فضائل العاطل عن النسيان


موسى حوامدة

 
مسَّني غامض كدتُ أنساه
قلتُ أقلعُ عن عادة التذكر
وأنسى
فنسيت أن أنسى.
….
أنتحي جانبا،
وأقول للنسيان لا تذكرني؛
كنت وضعت ذاكرتي قديما في خزانة التناسي،
ظل يهرب مني اليقين
كغيمة تقطر ندى منسيا.

تعلمت التذكر في مدينة الأسى،
ذبحت للصبايا حصاني،
لم يكن لحما ذاك الشواء،
لم أجد ناراً في موقد الحطب،
ولا صبابا يسترن أنوثتهن قرب الغدير.

تيممت بالكافور،
لم أنتش عطرا،
لم تحركني ريح تهب من فيحاء التناسي،
لم تمسّ وجهي شفاه النسيم
لم يبُل عطشي مطر الحيرة.

أنتحي ركنا معزولا
أدندنُ أغنيةً مجروحةً
لا أعرف كلماتها بالترتيب،
أفرُّ من نمط الإيقاع
إلى كونشرتو الجنون المحمل بالذهول
ذهول المايسترو العبقري
العبقري الذي لا يضيف للحكمة وتراً جديدا،
يحتضن طفل التأمل صامتا
يسكن أوراق الكتب الدفينة في ذاكرة الكهوف القديمة
يمشي على خطى تتلاشى
في البعيد.

أعرف أن الوصول للنسيان نسيان آخر،
لا يحيرني إعجاز البلاغة
لا يزعجني خلاف النحويين
تحيرني بلادة المؤلفين المحترفين بنقل الخمول المعرفي
بلا ظن ولو ظل خفيف!

أنت يا لغة التذكر والذكريات
يا لغة الحنين المريض
اتركيني تحت شمس النوم محروراً
أبعديني عن منشطات الذاكرة
دعيني أعيد توضيب الخسارات
لا انتصارات في سيرة الكائن العاطفي
دعيني أنسى ترويض حيوان الذكريات.

نسيتُ نفسي على سرير الدهشة
واقفا مثل ذاكرة بليدة
نسيت أن أقول للتذكر:
لا تتذكر ما يعكر فضيلة الاستذكار،
لكن الجروح التي لم تبرأ من الذكرى
لم تنس أن تذكرني بأن النسيان مستحيل
لم تنس أن تنبهني أن الوصول إلى الكمال نسيان موتى.

سأنسى كل ذكرى
وأنسى….

هل ينسى الأحياء أنهم كانوا أمواتاً
هل ينسى العشاق نسيان المواعيد التي كادت تنسى عشاقها؟

فضائل يحفظها العاطل عن النسيان
لو ينسى المرء نسيانها،
يحمل ظل ذكرى واحدة،
تطير ويطير،
لا كما يفعل الحمام
لا كما تفعل الملائكة
بل كما تفعل الجريمة الأولى..!

 

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *