على ضفاف البحر الميت


د. سميح مسعود *

 أوصلته المنافي إلى مدينة «مونتريال» الكندية، اختارها مقراً له في مهجره البعيد.. مدينة جميلة تقع في جزيرة محاطة من كل جوانبها بنهر «سان لوران» الشهير، تعجبه تلك المدينة، لكنه لا يستطيع التعايش معها في أيام الشتاء التي يشتد فيها البرد القارس طيلة أشهر عديدة.
يحولها فصل الشتاء بمقاييس أزلية ثابتة إلى مدينة أخرى، بحلة جديدة غير التي كانت عليها في الفصول الأخرى، تَظهر فيها ملفّعة بطبقات كثيفة متراصة من الغيوم تغطي السماء، ومغطاة بأكوام سميكة من الثلج يتوارى تحتها كل شيء.. تتجمد مياه النهر، وتتجمد الأشجار في كل مكان، تقف فروعها عن التمايل تحت تأثير الرياح، كما تختفي الطيور، ويخفت ضوء النهار.. تختفي أشعة الشمس لأيام طويلة.
تجتاحه نوبة من الضيق والاضطراب في فصل الشتاء، يرى كل شيء في المدينة على خلاف ما تعوّد أن يراه من قبل، يحسّ بألم في داخله دون توقف، يستمر اضطرابه، يلازمه ويسيطر على نفسه، لا يحس برغبة في الخروج من بيته، يبقى أسير الجدران، يجد في كتبه حاجته ورضاه، يتابع القراءة دون توقف، يتغلب بها على ليالٍ طوال تمر عليه دون نوم، يعيش مع كتبه منفردا ًبها، سعيدا ًبما تنثره في داخله من أفكار وحكايا يشمّ منها رائحة الحياة.
يستمر وضعه هكذا طيلة أشهر الشتاء، يبقى مع كُتبه. القراءة هي كل ما يستطيع فعله.. لا يخرج من بيته، لا يستطيع المشي على الأقدام في شارع «سانت كاترين» حيث يعيش، يرى شارعه المفضّل عبر النوافذ المغلقة فقط، يراه مكسوّاً بأغطية ثلجية بيضاء، لا حياة فيه، يبدو في صورة تقرّبه من الأشباح.
اتّسع نطاق اضطرابه مع الأيام، صار أكثر تأثراً بالبرد، اشتدت وطأته عليه، أصبح من المتعذر عليه صحياً تحمل معاناة الظروف المعيشية خلال أيام فصل الشتاء الصعبة.
ذات يوم قادته أفكاره إلى ضرورة «تهدئة» حياته، بالابتعاد عن «مونتريال» في فصل الشتاء، أسوة بما يفعله أهلها من المتقاعدين. استعان بقوة ذاكرته على تذكّر أمكنة دافئة زارها من قبل لفترات متقطعة، مثل: «فلوريدا»، «أسوان» و «البحر الميت».. قلّب صوراً لها، واستساغ منطقة البحر الميت القريبة من عمّان، تذكّر صفاء الهواء فيها، إذ تفُوقُ كمياتُ الأكسجين فيها سواها من المناطق، لانسيابه بكميات كبيرة في المناطق المنخفضة.
كثيراً ما زار منطقة البحر الميت في أيام صباه، وكثيراً ما استمتع بتذكّر عذوبة أمسيات شتوية دافئة عاشها فيها.. يستسلم بسعادة إلى ذكراها، يستعيد صوراً متقطعة تحفظها ذاكرته من أيام طفولته الباكرة، تَبرز من تراكم السنين في زمن مرّ وانقضى، تترابط أجزاؤها الدقيقة شيئاً فشيئاً وتعيد تركيب أجزاء أمكنة كثيرة متشابكة تعرّف عليها من قبل.
قرر أن يرحل في كل شتاء إلى منطقة البحر الميت، يشدّ الرحال اليها مع بدء فصل الشتاء في «مونتريال».. تبدأ إقامته فيها بدءاً من تشرين الثاني، يتابع الحياة في شقة يمتزج فيها بكل الأشياء الجلية التي تحيط به، القريبة منه والبعيدة: الشاطئ الرملي، ضوء القمر وانعكاساته على صفحة الماء، وتركيبات أخرى تشكل بمجموعها محيطاً مكانياً تتداخل فيه الجبال والأغوار وبقايا نهر يشق طريقه صوب البحر بلا ماء.
يجذبهُ الليل على ضفاف البحر، يجلس طويلاً في كل ليلة يجول ببصره تجاه الغرب، يرى بعد المغيب أضواءً بعيدة تنساب على اتساع الأفق العريض الممتد بسعةٍ حول البحر، يدققُ في المدى المرئي للأضواء ساعاتٍ طويلة دون انقطاع، يرقّ قلبه لها، تساعده على رؤية مدينة أريحا وجبال القدس، تذوب ذكراها عذبة في خاطره.. ومضات كثيرة منها تشده إلى أيام عاشها في أرضه في زمن مضى، يسترجع ذكرياته فيها بكل دقة وعمق، يعود للتخيل على إيقاعها من جديد، سرعان ما يجد نفسه عند باب العمود، يشع كهالة من النور حوله، ينتقل منه إلى حارات القدس العتيقة، يواصل خطْوَهُ فيها مارّاً بأمكنة تختلط فيها خيالات الماضي بالحياة.. يستمر بالتخيُّل في لحظات صفاء، لا يقيده المكان ولا الزمان، ويشعر في واقعه المتخيل بتلاشي الحد بين اليقظة والحلم.
يجذبهُ طلوع الفجر أيضاً، يصحو مبكراً، يتجه نحو البحر، يخطو ببطء على الشاطئ، يستمتع بصوت اهتزاز الأمواج، وصوت انكسارها على الصخور، ورجوعها إلى البحر ثانيةً بخطوط طويلة مرتعشة.. يحدق فيها وهي تتباعد ثم تتلاقى ثانية وتكوّن نسيجاً جديداً، يتناوب التلاقي والابتعاد بلذّة وإمتاع.
يواصل السير حول الشاطئ، يدير بصره في الاتجاهات، يتعرف على خبايا فضاءات رحبة حوله، تعيده إلى زمن بعيد يكتنفه الغموض، يتعرف على مضامينه الحقيقية بدلالات واضحة غير متخيَّلة، وسرعان ما يرى سطح المياه الرقراقة بمنظار آخر، تتلألأ برقّة تحت أشعة الشمس، يختزن صورتها في ذاكرته وتبقى مرئية قريبة منه.
تتوالى أيامه في منطقة البحر الميت، يقضي فيها أربعة شهور في كل عام، يودّع أصدقائه ساعة الرحيل… يعود من حيث أتى إلى «مونتريال» في فصل الربيع مع بدء التبرعم والأزهار، يبدأ مع أريج أوراق شجر القيقب ونداها، مسارَ حقبةٍ لأيام جديدة.

( الرأي الثقافي )

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *