بلال رمضان *
( ثقافات )
تسللت الشمس من بين أوراق الشجر، وخلف الجبل كأنهّا ذكرى واختفت، والرجَال في عُجالةٍ يتسابقون لمرقدهم، فغدًا تتكرر مأساة لا تنتهي، ومن يسأل في هذا الزمان أو غيره يتعب، يظل خلف الظل يركض حتى يستقر فيرحل لمثواه قبل أن يفهم …. حقًا ملهاة!!
جلس الضابط “سيد” أمام غرفتهِ ممدًا نظره إلي اللاشيء بعد انتهاء يومٍ شاق أخذ يحرق في السجائر كمن يأخذ ثأره بدون شفقة أو رحمة، واضعًا ساقيهِ ممتدة علي مقعدٍ ممسكًا في يده كوب الشاي الذي لا يكف طيلة اليوم واحدًا بعد الآخر كأنهم الضحايا تطحنهم الرحى، ولكن في هذا التوقيت يبقي له – كوب الشاي – مذاقٌ آخر.
الظلام يتتابع كموج البحر الهادئ من الجبل يعلن عن شمس يومٍ أصبحت ذكري؛ ليعم السكون ويبقي الصمت، ثمة أوراق يداعبها النسيم مما جعل النادل – الجندي عبد ربه – يجمعها ويضعها بالداخل فوق المكتب، ومن ثم عاد إلي الرجل ليجده في حالة استرخاءٍ شديدة ممدًا نظره إلي الأعلى، وفي صمتٍ جلس يفترش الأرض ملقيًا برأسه على الحائط.
جاء الضابط “خالد” يمشي على مهل واثقًا من نفسه، لا يلتفت إلي الآخرين ممن يحدثون بلبلة وهوجاء أثناء سيرهم بين الأنام، فهو يؤمن بأنَّ المرء عقلٌ وفكرٌ ورسالةٌ يجب أن يسطرها الإنسان في حياته بشكلٍ متناسقٍ، كمن يعزف سيمفونية لتعزف حين موتهِ.
قال “عبد ربه” يقطع الصمت عن الرجل:
– الضابط “خالد” يمشي وكأنه بين الزهور
فاعتدل الرجل في جلسته يصدر صوتًا من حلقه ألفهُ الجميع قائلاً:
– أحضر لنا القهوة..
لم يكن “خالد” على عادته، خطواته تحمل تعبيراتٍ مختلفة، فثمة ما يشغله أو ربما حدث شيءٌ كان له أثر شديد على صورته، ألقي بجسده علي المقعد، أطلق من داخله زفيرًا كأنها حمم بركانية كمن يحرر طلقة من بندقية، فأثار القلق والشكوك لدي “سيد” فقال:
– لكل شيء بداية ونهاية، خير إن شاء الله
وضع “عبد ربه” القهوة، وألقي بالتحية على الضابط فأجابه، ولكنه لم يستشعر الأمان كما ألفهُ من جلوس الرجلين معًا؛ فستأذن في الانصراف قليلاً حتى يتسنى لهم الحديث.
مضت بضع دقائق لم تخل من إشعال السجائر، وبدا الصمتُ والدخان فارسين يكبلان الرجلين، لم يقطعه إلا صوت “سيد” عندما أصدر حشرجة من حلقه تنم عن اختناق الدخان، أحمر وجههُ وأحس “خالد” بأن الرجل يلفظ أنفاسه الأخيرة، فرغم تدخينه منذ زمنٍ بعيد ولكنه لم يره على هذه الحالة من قبل.
– لا حول ولا قوة إلا بالله
– الحمد لله، كدت أن أصبح في خبر كان
– يا راجل قول كلام غير ده، يدينا ويديك طولة العمر
– هو لسه فيه عمر…أنا شايف أنها لحد كده وكويسة
نظرا إلي بعضهم نظرة لم تدم، ولكنها حملت في طياتها تساؤلاتٍ عديدة، كانت الباعث الحقيقي ليفتح كل منهما كتابه للآخر، فقال “سيد” وهو يمسح وجههُ بيده:
– ليه ؟!
فقال “خالد” وكأنه لم يتوقع السؤال:
– ليه؟
– لماذا تصبح في لحظةٍ وكأنك شيئًا لم يكن ؟
– المسألة لا تحسم هكذا ؟
– وكيف إذن ؟
– قل لماذا أنت هنا وأنا ؟ قل لماذا نستمر ؟
– وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون
– نعم ونعم بالله، فأنا لم أجحد كتاب الله عز وجل، ولكن ثمة تفسير لهذا الواقع..
– أري أن الواقع لا أحد يفهمهُ
– كلا
– هل لديك تفسيرٌ إذن؟
– في الحقيقة أنا لا أملك حريتي حتى أفكر في الواقع، وكلما فكرت في الحرية كيف تكون رأيت نفسي ضائعًا، لا أسمع ولا أري، ربما صرت أقل من الجماد
– يبدو أنك مرهق فحسب
– لا، بل إنني ضائعٌ لا محالة
– لكل منا واقع مختلف عن الآخر، ولكن في النهاية لا بد وأن تكتمل رسالتك
فضحك الرجل بملء فيهِ قائلاً :
– رسالتك؟ أية رسالة إذن؟
– لستُ أدري بالتحديد، ولكن هناك واجبات عليك أن تؤديها منذ أن أتيت إلي أن ترحل.
– نعم… نعم أن أبقي هنا في هذا الجمع الغفير أُعلم هؤلاء كيفية الوقوف ولو لدقائق بصورة متناسقة من أجل رجل يجلس علي مقعد من الأسفنج وحجرة مكيفة الهواء، ونحن هنا تحت وهج الشمس نحترق وتقول واجبات…..إن الواجبات الحقيقة يا سيدي أن أرعي أسرتي التي تشتاق لرؤيتي، الأبناء هم الرسالة….هم الغد.
– هم زينة الحياة الدنيا، وهم أيضًا رسالةٌ سامية من أجلها نضحي، وربما يقدرون ذلك فيما بعد….وسوف يأتي عليهم زمنٌ يعرفون فيه معنى التضحية
– أراك تقفز من سؤالٍ إلي آخر كالأرنب
– الأرنب يقفز ولكنه يتسم بالجُبن
– هذا ما لم أقصده
– أعرف ولكني متعب جدًا
– هون عليك ما أنت فيه
– أري أننا نلهو…
– قليلٌ من اللهو ربما يأتي بثمار طيب
– الغريب أنك تمكث هنا منذ زمنٍ ولم تتغير
– عندما يركض الآخرون حولك يلعبون عليك أن تحسم الموقف
– كيف؟
– أن تنتظر اللحظة التي يلتقطون فيها الأنفاس فتضرب الأرض بالسياط فيهابك الجميع، هنا ينصت الجميع لك فتصدر الأمر فينفذ.
– أية أموار وتنفيذ في هذا؟
– إن اللعبة لن تكف عن الدوران، ووراء هذا الجبل أسمعها تلتقط أنفاسها، وعندما يعم الصمت والسكون ويخلد الجميع للراحة تأتيك من الشرق قائلةً :أفيقوا أيها النائمون
– أري أنها مجرد تشبيهات
– الصورة أحيانًا تكون أوضح من الحقيقة
– نعم، ولكنى لم أفهم ما تقول
– قليلٌ جدًا من يعي بأنَّ الحياة ملهاةٌ وربما تكون اللحظة الأخيرة هي لحظة اليقين الحقيقة في حياة المرء منَّا مهما طالت، فعندما تتذكر الطفولة وتمر بك الذكريات وتقف على بوابة الكهولة فتضحك دون توقف تري أنك فقدت أشياء كثيرة.
– كلٌ منا يفقد في الحياة حياتهُ
– ليس كذلك، بل يفقد في الحياة أسمي معانيها.
– أرى أن الحياة لا تستحق أن تفكر فيها
– إذن فلماذا تفكر في الأبناء، وتفكر فيما أنت فيه؟ ربما ما أنت فيه هى حياتك فحسب؟
– ألم أقل لك بأنني ضائع؟
– لا، أنت متوتر فحسب، عليك أن تبقي كالسحاب، يختزن المطر فيجود به وقت الحاجة الشديدة إليه، فيصح له معنى حقيقى.
– عجيبٌ أمرك
– لا عجب في ذلك؛ لقد مكثتُ هنا أكثر من عشر سنوات، رأيت فيها وجوهًا متكررة، وعقولاً تعي ما يجب أن تفعله، وآخرون تسير بهم أقدامهم حيث تسير، لا يفكر المرء فيهم فيما يجب فعله، كان السؤال لماذا نضيع أوقاتهم هنا؟، وما الفائدة الحقيقة من الاستيقاظ مبكرًا والوقوف متراصين في صفوف متساوية؟، من أجل تناول الواجبات اليومية، ربما فطن البعض منهم الفائدة الحقيقة من وراء هذا
– وأنت ؟
– أنا ؟
– نعم أنت …. ما الفائدة من بقائك هنا ؟ هل تنظيم الصفوف فقط ؟
– ربما كان عليَّ أن أعي بعض الحقائق، فأنت عندما تهتم بقراءة كتاب معين تبحث عن حقائق خاصة فقط، ولكن عندما تفتح لك الدنيا صفحاتها عليك أن تتعلم وتُعلم؛ ليبقي لك معنى
– ربما تظل طيلة حياتك تبحث ولا تجد نفسك إلا في التراب
– هذا خطأ منك أنت، فالحق جليٌ بين السطور، عليك أن تبحث وتجاهد من أجل لذة الوصول، عندما تقطع شوطًا كبيرًا من الركض، وربما لا تعلم ما وراء هذا الركض، وينتابك شعور بأنه يجب عليك أن تتوقف قليلاً؛ لتتفقد ما حولك سوف تشعر بحرارة تنساب بين أنفاسك الدفينة.
تنهدَا الرجلين بطريقة عفوية وكأنهما جسدٌ واحد، وأُذن للصمت أنَّ يعود ولكنه لم يدم فقال الرجل:
– إنَّ الحقيقة واحدة، وإلا فسوف يضل من ينشدها، ولكن لها صورٌ متقاربة تختلف حسب المرء الذي يبحث عنها
أشعل “خالد” سيجارته ثم قال:
– إنها مأساة تتكرر
حينها كان الضوء خلف الحدود يزحف رويدًا رويدًا، و”سيد” أشعل سيجارته ونظر لها وهي بين أصابعه في دهشةٍ كأنه لأول مرة يمسكها قائلاً:
– ربما كان على المرء أنَّ يعرف كيف يلتقط أنفاسه في معترك الحياة، وكيف يتلذذ بها.
* من الكتاب الشباب في مصر