدر عنه الأدب النسوي، أي برؤية مشابهة لتلك التي تغلب على ذلك الأدب، فالمجموعة لا تنطلق من أعراف الأدب الأبوي الذي يرسخ المنظومة الأبوية أو من عرف نقد أو هدم السلطة الأبوية، بل تنطلق من ثغرات المنظومة الأبوية نفسها فتلج إلى نقاط الضعف عند الذكر بالانطلاق من كونه ذكرا.
ومن الطبيعي أن يتميز الإنسان بصفاته الإنسانية بغض النظر عن جنسه، غير أن تناول الإنسان بصفته الجنسية سواء أكان ذكرا أم أنثى يضعنا أمام خصوصية جنسية إنسانية، وقد جاءت مجموعة عمار الجنيدي “ذكور بائسة” لتشير إلى الذكر من منطلق الصفات التي تميزه بوصفه ذكرا في مقابل الأنثى، وقد برز ملمح البؤس في شخصيات قصص “ذكور بائسة” من منطلق صفاتها الذكورية أمام الأنثى، ففي قصة “شجاعة” استجمع صاحب القدم المعطوبة شجاعته ليعرض على زميلته في الجامعة الزواج بها، فردت عليه بالرفض بصورة جارحة لا تراعي مشاعره، أما في قصة “الدحنونة” فلم يكن الرجل فقط يخون خطيبته مع إحدى صديقاته، بل كانت خطيبته أيضا تخونه مع صديقه باسم. ولئن كانت الخيانة في “الدحنونة” لم تصل إلى درجة صريحة فإنها في قصة “حارس البناية” قد وصلت إلى هذه الدرجة حيث اتجهت زوجة الرجل الثانية التي استطاعت أن تحصل على شقة خاصة بها إلى حارس البناية الذي أبدى إعجابه بها أكثر من مرة في حين غاب زوجها عن البيت إثر مشاجرة بينهما.
وينفذ الجنيدي من خلال بعض قصصه إلى أحد أهم المكونات الثقافية في مجتمعنا حيث لا يتجه الذكور إلى ذواتهم عندما يقابلون الجنس الآخر إلا من خلال ذلك المكون الفسيولوجي، وهذا ما يؤدي إما إلى الفشل في تحقيق علاقة إنسانية كما هو الحال في قصة “الديك” حيث لم يستطع صاحب هذا اللقب أن ينظر إلى المرأة التي رافقته في المصعد إلا من خلال هذه الصفة مما أدى إلى فشله في تكوين علاقة إنسانية معها، أو أن يؤدي إلى تكوين علاقة جنسية بائسة في طبيعتها كما هو الحال في قصة “يده التي تركها هناك” التي تتناول التحرشات الجنسية في وسائل النقل.
وقد ولجت مجموعة الجنيدي إلى حالة من حالات الاستلاب لدى الذكر حيث يتحول إلى كائن جنسي فقط ليبدو الفن والتواصل الإنساني فضلة أمام هذا المكون، وقد ظهر هذا الاستلاب بصورة واضحة في قصة “هرولة” حيث يترك الجمهورُ الشاعرَ جماعات جماعات أمسيته الشعرية ليذهبوا وراء فتاة شاهدت الأمسية لحظة ثم غادرت المكان، وما لبث الشاعر قليلا حتى انقطع عن القراءة وذهب في أثر الفتاة.
ولئن بدت الذكورة حالة عضوية فسيولوجية في عدد من القصص فإنها تظهر بوصفها معنى في قصة “عامل المقسم” حيث عرف هذا العامل أسرار الموظفات في علاقاتهن، فصار يلوك الكلام عنهن محاولا التشهير بهن مما دعاهن إلى إيقاع عقوبة مؤلمة عليه تتمثل في ضربه على عورته، وعندما أردْن تنفيذ العقوبة وجدنه بلا عورة. وبعيدا عن المعنى الرمزي الذي يمكن التوصل إليه في هذه القصة فإن المعنى السيكولوجي يحضر بوضوح، فانعدام صفة الذكورة عند عامل المقسم دعاه إلى أن يمارس ذكورته بالكلام، وبالكلام فقط.وإن كانت قصص الجنيدي تقوم في مجموعها على المفارقة في الموقف، فإن قصة “سوفوخليس يدفع الثمن” تتجه إلى حبكة متقنة تتفيأ في تاريخ الرومان في مدينة جرش دون أن تخرج عن ذلك العنوان الذي وسم الجنيدي به قصصه “ذكور بائسة”، فالقصة تتناول حكاية شاب من أسرة رومانية فقيرة أتقن قول الشعر حتى وصل صيته إلى الإمبراطور هدريان الذي أراد لسوفوخليس أن يكون نديمه عندما يصل جراسا، فما كان من الكاهن إلا أن دبر له مكيدة استطاع من خلالها قتله إذ جمعه بزوجة الحاكم يوم وصول هدريان محاولا الانتقام من الحاكم الذي قلص من سلطاته. ويجتمع في هذه القصة المعطيان الطبقي والسلطوي الأبوي ليسلطا سهميهما على سوفوخليس ويقتلاه على الرغم من بروزه الفني الذي لم يكن مدعوما بموقع طبقي أو مكانة اجتماعية، فكان ضحية الصراعات الخفية على السلطة.
وإذا كان المعطيان الطبقي والسلطوي قد أديا إلى تلك النهاية البائسة مع سوفوخليس، فإن السلطة السياسية تبدو المحفز المحوري في قصة “المحاولة الأخيرة لإلقاء قصيدة” حيث يبرز أثر القمع وتكميم الأفواه، فقد انتهى الشاعر الذي ألقى قصيدة سياسية ساخرة إلى ضرب موجع وقاس من الرجل الأنيق الذي بقي وحده أمام الشاعر فيما خرج كل جمهور أمسيته الشعرية.
في ظل هذه الحالة القمعية حيث لا يتوقف القمع على السلطة السياسية وحدها، بل يمتد إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية لا تعود الذكورة متمكنة من السلطة بل ستكون بذلك واجهة لتلقي القمع فتتجرد من معناها الأبوي وتتوقف أمام كوابح الحياة عن ممارسة سلطتها لتتراجع أمام سلطة أبوية لا تقترن بالذكر بوصفه ذكرا بل تقترن بكل معطيات السلطة سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية آلتها الإنسان المتمكّن من أدوات السلطة بمعزل عن الجنس. وكأنني بعمار الجنيدي في هذه المجموعة يحاول أن يضع حدا لتسطيح مسألة الأبوية وقصر نتائجها السلبية على الأنثى.
ولعل قصة “جشع” التي اشترك فيها الزوجان بهمّ واحد هو الخسارة في البورصة عندما اكتشف الزوج أنه لم يكن المغامر الخاسر الوحيد في العائلة يشير إلى ذلك المشترك الطبيعي بين الذكر والأنثى، فالخسارة لم تقتصر على أحدهما، بل عمت المأساة العائلة كلها لتكون ضحية آلة اقتصادية غير مسؤولة.