نقلة جيدة تجدد بها الفنانة العراقية المقيمة في لبنان، عالية الوهاب، تجربتها التشكيلية، وتنقلها من أسلوب إلى آخر أكثر معاصرة، من خلال معرض تقيمه في قصر الأونيسكو في بيروت (حتى مساء غد)، ويضم 34 لوحة بأحجام كبيرة ومتوسطة. تعتمد في أعمالها تقنيات طباعية وتلويناً بالأكريليك، أما الموضوع الذي اعتمدته الفنانة فأتى تحت عنوان «تلوينات مهاجرة»، ينطلق من واقعها كمهاجرة، أو مهجّرة، من سنوات، بسبب حروب العراق الكبيرة والصغيرة.
مأساة العراقيين، إذاً، تعوم على مسطحات اللوحات كلها، تلك التي اتخذ بعضها شكلاً دائرياً، وبعضها الآخر الشكل المربع أو المستطيل. من دون أن يعني الشكل الهندسي للمساحات الملوّنة، بالضرورة، أي أبعاد رمزية، سوى أن الاختلاف يقيم حواراً بشكل اللوحة العام على الأقل، في وقت يشكل المعرض عموماً وحدة موضوعية. على أن الوحدة هنا لا تعني التشابه بالطبع، إذ تختلف اللوحات من حيث الأداء اللوني والتأليفي، ومن حيث خلفياتها وتكاوينها. وإذا علمنا أن الفنانة تتقصد أن يكون في كل لوحة مستويان اثنان، فإن المستوى الأول يتشكل من طباعة أوراق وصور وصحف عراقية ولبنانية، تشكل خلفية اللوحة وموضوعها البارز، في حين يأتي التلوين بمادة الأكريليك مستوى ثانياً، يتخذ مرة شكل ضربات حرة، فتتراءى لنا الكتل اللونية الفالتة، التي يمكن أن تحيلنا على تشكيلات في الحياة، ومرة أخرى نرى خطوطاً هندسية عريضة تقدم تشكيلات مختلفة، إلا أنها مشغولة بزوايا حادة وجارحة في أكثر الأحيان. كأن هذه الأشكال الهندسية ما هي إلا كادرات افتراضية للوحات مكسّرة ومحطّمة ومهملة أحياناً، بل أحياناً تتحرر من الشكل الهندسي المجرد وتتحول، لتظهر على شكل طائرات حربية مثلاً أو شكل طير مهاجر وهو مكلل بالسواد.
أكثر ما نجد في خلفية اللوحة صور لصفحات من قوانين المجلس النيابي العراقي مثلاً، بل المجلس التشريعي الذي كان والد الفنانة مسؤولاً فيه إبان العهد الملكي. لذا وتظهر صور الوالد في مراحل مختلفة من حياته، لتفتح من خلالها ومن خلال الصفحات الصفراء العتيقة أبواب التاريخ ونوافذه، حتى أننا نرى تماثيل المتحف، والأخبار القديمة كنوع من النوستالجيا الحزينة. من دون أن تبعد الفنانة الحرب من ساحة التاريخ، ذلك أن الحرب التي تظهر آثارها في اللوحات قد حلت على التاريخ والحاضر معاً، والسياسة التي دمرت العراق موجودة أيضاً في عناوين الصحف المصورة في اللوحات ونصوصها.
الحياة الاجتماعية العراقية حاضرة أيضاً، فهنا امرأة تحمل قِدْراً كبيراً، وهناك فتاة ملفّحة بالأسود، ومجموعة نساء يرتدين الشادور، ومآذن والكثير من رموز المجتمع العراقي… على أن اللون الأسود والأحمر والأبيض هي الألوان الأساسية التي تضربها الفنانة خطوطاً وتبقيعاً، فهي تجسد دمار التاريخ مرة، وتؤرخ للدمار مرة أخرى.
ألوان أخرى نجدها في اللوحات، هي عبارة عن لطخات سريعة تضيء بها الفنانة كلاماً تركز عليه في الصحف المطبوعة. بل هي تقدم نماذج كثيرة من تسييل الأحمر بشكل عفوي، أو طبع الكفوف بالأحمر، أو تلطيخ الأبيض بالأسود أو الأحمر، ما يستحضر الحالة الدموية والإجرامية التي عاشها العراق ولمّا يزل.
معرض الوهاب يجمع إذاً بين التجريد العبثي أحياناً، ولغة الواقع الحاضر بالكلام والصور. هي تجربة تضعنا أمام لوحة حوارية ودينامية، تجذب العين وتؤدي غرضها الموضوعي بلعبة إبداعية ناجحة.
* السفير اللبنانية