علي السوداني *
( ثقافات )
هي ثلاثة أيام عمّانيات ممطرات مثلّجات ممتعات ، توسّدنا فيها الدار والنار والعيال ، وخزنة ذكريات بعيدة . ألثلج رحمة وبياض ونعمة وطعام وراحة بال وجمال ، مثل الله في علاه . في هذه الثلاثة المبروكات ، سأجيب عن كل الأسئلة الغاطسة . صرتُ رأس قطار ، والعائلة مقطورة خلفي . لكلكنا كرات الثلج العزيزة ، وتراشقنا بها ، كما شريط هوليودي دافىء ، في ليلة ميلاد ماجدة . لعبة بديعة شاركتنا فيها ، جارة طيبة وسمينة . جارتي السمينة ، كانت مشعولة بحماس قويّ ، شالت معه ، كرة ثلج ضخمة ، وزرعتها في وجهي . شعرتُ بكثير من الوجع ، وقليل من الضيم ، لكنني لم أردّ على الجارة ، بكرة مثلها ، أو أصغر منها . كنتُ على وشك أن أفعل ذلك ، لكنّ إيمان المبروكة ، كانت مزروعة فوق تلة ثلج ، قائمة فوق الرصيف الآخر ، ترقبُ المنظر بقوة صقر ، يشمّ عطر فريسة . مع اشتداد هطيل الثلج والحالوب ، ودّعنا الشارع والجارة الطيبة السمينة التي كادت تطفىء عيني ، ودلفنا إلى بطن الدار ، حيث طقس آخر منتظر . صوبة علاء الدين نفطية ، ألسنة نارها زرقاء لذيذة ، كأنها صحن فاكهة إلهيّ . فوق رأس الصوبة ، عرّشنا قوري شاي فرفوري ، نفحات بخاره من هيل وعافية وسعد . على محيط إبريق الشاي الفاتر ، رششنا قلادة من نبتة شتوية مذهلة اسمها ” كستناء ” والكستناء – يا سادة يا نجباء – هي إبنة خال إجبارية لنبتة ثانية اسمها البلّوط . قوري الشاي يصفر ، والكستناء الغالية تطقطق ، وأنا ، ربّ العائلة ، وربّ الفرح ، مازلتُ أُكافح كي أُخفي آثار كدمة ، خلقتْها فوق وجهي قبل ساعة ، جارتي الرحيمة السمينة . من باب الشاي المهيّل ، إلى عتبة الخبز المحمّص الذي قد تُحدث عملية سحقهِ بين الأسنان ، ضجّة ضخمة تكفي لهزيمة كتيبة مدرّعة ، جندُها يفطرون على قصعة أفاعي ، وغداؤهم لشّة أسد ، ورقصتهم المفضلة ، ردحة مع الذئاب . ألتلفزيون عنصر هام في هذا الصنف من الليالي . أكلنا ساعتين من الليلة ، قدّام فلم ، ثيمته الإنتخابات في بلاد العم سام . بطل الفلم ، ممثل مبدع اسمه روبن وليام الذي قام بتجسيد دور الرئيس المصطفى . عشقتُ تلقائية البطل ، وردوده المرحة للصحفيين الطفيليين . سأله واحد منهم – بقصد إخصائه – عن واقعة قديمة من زمن الشباب . أجاب البطل وليام ، أنه ذهب مرة ، إلى بيت امرأة عاهرة ، وفوق فراش المنازلة ، كان أداؤه سيئاً ، حدّ أنّ تلك المخلوقة الطيبة ، انفطر قلبها على منظر الفتى التعيس ، وقامت بإرجاع ماله إلى جيبه ، صحبة ابتسامة رضا وإمتنان . إنتهى الفلم ، فتصوبت أعين العائلة ، نحو الشرفة الصغيرة التي غصّت بثلج أبيض مبين . هناك صنعنا تمثال الولد المهرّج . عيناه تدويرتا خيار أخضر ، وخشمه مطمسة جزرة يانعة ، وحلقه جلدة باذنجان من وجه السواد . لففنا حول رقبته ، شالاً أسود ، وألبسنا كفّيه ، قفّازين أحمرين ، وجعلنا الحائط متكأ لظهره ، وودّعناه عائدين إلى دفء الغرفة . ألليلة الآن تتثاءب ، والعائلة الى فراشها تخفّ ، أما أنا ، فلقد رجعتُ وحيداً مستوحشاً شارداً عند عتبة صوبة علاء الدين . أدرت التلفزيون ، نحو شاشة ثانية . ثمة صور مروّعة ملونة آتية من مخيّم ” ألزعتري ” الذي نامت فيه الليلة ، كلُّ سوريّا الحبيبة . صوبة علاء الدين ، تشتعل ، وخراجها عالٍ ، لكنني بردان ، وبدني يرعشُ مثل طفل دمشقيٍّ زعتريٍّ أشهب ، صارت صوبتهُ الممكنة ، حضن أُمٍّ غاضبة ، تشيل في جوف حلقها ، بصقةً عملاقة ، بوجه عالَمٍ قذر أكثر مما ينبغي . سأنام الآن ، علّيَ أحلم بإجابة مقنعة ، لسهام أسئلة الولدين ، نؤاس وعلي الثاني ، التي ستدور فوق رأسي ، ظهرية الغد ، عن الحرامي القاسي الذي سرق تمثال المهرّج الثلجي ، من متكأ شرفتنا الآمنة . تصبحون على ثلج رحيم ، لا يترك فوق وجوهكم كدمة ، مثل تلك التي خلقتها فوق وجهي ، جارتي الطيبة السمينة .
* قاص من العراق يعيش في عمان