الشعراء الأتراك: رقصُ الغاباتِ يَسمعُونَهُ من بَعيد ويَجيدونَ تَفسيرِه




قيس مجيد المولى

( ثقافات )

يتفردُ بعضٌ من الشعراءِ الإتراك للإفادةِ من موجوداتِ الطبيعة ولعل التشكيلِ الجُغرافي لتركيا ومكونات هذه الجُغرافيا من الجبالِ الشاهقه; والتي تنحدرُ في نهاياتها الى الوديان الخضراء وكذلك سهولها المكتظة بالزراعه وقُرى الفلاحينَ التي تتوزعُ على إمتدادِ إتجاهاتِها الحدوديه، إضافةً إلى مناخِها المطير وغاباتِها التي تُعَرشُ على أعالي الجبال ، وطرقِها الميسميةِ بين تلك القرى وحوض البسفور الذي يلتقي به البحران الأبيض والأسود عند مدينةِ إستنبول، وماتركَهُ الأتراكُ العثمانيونَ عند فتح القسطنطينيهِ حيث أبقوا على الشواهد الحضاريه لمركز الإمبراطوريه الرومانيه من موروثاتٍ على الأرض، وما أضافهُ الأتراكُ لهذه الشواهد من مزاوجةٍ للبعضِ، ومن مغايرةٍ وتجديد مغاير للبعض الآخر، وكذلك الاستفادة المادية والروحيه من التراث الإسلامي ، والذي أعطى بعداً جمالياً آخرَ لهذه البيئة إضافة إلى ما تزدحم به مدنهم من كثرةِ أسواقها وعرباتها ومناراتها التي تواجه الإتجاهات الأربع وجمال نسوتها الساحر. وإذا ما أضيف إلى كون تركيا تقع ضمن قسمين من القارات ففيها القسمُ الآسيوي وفي طرفها الآخر القسمُ الأوربي ولا شك بأن شعراءها قد جمعوا تلك المدلولات المفيدة التي زخر بها الشرقُ الحالم والغربُ المتمرد فزاوجوا بين رُقي المعنى ورقي دالة طبيعتهم ، فتحررت ذهنيتُهم مما لا يتناسب مع إحاسيسهم الشفافه المرهفه فخرجوا الى الحياة بما بنته الحياة نفسها، لهم وبذلك تهيأت لهم فرصةَ التعبير الأدق عن مكامن الأنسانية التي خُبئت كقصص وحكايا ونداءات بين ثنايا ماتقع العين عليه، فلذتهم مكشوفة ومعلنة، وليست هناك أسرارٌ ورمزياتٌ يخفونها بين طياتِ ثياب أشعارهم، فأعينهم وهم في بيوتهم تتبع ثيرانهم التي تحرثُ الأرضَ ورقص الغابات يسمعونه من بعيد ويجيدون في تفسيره، أما عراك ديكهم مع الفجر فهو بداية أول بيت شعري لهم، ومن هنا وهناك توسعوا ومن توسعهم عَبروا بصميمية أدق عن عاطفةٍ غير قابلة للضغطِ أو التفككِ لأن معانيهَم صورهُم التي أمامهم أعادوها إلينا بصدقهم في التعبير والتي شحنتها لهم الطبيعةُ بإختلاف تضاريسها وشكلها الملهم; والتي تعطي أكثر من إيحاء ونشاط تعبيري عميق لذا كان اشتغال بعض الشعراء الأتراك على هذه المكانية الجغرافيه يكمن في الوصول إلى ماتفرزه طبيعتهم من الطاقات المنتجه التي تضعها أمام الشاعرلكي يتمكن من إخراج المعنى من الحالة الوصفيه المحددة، إلى فتح مجالات مناوبة وبدائل قادره على نقل المشهد المأثور من مخيلة المتلقي وإحلال الاغراء المقصود وهو الواضحُ والمبسط وضمن هذا التحديد تأتي قصائد (إلهان برك ) وقصائد ( أرول بهراموت ) و ( أحمد عارف )
يقول (إلهان برك ) وللتدليلِ على استخدامهِ للغه التي ذكرنا وطريقته في حشد المعنى يقول :

وجهك
الطرقات
التي تنحدر نحو البحر
حينما أنحني على وجهك أنا
وجهك الأسواق
فاتحة مبكرة

وضمن هذا التوجه في التعامل مع المستخدمات يقول (بهراموت ) :

في قرى قصية
تنشر الريحُ صوت السماء
تختفي ببطء
أجساد الجبال في العتمةِ
لقد أمضيت حياتي في القرى
هذا الحزن الرمادي للمساء
ظل في قلبي

كما أن هناك البعض الآخر من الشعراء الأتراك يميلونَ إلى تكثيفِ الصورةِ الشعريةِ المجزأة ذات المعنى الدلالي المفتوح ،والتي تلتقي في تكوينِ أكثر من فكرةٍ دون الحاجة للوقوف على الفكرة المركزيه وهو نمطٌ من الاستخداماتِ الشعريةِ الذي شاعَ ضمن توجهات الشعر الإنكليزي والشعر الألماني تحديداً، وهو أمر طبيعي أن تكون المناقلةُ الشعريةُ واردةً كنتيجةٍ طبيعيةٍ لموقع تركيا الذي ذكرناه وبدء شيوع النظريات الأدبيه الجديدة بعد الحرب العالميةِ الأولى والجدير بالانتباه لهذه المجموعةِ من الشعراء الأتراك فقد كان خروجها على دالإتها المحلية وموجودات الطبيعة الغنية خروجاً مدروسأ ومقصوداً على أساس إيجاد علائق شعريه أخرى أكثر قابلية وتأثيرا في مقاصد شعريتهم ، وقد يبدوا لدى البعض بأنهم خضعوا لموجة المتغيرات التي ذكرناها .
لقد قدمت هذه الجماعة من الشعراء الأتراك قصائد تثير التأمل وتستحق القراءة لأكثر من مره وتنحو إلى عدم التركيز في جمع التفاصيل وتكون مدياتها في أكثر من إتجاه وتحمل أكثر من موضوع في موضوع وتضم هذه الجماعه شعرياً (أس أيهان ) و(كمال سُوريا ) (ميتيو لالهول ) وفي هذا النموذج الشعري المختار يقدم (إس أيهان) ماأشرنا اليه حول توجهات هذه المجموعه الشعرية :

ها هو هذا بهلوان مرح . أتى من البحر. في ساعه متأخرة من الليل . أطفأ القنديل . ينام في الجهة التي بكيت فيها . فراشة ثقيلة على الصدر . أدراج مهشمةٌ في الداخل .قطٌ أسودٌ بلا عينين يمرُ في الطريق. في كيسٍ يوجد طفلٌ مات تواً أجنحتهُ ظلت خارجَ الكيس .

أما القسمُ الثالثُ من الشعراءِ الأتراك، فهم اولئك الذين تَعلو الذاتُ لديهم في صراخٍ وجداني مقفل وكأنهم يوجهون رسائلَ استرحام من عذاباتهم لعذاباتهم لذلك نقرأُ بين سطورهم أعلى درجات التحسس الشعري عن أقرانهم الشعراء الأتراك الأخرين، وتحسسهم هذا يعطي تدفقهم الشعري جملا شعرية كاملة المعنى وهم يبتعدون عن التجزئة ويهتمون بوحدة الموضوع، واشتغالاتهم تقوم على أساس توضيح الأسباب ثم اتخاذ الموقف الذي يبنى على التمسك بالذات وهم حين يبتعدون بتحسسهم الشعري عن شعراء آخرين فهم يتشابهون في اختياراتهم لمفرداتهم الدالة. والشعراء الذين ذكرناهم في المجموعة الثانيه لا تظهر في قصائدهم ملامح بيئتهم ظهورا مباشراً لكن روحاً نسبية من البيئه تظهر في بعض ما كتبوه. وتضم هذه المجموعه الشعراء (حلمي يافيز ) و (أحمت أرهان ) و (أجه أيهان ) .في قصيدتهِ كالظل يقول( أحمت أرهان) :

يلاحقنُي الناسُ بنظراتهم . إثر عيونهم فوق وجهي
حصنتُ معقلي الداخلي .في برجِ الوحدةِ الأخير
أبتعدُ في صمتٍ وحيداً
كالظل
في سفحِ حائط

مما ذكرت وددت أن أُقدم بعض الخصائص الرئيسة التي امتاز بها وبالأخص روادُ الحداثةِ الشعريةِ الثانية من الشعراء الأتراك وفق منظور التكوينِ والاستخدام .

– الصور على التوالي :

الهان برك

أحمد ارهان

اس ايهان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *