قناص الدهشة الفوتوغرافي ستيف ماكيري




دينا جوني*

 
يُفلِت المصور التوثيقي والفني العالمي ستيف ماكيري العنان للصدف لترسم مساره في دروب البلدان الغرائبية. هناك، تبرز فرادته في تشكيل الصورة من خلال سبر الوجوه والتجارب المسكونة في الملامح والعيون، في التهادي فوق الحواجز الاجتماعية والثقافية ودفع الروح المحلية للإفصاح أمام عدسة «الغريب»، في التقاط تلك الخلطة العجيبة من الصفات التي توحّد الإنسان في مختلف بلدان العالم في الهم والسعادة والعجز والطموح نحو حياة أفضل، وفي الوقت نفسه إبراز الاختلافات التي تميز كل شعب أو قبيلة أو جماعة.

كل ذلك منح ماكيري الأميركي المولود في فيلادلفيا (صاحب صورة «الفتاة الأفغانية» التي التقطها خلال فترة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان ونشرتها مجلة ناشيونال جيوغرافيك عام 1984) شهرة واسعة خلال العقود الثلاثة الماضية. إلا أن ما جعله يتربّع على رأس لائحة أهم المصورين التوثيقيين في العالم، هو افتنانه بالتقاط اللحظة المناسبة، الأصلية، الخارقة، التي يصعب تكرارها، لحظة تماهي الآخر مع ذاته، فتستحيل صورته سحراً مجبولاً بألوان المكان وجغرافيته وهندسته وتاريخه. عن ذاك السحر، ينظّم جاليري (The Empty Quarter) في المركز المالي في دبي، معرضاً افتتحه ماكيري بعنوان «لحظات مكشوفة» Unguarded Moments ضم 36 صورة التقطها في عدد من البلدان الآسيوية والعربية منها: اليمن، وأفغانستان، وبنغلادش، والهند، والتيبت، وسيريلانكا وغيرها.

سيّد اللحظة
 
تحتفي بعض صور ماكيري المختارة للمعرض بلحظات تلاشت من تاريخ بعض البلدان، فاتخذت بالإضافة إلى الطابع التوثيقي، بعداً فنياً وجمالياً يُبدع ماكيري في تشكيله، مثل صورة «العاصفة الرملية» في راجستان الهند عام 1983، و«الصيادون على الركيزة» في سيريلانكا عام 1995. ثمة صور أخرى، تختصر أيضاً الأسلوب التصويري لماكيري خلال ترحاله مثل «بائع الفاكهة في جودبور»، و»مسجد ساجيا» في كشمير عام 1999.

وُصف بـ «سيد اللحظة»، لكن ليس بفعل الحظ والذي إن حالفه مرات عدة على حد قوله في اقتناص السحر بسهولة في عدد من الصور مثل «فتاة بيغار» في مومباي عام 1993، بل لأن أعماله خلال 30 عاماً من السفر والاجتهاد والاكتشاف أساسها ذلك الجَلد العتيق الموروث من كبار المصورين في العالم أمثال: هنري كارتييه بريسون، وايليوت ايرويت، وأوجين سميث، ووالكر ايفانز، ودوروثي لانغ الذين كان لهم بالغ الأثر في أعماله.

هو فن الرصد والملاحظة، والإحساس العالي تجاه الآخر وردود فعله تطبيقاً لمقولة بريسون الشهيرة «التصوير هو وضع العين والعقل والقلب على محور واحد».

يتمتع ماكيري بصبر كبير، ينتظر لساعات وأيام لحظة السحر لكي تحدث في مكان محدد. يثبت كاميرته، يحدد إطار الصورة مع كافة الإعدادات المطلوبة، ويبدأ التقاط صور تعتبر مناسبة وجميلة. إلا أن صورة واحدة فقط، تحمل سحر اللحظة المنتظَرة التي لا تضاهى.

تلك الغنيمة، يقول ماكيري في حديث لـ «الاتحاد الثقافي»، تتطلب الابتعاد عن سطحية الَمشاهد وحركة الأفراد في أي بلد في العالم، والعمل على التجول وامتصاص حركة الحياة اليومية والعادات المتفاعلة داخل البلد، والتقرب من الإنسان واكتساب احترامه وثقته من خلال منحها له بالدرجة الأولى.

خارج نطاق الراحة

يهوى ماكيري هجر «نطاق الراحة» الذي يعيش فيه في نيويورك. يفضل الانفصال الدائم عن العادي والروتيني واليومي، والانتقال من بلد إلى آخر يفتش عن كل ما هو مدهش وآسر وغريب في زوايا العالم حيث تستنفر جميع حواسه لالتقاط ما يحيط به. البلاد الآسيوية وجهته الفضلى. فلغاية اليوم، زار ماكيري الهند على سبيل المثال 90 مرة، إلا أن هناك الكثير من السحر لاتزال تلك المنطقة تختزنه. صور عدة تظهر الأسلوب التصويري لماكيري خلال ترحاله مثل «بائع الفاكهة في جدوبور»عام 1996. فلطالما أغرت تلك المدينة الواقعة في راجاستان الهند المعروفة باسم «المدينة الزرقاء» ماكيري. بيوت بنسق لوني أزرق متفاوت، يشهد تكثفاً عالياً في فترة مغيب الشمس، ومتاهة لا تنتهي من الدروب الطويلة المتقطعة والمرتَجلة يصل طولها إلى 10 كيلومترات، وبعرض يصلح لمرور المشاة. هناك، اتخذ ماكيري موقعه في اسفل إحدى الأزقة المنحدرة، منتظراً المشهد المناسب، إلى حين مرور بائع فاكهة يحمل وعائين معدنيين من الليمون والموز، ينتقي منهما الأفضل ليبيعهما للسيدة الواقفة على شرفتها.

في الأزقة نفسها، التقط ماكيري صورة احتلت غلاف كتابه الصادر عام 2009 بعنوان المعرض نفسه «لحظات مكشوفة»، غير أنها لم تعرض هنا في دبي. ثبت ماكيري كاميرته بمحاذاة جدار أزرق مطبّع بصباغ أحمر من بصمات اليد، بمواجهة انحراف ضيق في نهاية الزقاق. يقول إن هذا الزقاق يشهد حركة دائمة طوال النهار من المارة، بيد أن كل ذلك يندرج ضمن الإطار العادي، إلى حين مرور «ذاك الفتى الطائر» وحيداً في الزقاق ليشكّل بذلك روح اللقطة وحسّها.

توثيق فني

في صورة الصيادين، أمضى ماكيري ساعات صباحية طويلة يومياً داخل مياه البحر يتنقل بين الصيادين، يلتقط صوراً عدة من زوايا متعددة، ثم يعود في وقت آخر من النهار ليجرب لساعات أخرى نوعاً مختلفاً من الإضاءة الطبيعية، وليحظى أخيراً بلقطة تم إدراجها كواحدة من صوره الأيقونية. اليوم، يقول ماكيري، إن هذه العادة اندثرت من قرية الصيادين في سيريلانكا، حين كان الشبان يصطادون السمك بطريقة بدائية غريبة، متأبطين ركيزة خشبية طويلة يتم تثبيتها جيداً في عمق الرمال حرصاً على عدم إخافة السمك، ليختاروا بدلاً من ذلك العمل في مجال السياحة.

في «العاصفة الرملية»، يلتقط ماكيري لحظة طارئة في راجستان شمال غرب الهند تحمل تضاداً لافتاً في اللون والمعنى. فهبوب عاصفة رملية قوية في صيف 1983، دفع بعض النسوة على الطريق الصحراوي إلى التكتل لحماية بعضهن من خطر العاصفة وسط تلك المنطقة المفتوحة على كل الاحتمالات. صورة ماكيري تبرز هذا التضاد الفائق بين الطبيعة الصحراوية وألوانها وخطرها الذي كثّفه الضباب الرملي والظلال القاتمة للأشجار في خلفية الصورة، مع ألوان حياة يعكسها اللباس التقليدي للنسوة بالأحمر والبرتقالي. في زيارة لاحقة للمنطقة نفسها، تبيّن لماكيري أن النسوة والفتيات استغنين عن لباسهن التقليدي المميز، لتصبح مجرد أثواب للمناسبات التراثية والمهرجانات.

بساطة التعبير

تلك الزوبعة اللونية التي تميز صور ماكيري، خصوصاً الآسيوية منها، دفعت بعدد من المجلات والصحف المتخصصة إلى تصنيفه في خانة اللاهث وراء اللون، لتُطلق عليه أيضاً لقب «المصور اللوني». إلا أن هدف ماكيري الأول والأخير التقاط لحظات إنسانية يكمّلها ويضيف عليها الإطار الجمالي، وليس التقنية المستخدمة.

اللون الموجود في صور ماكيري الطبيعية منها، والبورتريه، والتوثيقية تعتمد على طبيعة لونية وهندسية تميز البلدان التي يختارها، فيستفيد من جماليتها إلى أقصى حد، ليضيف ويعزز البعد الدرامي في أعماله. يستفيد ماكيري من هذا الأسلوب في بعض أعماله التي تصور الهم الإنساني. ففي تلك الصور مثل «الابن والولد» في أفغانستان عام 1992، يراوغ ماكيري الألم، يقترب منه، يلامسه من دون أن يضغط عليه أو يكشفه بالكامل. أما لعبة اللون وتعدد العناصر في تلك الصور، فهي تحمل في الوقت نفسه الأمل بالتغيير، باستبدال الواقع بعالم وغد أفضل في تلك المجتمعات، وهي الرسالة وفقاً لماكيري، التي يجب أن يحملها ويحاول تحقيقها كل مصور توثيقي.

لا يفكر ماكيري كثيراً باتباع تقنية مبتكرة خلال عمله. فأسلوبه يتبع البساطة المعجونة بعمق التعبير، والتي برأيه تمس من دون شك الأفراد من مختلف الانتماءات بفضل الإحساس التي تحمله، وليس بفضل الإعدادات التقنية الخارقة المطبقة. فاللحظة الإنسانية أولوية ماكيري في رحلاته التصويرية، وإن كانت على حساب الحد الأدنى للوضوح المطلوب في الصورة. ففي صورة «مسجد ساجيا» في كشمير، اعتمد ماكيري على حرارة لونية عالية معروفة بـ ISO، تمكّنه من التقاط وحي ضوئي ملفت ينصب على أحد المصلين في فترة الصباح، ومتسرب من شبّاكين مرتفعين داخل المسجد. إلا أنه من المساوئ الأولى لاستخدام حرارة لونية تفوق معدل الـ 800، هي خلق سطح مبرغل وعدم الخروج بصورة حادة وواضحة. لكن أهمية اللحظة المصورة بالنسبة لماكيري وجميع الرواد من المصورين التوثيقيين المعاصرين، تغلب التفاصيل التقنية الأخرى.

لا شيء يمكن أن ينتزع ماكيري، الذي يحضر كتاباً جديداً يُنشر بداية العام الجاري بعنوان Untold يعرض فيه كواليس عدد من الصور وكيفية التقاطها، بالإضافة إلى رسائل وتذكارات مرافقة لتلك اللحظات، من عالمه المترامي بين القارات. هو يعيش محافِظاً على تلك المسافة التي تفصله عن مختلف مكونات المكان والمجتمع، فتبقيه غريباً ضمن الحدود التي تسمح له بالتقرّب من الآخر، من دون أن يغرق في روتين المكان، فيبقى ممسكاً بتلك المقدرة على الإدهاش. ينتظر ماكيري على مفترق التاريخ، ليبقى شاهداً على الأحداث وتبدلاتها، على معاناة الشعوب، وعلى تلاشي فرادة المجتمعات وثقافاتها.

الأيقونة الأفغانية

شربات غولا، هو اسم صاحبة صورة «الفتاة الأفغانية» الشهيرة، التي بقيت مجهولة الهوية طوال 17 عاماً منذ أن صورها ستيف ماكيري عام 1984 في أحد المخيمات على الحدود بين باكستان وأفغانستان، لتُصنّف كأكثر الصور تأثيراً في العالم، وَتمنح ماكيري شهرة عالمية. في العام 2002، أطلقت مجلة ناشيونال جيوغرافيك مشروع التفتيش عن «الفتاة الأفغانية» بالاتفاق مع ماكيري، لتقصي مصيرها بعد أن أشيع خبر موتها. أنتجت ناشيونال جيوغرافيك فيلماً وثائقياً يصور تلك الرحلة التي بدأت من المخيم ذاته والصعوبات التي تخللتها. المجلة نشرت أيضاً صور اللقاء مع شربات، والجلسة التي جمعتها مع عائلتها وفريق عمل ناشيونال جيوغرافيك، وانطباعات ماكيري.

عرض «The Empty Quarter” صورة الفتاة الأفغانية، إلا أنها لم تدرج ضمن لائحة الأسعار. اذ بيعت تلك الصورة بداية شهر ديسمبر في مزاد كريستيز في نيويورك بـ 178.900 ألف دولار بحجم 33*22 إنشاً. كذلك الأمر بالنسبة لصورة «العاصفة الرملية» التي بيعت في المزاد نفسه بـ 8.125 ألف دولار بحجم 20*24 إنشاً. تضمن المعرض صورة بورتريه هي الأكبر في المجموعة بعنوان «الفتاة الأفغانية بالشال الأخضر» التي تصدرت صالة المعرض الرئيسية، وهي متوفرة بثلاثة قياسات مختلفة.

( الاتحاد الثقافي )

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *