* يوسف القعيد
لم أصدق نفسي وأنا أستمع لرئيس مصر وهو يفرض حظر التجوال لمدة شهر من التاسعة مساء وحتى السادسة صباحا على مدن القناة الثلاث: بورسعيد والإسماعيلية والسويس.
فلهذه المدن مساحة مؤكدة في حبة القلب، في مواجهة العدوان الثلاثي كانت بور سعيد عنوانا على الكبرياء الوطني، وأيامها عندما كان الإنسان يقابل مواطنا بورسعيديا كان ينظر إليه كأنه كائن من نوع خاص.
ثم إن المظاهرات لم تكن في المدن الثلاث وحدها، والشهداء لم يكونوا فيها فقط. كانت هناك مظاهرات في القاهرة وفي الإسكندرية وفي دمنهور وفي الزقازيق وفي المحلة الكبرى وفي المنصورة، في كل بر مصر.. فلماذا التركيز على مدن القناة التي رفعت شرف الوطنية المصرية في حروبنا ضد العدو الصهيوني، وتولت الدفاع عن الوطن نيابة عنا جميعا؟
بور سعيد جزء من الوجدان الوطني.. ما من حرب من حروب التحرر الكبرى إلا وكان لبور سعيد مكان ومكانة فيها، رفضت العدوان الثلاثي، وقفت ضده.. ضربت أمثلة للدنيا كلها على الصمود وعلى الكفاح وعلى قهر عدوان شاركت فيه إنكلترا وفرنسا والعدو الإسرائيلي.
وقالوا عنها في كل مكان من العالم: ستالينجراد الشرق، لكن المشكلة أن من يحكمون مصر الآن يحاولون محو الذاكرة الوطنية وإلهاء المصريين عن تاريخهم وتدمير الماضي الحي في نفوس المصريين.
لو أن رئيس مصر هنا والآن يؤمن ويعرف أن الغناء من أساسيات العمران، وأن الإنسان الذي لا يستمتع بالغناء ولا يحب الغناء، لا بد وأنه يعاني من خلل ما لا علاج له، ولو أنه استمع إلى شادية الغناء المصري والعربي في النصف الثاني من القرن العشرين وهي تغني:
– أمانة عليك أمانة
يا مسافر بور سعيد
أمانة عليك أمانة
تبوس لي كل إيد
حاربت في بور سعيد.
ولو أنه كان يذهب إلى السينما وكان يؤمن أن من يحب الفن لا يمكن أن يتطرف وأن حب الفن يجعل محب الفنون يحب الإنسان ويقبل على الدنيا ويحافظ عليها ويدافع عنها.
لو أنه شاهد فيلم: «بور سعيد»، ورأى فيلم: الله معنا. لأدرك ملحمة الناس البسطاء الذين صنعوا هذا النصر العظيم الذي بهر الدنيا كلها، لكن يبدو أن قلة من المصريين لا تريد أن تنبهر بإبداع الإنسان المصري العظيم.
والسويس حكاية أخرى… مدينة ولا كل المدن، مدينة تلخص وطنا بأكمله، ذهبت إليها بعد حرب السادس من أكتوبر في أول يوم تم رفع الحصار عنها وشاهدت ما لم يتوقع الإنسان أن يراه، وسمعت ما لم تسمعه أذن وأحسست بما لم يخطر على قلب بشر، أعود مرة أخرى للغناء، وأسأل: هل استمعوا لأغنية محمد حمام:
– يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي
أستشهد تحتك وتعيشي إنتي
يا بيوت السويس يا بيوت السويس
كان الشهيد الأول في الخامس والعشرين من يناير 2011 من أبناء السويس. والشهيد الأول للثورة الثانية في يناير 2013 كان أيضا من أبناء السويس، ويبدو أنه ثمة تعاهد بين المدينة وأبناء المدينة وفكرة الاستشهاد دفاعا عن مصر وأهل مصر. يبدو أن أرض السويس لم تشبع من الدماء، وكنت أتمنى أن ترتوي بدماء الأعداء إن فكروا في العدوان علىها، أما دماء أبنائها فيجب أن تكون مصونة.. فيكفي ما قدم أهل السويس من تضحيات حقيقية في كل حروبنا مع أعداء الوطن.
..وقناة السويس ليست مجرد مجرى ملاحي نحصل منه على أموال الدنيا بسبب مرور السفن فيه من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال. فقبل أن تجري فيه المياه. كانت دماء الذين حفروا القناة من فقراء الفلاحين المصريين قد ملأت المجرى. إن السخرة في حفر قناة السويس توشك أن تكون قصة متكاملة الأركان.
لم تجد من يكتبها بعد، صحيح أن الروائي المظلوم عبد الرحمن فهمي. حاول أن يكتب ملحمة حفر قناة السويس في رواية ضخمة كان عنوانها: الذئاب والفريسة، لكنه لم ينجز إلا الجزأين الأول والثاني من الرواية، ومضى عن عالمنا من دون أن يكمل روايته.
وأعود للغناء… الملاذ الأخير لنا في محنة هذه الأيام التي كتب علينا أن نحياها، وما كنت أحب أن أعيش في مصر حتى أعاصر تلك الأيام المرة… هل استمع الرئيس لأغنية:
– يا سايق الغليون
عدي الكنال عدي
وقبل ما تعدي
خد مننا ودي
يا سايق الغليون.
هل يمكن أن يفكر إنسان مصري، رئيسا كان أو غير رئيس في أن يعاقب مدن القناة الثلاث بقرار حظر تجول؟، مع أن المدن الثلاث عبارة عن حكايات من دفتر الوطن.. حكايات من ملحمة الدفاع عن مصرنا العظيمة… وأهل المدن الثلاث لا بد وأن يكونوا في مقدمة أهل مصر الذين يحرصون على استقرار مصر وحياة مصر وكرامة مصر.
ليت الرئيس شاهد فيلم: إسماعيلية رايح جاي، ورأى تلك العلاقة الفريدة بين المدينة الجميلة، المدينة الكوزموبولوتونية التي تعد عمارتها شاهدا على حلم الخديوي إسماعيل ومن جاءوا بعده بجعل مصر قطعة من أوروبا… لا تسخر من الهدف، لأنه حتى هذا الهدف الذي قد لا نتفق عليه. فمصر يجب أن تبقى مصر قبل أي اعتبار آخر. لكن هذا الكلام جعلهم يتركون لنا مدينة تحب أن تتمشى في شوارعها. وأن تشاهد مبانيها. وأن تصافح بعينيك جميع المرئيات فيها.
قال عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته العبقرية. إن صناعة الغناء هي أول صناعات العمران. وأن انتهاء صناعة الغناء ينذر بانتهاء العمران نفسه. فهل وصلنا إلى هذا المربع؟ لا أحلم لبلادي بهذا المصير. ولا أتمنى أن أكون معاصرا له ولا جزءا منه. ولا أن أشهد ما يجري لمصر أبدا.
* قاص من مصر.
(الراي) الكويتية.