* إبراهيم العريس
ربما يبدو شعر ألفريد دي موسيه، اليوم تقليدياً وقديماً جداً، بل مفعماً بقسط لا بأس به من السذاجة الرومانسية التي تجاوزها، ومن بعيد، حتى معاصروه من الشعراء الفرنسيين، ناهيك بالتالين عليه وصولاً إلى شعراء العصور الحديثة الذين يمكن أن يعتبروا شعر دي موسيه، مقارنة بشعرهم، مجرد ألعاب أطفال. غير أن ما يقال عن شعره لا يمكن أن يقال عن أعماله الأخرى، من المسرحيات التي لا تزال تمثل حتى اليوم وتفتن الجمهور، رغم طابعها الرومانسي هي الأخرى، إلى كتاباته النثرية ولا سيما منها عمله «اعترافات فتى العصر»، ذلك النص الذي يكمن جزء كبير من أهميته في كون مؤلفه عبّر فيه عن نظرته إلى نفسه وإلى حياته الشخصية، في الوقت الذي عبّر، بقوة وإن مواربة، عن صرخة جيل بأسره من الشبان الفرنسيين الذين ولدوا وترعرعوا في عز مرحلة الأمجاد النابوليونية، ثم ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم وقد حرموا من تلك الأمجاد، ضائعين في وطن بات بالنسبة اليهم أقل من عادي بعدما هيمن طويلاً على أوروبا وغير أوروبا.
> هذا الجانب من دلالة «اعترافات فتى العصر» قد لا يبدو واضحاً عند القراءة الأولى – (البرّانية) – لهذه الرواية، وكذلك لا يبدو واضحاً لمن لا يضع الرواية وما تعبّر عنه، في سياق التاريخ الأوروبي، خصوصاً أن لغة دي موسيه وأسلوبه فيها، جاءا ذاتيين مليئين بالكآبة على خلفية قصة غرام وغيرة تبدو للوهلة الأولى شديدة العادية. غير أن هذا العمل، مثل غيره من الأعمال الكبيرة، لا يسلّم أسراره دفعة واحدة، بحيث يظل هناك نوع من سوء التفاهم يسيطر على علاقة القارئ بالنص الذي يقرأه، حتى يمعن فيه ويحلله ويربطه بأسبابه وبيئته ونتائجه، ليطلع من كل ذلك بنظرة مغايرة تماماً. ولعل هذا الكلام ينطبق أيضاً على رواية عربية أثارت حين صدرت ولا تزال قسطاً كبيراً من سوء التفاهم، ساهم في صرفها عما توخّاه منها مؤلفها ولو عن غير وعي منه، وهذه الرواية التي نعنيها هنا هي «البيضاء» ليوسف إدريس. فـ «البيضاء»، مثل «اعترافات فتى العصر» رواية تهدف إلى فضح الذات وإدانتها، من خلال تصوير «البطل»، الذي هو في الحالين صورة من الكاتب نفسه، في «نذالته» وهشاشته ومثالبه وقد دمّر حياته وحبه على مذبح شكوكه وعقده، وذلك لأننا في الحالين أمام «بطل» ولد في رحم مرحلة انتقالية، سياسياً واجتماعياً، فكان أن صنعته تلك المرحلة، وإذ يعبر لنا في كتابته عن صراعات، فإن هذه الصراعات إنما هي صراعات جوّانية، يخوضها الجانب المضيء فيه (جانب العاشق في الحالين) ضد الجانب المظلم. والحال أننا إذا لم نفهم هذا الجانب من علاقة الكاتب بـ «بطله» ووصفه إياه، سنعجز عن إدراك قيمة «اعترافات فتى العصر»، كما عجز كثيرون من النقاد والقراء العرب عن إدراك قيمة «بيضاء» يوسف إدريس، فأعملوا فيها شتيمة وتنديداً وهم يعتبرونها، وهي ليست كذلك، عملاً يسيء إلى الحركة النضالية اليسارية المصرية في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته، مع أن القراءة الواعية تقول لنا إن الكاتب إنما دان بطله/ نفسه لا أكثر.
إذاً، بالنسبة إلى القراءة المتأنية، تنتمي «اعترافات فتى العصر» إلى أدب الاعتراف، ومن الواضح أن ألفريد دي موسيه شاء منذ العنوان أن يضعها في سياق ما، مع «اعترافات» جان جاك روسو. ولكن، شتّان ما بين هذا وذاك، إذ حين يكتب روسو مئات الصفحات واصفاً حياته مبرراً عيوبه، شارحاً ومفسراً ما غمض من أيامه ولياليه، يكتب ألفريد دي موسيه كاشفاً داخله، متّهماً ذاته من دون مواربة، غير محاول الوصول إلى أي تبرير. أما المجال الذي يستخدمه دي موسيه للوصول إلى هذا فإنما هو، في الخلفية، حكاية غرامه بزميلته الكاتبة جورج صاند، وفراقهما وإساءته إليها وصولاً إلى تدمير ذلك الحب الرائع الذي، هو بدوره، لا يزال قادراً على أن يفتن حتى يومنا هذا.
لا يقدّم ألفريد دي موسيه شخصيات روايته بأسمائها الحقيقية. وكذلك لا يتوخى أن تكون الأحداث المعروفة مروية كما حدثت تماماً في الواقع. إنه، على العكس من هذا، يستعير الأحداث الحقيقية، كما يستعير الأشخاص الحقيقيين، ليروي حكاية تختلف في بعض التفاصيل عن حكايته. غير أنه لا يحاول، طبعاً، أن يجمّل من مواقفه، بل يمعن في جلد ذاته أكثر وأكثر، وإلى حد مدهش، نافياً عن نفسه حتى صفة العاشق الرومانسي الذي كانه في الواقع، ليقدم بدلاً من ذلك بطلاً إشكالياً في حاجة إلى محلل نفساني. وفي هذا الإطار لن يبدو من دون دلالة أن يكون دي موسيه اختار لنصه هذا العنوان: «اعترافات فتى العصر» (أو بالأحرى «فتى من هذا العصر»).
الشخصية المحورية في الرواية هي شخصية أوكتاف الذي يكون مولعاً بامرأة ولعاً حقيقياً، لكنه يكتشف ذات يوم أنها تخونه مع صديق له، فيبارز الصديق ويجرحه ثم يترك صاحبته وقد فقد براءته وراحة باله وينصرف إلى حياة عابثة مليئة بالمكر واللؤم. وذات يوم إذ يموت أبوه، يشعر بأنه فقد الكثير وبأنه بات في حاجة إلى الالتفاف على نفسه، فيتوجه إلى الريف معتزلاً، ولكن الحب يكون في انتظاره هناك إذ يلتقي بريجيت بيرسون التي يهيم بها. بريجيت تكبره سناً بعض الشيء وتبدو رقيقة الحاشية ومتقشفة الجمال مقارنة مع حبيبته الأولى، ولكن من الواضح أن هذا ما حبّبه بها، فيقرر مفاتحتها بالحب ويفعل ليجد أنها تستجيب، إذ إنها هي الأخرى أحبّته. هكذا، يعيشان حكاية حب كان يمكنها أن تستمر لولا أن أوكتاف، ذات لحظة، يفيق على عقده النفسية وضروب غيرته، وتوقفه عن الإيمان بالحب، وتثور ظنونه إزاء بريجيت، ويتحول من عاشق حنون إلى غيور شرير، يهمه أن يثير غيرة صاحبته مفاتحاً إياها دائماً، وفي لحظات غضب، بتجاربه القديمة المؤلمة، معتبراً أن النساء سواء. غير أن فترات الغضب سرعان ما تهدأ ويتصالح الحبيبان إذ تغفر له هي، لفرط هيامها به. ولكن، ذات يوم يدخل حياتهما شخص جديد هو سميث الذي يهيم، بدوره، ببريجيت وتبادله هي الحب، خصوصاً حين يكون أوكتاف في حال غضب. وإذ يقول أوكتاف لبريجيت إنه على علم بحبها لسميث، لا تنكر هذه، لكنها تصارحه بأنها على استعداد دائم لاتباعه هو، إن شاء أن يعيش حال حب هادئة. ولكن هل هو قادر على هذا حقاً؟ من الواضح أن مشكلة أوكتاف في داخله، وليست بينه وبين بريجيت. وهو إذ يحلم ذات ليلة بأنه يريد قتلها لكي لا يمتكلها أي شخص آخر غيره، يحول بينه وبين رغبته صليبها المعلق حول رقبتها والذي يوقظ أوكتاف على واقعه
إن القراء الذين كانوا يعرفون حكاية الحب التي قامت بين ألفريد دي موسيه وجورج صاند، تمكنوا بسرعة من إدراك أن بريجيت هي جورج صاند، وأوكتاف هو دي موسيه، وسميث هو الدكتور باجلو، الذي استأثر بحب جورج صاند بعدما حل الفراق نهائياً بينها وبين دي موسيه، غير أن قلة فقط أدركت كم أن هذا الأخير شاء أن يرسم، من خلال حكايته، صورة جيل وخيبة مؤلمة.
ولد ألفريد دي موسيه عام 1810 في باريس، وهو مذ كان في الثانية عشرة من عمره انضم إلى حلقة أدباء شبان كانت تحيط بفيكتور هوغو، وكان قد اختار الأدب مهنة له. ونشر في عام 1830 أشعاره الأولى بعنوان «حكايات إسبانيا وإيطاليا» التي لفتت الأنظار برومانسيتها التي وصلت أحياناً إلى حدود الكاريكاتور. وفي العام نفسه مُثّلت مسرحيته الأولى «الليلة الفينيسية» التي لم تحقق أي نجاح. ومع هذا واصل كتابة المسرحيات غير ساع إلى نقلها إلى خشبة المسرح. وبين عامي 1833 و1835 عاش ألفريد حكاية الحب الممزقة مع جورج صاند فألهمته «اعترافات فتى العصر» بين أعمال أخرى، بل إن تلك العلاقة ظلت تلهمه معظم أشعاره ومسرحياته حتى السنوات الأخيرة من حياته التي انتهت عام 1857. ومن أهم أعماله «لورانزاشيو» و «لا مزاح في الحب» و «نزوات ماريان» و «رولا..
* عن الحياة