سؤال الموت ؟ و الكتابة المخاتلة للخلود


حياة الرايس *

( ثقافات )

 

 

“كل شيء منذور للموت إلا ما كتب”
هكذا بتصرف قال قدماء المصريين…
كل الشخصيات والأحداث والأفعال والأقوال يمكن أن تموت إذا لم تكتب وقد قال الأديب الكبير محمود المسعدي
” إن الرجل يكتب تعويضا عن حرمانه من تجربة الولادة عند المرأة “.
ولكن لماذا تكتب المرأة ؟ إذا كانت قد حبتها الطبيعية بهذه النعمة ؟
وكيف استبدلت أنا فعل الولادة بفعل الكتابة ؟
كيف استبدلت الرحم بالكلمة؟
من الذي أوهمني أن الخلود مع القلم وليس مع الولد؟
ومن أطول عمرا الكتاب أم الولد ؟
ولماذا يموت كل أبنائنا ويبقى المتنبي حيّا لا يموت والمعري وابن خلدون؟
ولماذا قالت صاحبة الحانة ” سدروي” لكلكامش مشفقة عليه بعدما أنهكته رحلة البحث عن عشبة الخلود.
“تمتع بهناءاتك وما يولد لك من أطفال
الآلهة أعطت الموت للإنسان
واحتفظت هي بالخلود
وهو ما نحن عليه ولا محيد لنا عنه”
ولكن هل عمل ” كلكامش ” بنصيحتها؟
وهل هناك كاتب يستطيع أن يتمتع بهناءاته وما يولد له من أطفال
دون أن يرمي بنفسه في متاهة مغامرة البحث عن عشبة الخلود؟…

——————–

نشأت طفلة بلا طفولة
فقد غرّبتني احلامي مبكرا عن اترابي و لعبهن
فلم أشارك بنات جنسي اللعب بالدمى ولم تستهويني مسرحية العريس والعروس التى كنّ يقمن بتمثيلها في سقائف وأزقة حيّنا في حومة دار شعبان الفهري بمدينة نابل

كن يمثلن دور العروس و العريس و يحلمن بالزّفة ويضعن قطعا من الدانتيلا فوق رؤوسهن و يثبتنها بتيجان من الازهار و يحملن باقات النوّار في أيديهن …. و انا أرفع بصري عن الارض وأحلق عاليا…. و احلم بتاج مرصع بنجوم السماء ….يتوجني في غير هذه المناسبة …متى و كيف لم أكن أدري بعد؟
مقصيّة عن أصحابي وعن طفولتي ومبلية باحلام شاهقة و كبيرة و ثقيلة على كاهل طفلة لم تتجاوز الرابعة او الخامسة من عمرها…و لم تدخل المدرسة بعد .
أحلام تباعد بيني و بينهن و لكن تفتح لي طريقا نحو السماء ….

كانت الفتيات في مثل سني يلعبن بالدمية / العروس ويحلمن بالعريس وينتظرن الزفاف … وعندما يكبرن قليلا يبدأن في إعداد وتطريز جهازهن استعدادا للحياة الزوجية كأول وآخر أمانيهن في الحياة ….
كنت غريبة وسط، هذه الالعاب و هذه الأحلام….
كما لم يستهويني عنف لعب الذكور
كنت أبحث عن شيء آخر مختلف لم أتبينه في الأول….
لجأت إلى عالم الكبار علني أجد فيه نفسي وحلمي … كانت أمي تأخذني معها أينما ذهبت ربّما لأنني بكرتها فكانت تتخذ مني رفيقة وصديقة ولأنني كنت هادئة ( عاقله كما كانوا يصفونني ) بعيدة عن شيطنة و شقاوة الاطفال .
كنت أتابع حياة نساء ـ دار شعبان ـ و ضاحية ـ باردوـ فيما بعد بالعاصمة مع جاراتنا ونساء العائلة القريبات والبعيدات. …
لم أر شيئا غير الإنجاب والطبخ والغسل و الكنس وكي الملابس وشطف الأرض ومسح الغبار عن الأثاث واستبدال الملاءات على المفارش و نشر الغسيل و جلي الأواني و تغيير الحفّاضات و تحضير الرضعات و تقشير الخضار و تحريك الطناجر و الوقوف امامها ساعات كي لا تحترق …. خدمة للزوج و الاولاد ….
و “هي ” أين هي ؟؟؟؟؟؟؟ كنت أبحث بصمت وهلع عنها …
فلا أجدها…
تلك الطفلة التي كانت تحلم بالزواج والأولاد ….
هاهي قد تزوجت و أنجبت ! فبماذا تراها تحلم الان ؟
هل انتهى الحلم ؟ هل سقطت في الفراغ ؟
لا لم ينته الحلم إنه يتكرّر ….
إنها تحلم الآن بأن يكبر الأولاد … وتحلم بتزويجهم … وأقصى أمانيها أن تعيش حتى ترى أولادهم…
و أنا أتابع في هلع كيف تتحوّل المرأة الى” كائن غيري ” لم يعد يعيش لنفسه بل يعيش للآخر : من اجله و من خلاله…
و هذا اخطر انواع الاغتراب عن الذات في عيني

كنت أحبّ هذا الآخر انا ايضا و لكني كنت احب نفسي ايضا و لا ارض لها ان تعيش من خلاله ومن اجله فقط

وارتعبت من دوّامة ــ دائرة الحلم المكرورــ هذه وخشيت السقوط فيما بدوري… وجزعت من هذا الحلم الذي يحصر كيان المرأة في وظائفها البيولوجية ويقبر كل ملكاتها الإبداعية ….
إرتعبت لارتهان المرأة الكامل للأفراد الآخرين …
رأيت المرأة داخل الخلية العائلية لا تعطي جسدها وزمنها و جهدها و طاقتها فحسب بل تبذل حلمها ورجاء غدها ايضا الى غيرها ….
توظفُ في شخص الرجل زوجا بشكل أخص ثم ابنا كل مطامحها وأحلامها و تجيز له مشروع تساميها وعلوّها على ذاتها وتحققها الأعلى .
كنت ألاحظ بمرارة كبيرة وأنا صغيرة كيف أن القضايا المصيرية والاقتصادية والعلاقات العامة همّ الرجل والرّجل همّ المرأة ، هدف الرجل بناء نفسه ومكانته، هدف المرأة بناء الرجل ومكانته، سعادة المرأة من سعادة الرجل والأبناء.

كنت أشعر على صغر سني أن هناك خللا ما في العلاقة بين المرأة والرجل .
ولشدّ ما كانت عبارة ” وراء كل رجل عظيم امرأة ” تزعجني وتربكني ولا تضعني في مكاني الصحيح كما أنها لا تنصفني فلا تقنعني
كنت أشعر أنها تهمشني وتقصيني وتبعدني عن مدار العظمة تركلني للوراء و تحجبني في الكواليس
ألا يمكن أن أكون عظيمة أنا أيضا ؟ هل العظمة خاصيّة رجالية ؟وهل قدري أن أكون ــ وراء العظماء ــ لا مكانهم …
كانت طموحاتي و أحلامي أكبر من أن تقنعني بالعمل في الظل أو في الكواليس…. وسحبت نفسي مبكرا من صنف النساء العاملات في الظل من أجل الأزواج والأبناء والإخوة والرفاق والرؤساء …
النساء المختفيات في كواليس السياسة والغرف الداخلية في قصور الحكام والملوك منذ أقدم العصور. لم يكن يعنيني هذا الدور الخفي للمرأة كما لم يكن يغويني بل إنه كان يهينني
هل العمل الحقيقي عار يجب أن نخفيه ونكتفي بالتسترعليه في الخفاء مثل التنظيمات السرية أو الأعمال الشائنة؟ هل العمل نوع من الحشيش يجب أن نتداوله سرا ؟
لم أفهم لماذا لا يمكنني أن أكون كائنة بذاتي . لا بغيري !
وبدأت أسحب نفسي من عالم النساء الكائنات بغيرهن لا بذواتهن . قصارى ما تحلم به إحداهن وما يمكن أن تبلغه أن تكون أم فلان وزوجة فلان….
مقصيّة مرة أخرى من عالم النساء بعد ما أقصيتُ من عالم الأطفال ووجدتني وحيدة متوّحدة بذاتي في مواجهة الزمن والموت
مثل كوكب حائر، طاش عن مداره وبقي دون محور استنادي وكان عليّ أن أوقف هذه الصيرورة الهابطة وأخلص نفسي من الإقامة الجبرية في الآخر والاستغراق في ذاته والتمحور حوله زوجة أو أمّا أو عاشقة … وأن أخلع رداء التبعية وأخرج من دائرة القوالب الجاهزة والصورة المرسومة مسبقا والنموذج المقرر سلفا و نمط التاريخية الجاهزة التي تنتظرني كالقدر منذ الولادة لتفتح لي ذراعيها وتطبق عليّ وبدأت أشعر بالاختناق في هذا العالم والغثيان لهذه النمطية البائسة.
كان عليّ أن أخلص نفسي و بنات جنسي من دوّامة دائرة الحلم المكرور هذه التي تختزلنا إلى آلة إنجاب …. لم أكن أشعر أنني معنية بتعمير الكون ولا بتأثيثه بالأرواح والأجساد و لست وسيطة الامتداد البشري وشرطه الاساسي وراعيته ولا حارسة السلالات والتكاثر على الارض ….

كنت أبحث عن مشروع إبداع وتسام …كنت اريد ان أنجب ذاتي باستمرار كما أنجب الأولاد…. مشروع يخرجني من محدودية الوظيفة الجنسية إلى أفق الإنسان … به أنجب امتدادي الزماني والمكاني وأعطي لمراميَ وأحلامي جسدا لا يشيخ ، خاصة وأنني كنت أرى النساء حولي ولازلت … ممن نذرن حياتهن للإنجاب فقط كيف ينتهين وحيدات متروكات متى تجاوزن عمر الخصوبة بعدما ذوت نضارة شبابهن… وحيدات في هامش الهامش بينما يجري البحث عن دم جديد لجندية مجهولة جديدة…

———————

تشبثت بمقعد الدراسة فهو المقعد الوحيد الذي أشعر أنه مكاني الحقيقي . ولا أجلس فيه نيابة عن غيري ولا أحلّ فيه محل غيري كان مقعد الدراسة هبة السماء من رجل خالف تقاليد كل القبلية ليدخلني المدرسة بعدما انتقلنا من دار شعبان إلى العاصمة ويتركني أواصل تعليمي العالي ببغداد ،أبي، الذي أهديته باكورة سموي الأول عن شرطي التاريخي : كتابي ” ليت هندا ….! “
كان مقعد الدراسة منقذي من الزواج المبكر أهرب إليه وأتعلل به بالنسبة لأهلي ولكن في الحقيقة كنت أهرب إلى ــ الحرف ــ لأنه سيمنحني عمرا لا يفنى بالنسبة لنفسي…
بدأ سن الزواج يقترب وبدأت أرتعب وصرت أختبأ في زوايا الكتب بينما بنات جنسي يستعرضن مفاتنهن في حفلات الأعراس ويتوددن لأمهات الذكور…. كنت اتشبث بالحرف وأتسلح به لأقوى على تجاوز ذات مهدّدة بالذوبان الكامل في الآخر، كنت أجاهد للامتلاء بمشروع آخر لكي لا أنتهي عند حدود الزواج والإنجاب كنت خائفة حدّ الهوس أن يأخذني الزواج والأولاد من الكتابة .
فمن منّا لا يعرف كاتبة أهملت الكتابة أو فنانة تخلت عن الفن أو طالبة توقفت عن الدرس عند عتبات منزل الزوجية ….صار هذا المنزل الذي سأدخله مروعي ومنزل كل البلاوي بي
و لم اتزوج الا بعدما اكملت دراستي الجامعية ووضعت تحت مخدتي مخطوط كتابي الاول
ثم إذا لم يكن بد من الإنجاب فلأنجب ولدا واحدا وكان ذلك اختيارا للتفرغ إلى الكتابة وقد اعتذرت له عن ذلك في كتابي عشتار…
” ….. انني انجبت له كتبا بدل ان انجب له اخوة “
ولأخمد هذا الهوس الذي يصيبني من كل ما من شأنه أن يعيقني عن الكتابة قد استقلت من كثير من شؤون الحياة التي يمكن أن تشغلني كالمجاملات الاجتماعية و الزيارات العائلية وحفلات الأعراس والطقوس الهادرة للوقت وللطاقات….
ووجدتني أسلك من جديد نفس تلك الطريق التي سلكها كلكامش منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد رائدا ما وراء بوّابة الشمس لملاقاة جده – أتونيشتم – الذي نجا من الطوفان واكتسب الخلود …. رجعت أنا أيضا إلى جدّي المعرّي الذي نجا من النسيان واكتسب الخلود و غيره كثير سواء كان المتنبي او ابن خلدون ….

وكدودة العنكبوت عششت ما بين الحرف والحرف الذي علق بي وبدا مغريا جميلا لألاء شاقا ثقيلا طويلا عميقا كالدهر…. وتهت في متاهات النسيج وصار الحرف عمقي وبعدي ، حياتي وموتي ، بدايتي ونهايتي ، دافعا عني فجيعة العمر ورّادا عني نكبة الأقدار ، تعويذة أتقي بها من شرور الحياة، وأقاوم بها هلع الفناء وفجيعة الاندثار.
وقد كنت أراني قبل ذلك حفنة تراب تبعثرها الرياح وقت العاصفة لتؤول غبارا وهباء منثورا …
مسكت بيدي على الحرف كالماسك على جمرة في زمن تزاحمني فيه بنات جنسي وتتحدينني في مواجهة الموت بما يتدفق من أرحامهن.
وكما تحمل الأمهات أطفالهن وكما حمل “كلكامش ” عشبة الخلود حملت الحرف ليكون الشاهد الوحيد على الحضور بعد الغياب

 

* قاصة وإعلامية من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *