شهوة العطش..وتسعتا عشر..


أنوار السرحان *

( ثقافات )

ها تسعةَ عشرَ أخرى، منذُ وقفتِ بابتسامةٍ عاشقةٍ للحياة يوشّحها الشّجن، تقولين :”هذا آخر عهدي بالطفولة يا أبي، في العام القادم أغدو مضطرّةً أن أكبر، فالعشرون بوّابةُ الشباب حقًّا”.
لم تدركي أنّ تلك الطفلة لن تغادرَكِ يومًا، وستظلّ تبحث بكلّ سذاجتها عن عالمٍ من الجمال، يضيع منه الغلّ ويختفي الوجع، ويبلّله الحبّ.
ها تسعة عشر أخرى وشَعركِ ما زال يسخر منكِ، شعركِ الذي لم تتركي وسيلةً لتجعيده كي يليقَ بما أحبَّ حبيبٌ أبهركِ يومًا ورأيتِ من شفتَيه حبّاتِ لهفةٍ تنهمرُ إذ حدّق في فتاةٍ في مجلّةٍ ، ثمّ قال ممطرًا شغفًا :”يسحرني الشعر الأجعد”.
كلُّ المستحضرات لم تمنع شَعرَكِ الأملس من نعومةٍ حمّلتِها وزرَ خسارة حبيبٍ لم يرَكِ أصلًا، وها هي تخونكِ الآن من دحرِ التجاعيد من احتلال وجهكِ، بل وروحكِ.
“ختيَرتِ” تقولها مرآتكِ مقهقهةً بشماتة، فتسحّ على خدّكِ دمعةٌ. لا الطفلة ماتت فيكِ، ولا شعركِ تجعّد، ولا وجهكِ ردّ التجاعيد عن احتلال خطوطه وشقّ الأخاديد رغم أنف المستحضرات التي ما زالت تخون، وتفشل حتى في ترطيب ما تشقّق في شفتيكِ من قبل تسعة عشر أخرى. لم يكن تشقّقها إلا عطشًا إلى عالمٍ أثقلكِ التمعّن فيه على صغر سنّك.. ما زالت مرآتكِ تسخر منكِ إذ تصفعكِ بما قالوا جميعًا آنذاك..
قالت أمّكِ إنك لا تشبهين البنات في شيء. وقالت جدّتكِ بعد أن قنطَت من تحذيراتها لأمّكِ بما تحملين فيكِ من كوارث موقوتةٍ، بتعلّقكِ بأخيكِ الذي “ضاع” في الجامعة وسرقَته السياسة فما عاد إلا بملفٍّ أمنيّ يذكّر الكونَ بأنّ ثمة فراخًا لم تخُن عشّها في وقتٍ أريد لكلّ الفراخ أن تزقزق نباحًا كي تلحق بآكل أمّها.. قالت جدّتكِ “هو ضاع الله لا يردّه بس هاي بنت وبكرا بتفضحكم”.. وقال أبوكِ بابتسامته التي لم تكن تفارق وجهه كلّما رآكِ :”هاي حبيبة أبوها”، فيما أصرّ أنّكِ تشبهينه في كل شيءٍ وأنكِ يومًا ما ستكونين بألف رجل.. بينما قالت رفيقتكِ ساخرةً متهكّمةً يوم رفضتِ أن تلحقي بالشحّات لتشتميه “إنكِ ضعيفةٌ وبلهاء”.. وإنكِ إذ قلتِ “أراني مكانه”، قد منحتِهم لقبًا ينبزونكِ به “يا صاحبةَ الشّحّات”.. فيما قالت رفيقةٌ أخرى إنكِ إذ تساعدين البنات الفقيرات لا تسعَين إلا لكسب فريق المؤيّدين، وحبّ المعلّمين الذين يجتمعون في مضافة أبيكِ لتتباهي بما يقولون”..
وحده قول العجوز كنتِ تصدّقينه حقًّا، العجوز التي اعتدتِ أن تهربي إليها في كوخها الصغير لتنظّفيه وتقطفي من تلّةٍ صغيرةٍ مجاورةٍ أزهارَ الصفّير وشقائق النعمان، تضعينها في كأسٍ صغيرةٍ تتخيّلين أنها مزهريةٌ فوق قطعة قماشٍ مهترئةٍ حاولتِ أن تصنعي منها شرشفًا لطاولةٍ صغيرةٍ برجلٍ مكسورة، قالت وأنتِ تُحضرين لها الماءَ من النبع الذي تحبّه، إنكِ ستوفّقين كثيرًا في حياتكِ وتسعدين، وتلتقين الكثيرَ من الطيّبين، “لأنّ روحكِ طاهرةٌ وقلبكِ كبيرٌ”.. هكذا أوهمتكِ العجوز التي انقضت “تسعتا عشر”، كي تعترفي أنها كذبَت عليكِ وهي تبتسم من سريرها برجفةٍ من شفتيها إذ حدّقَت في ملامحكِ :”وجهك مدوّر عالبيكار اسم الله، أسمر ونغش ولا أبيض ودفش” وراحت تطمئنكِ بأنّ هذا الكون لأمثالكِ وأنكِ ستظلّين ملكةَ السعادة فيه.. وكنتِ تبتسمين ثمّ تعودين إلى مضافة أبيكِ تصغين إلى مديحه ومعلّميكِ لكِ، وتراقبين امتعاضَ أمّكِ ويأسَها، وهمساتِ جدّتكِ القانطة، فتنساب من عينيكِ دمعةٌ لا ترطبّ الشفتين، بل تزيد الرأس ثقلًا وتمايلًا ، هي ذاتها التي تصفعكِ بالصرخة الآن من المرآة وقد ازداد الوجه تجاعيد :”متى سيبللني هذا العالم”؟؟!

* كاتبة فلسطينية – الجليل

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *