سلسلة الكتب : ( موت عزرائيل ) 2


مفلح العدوان

 


تواصل ( ثقافات ) نشر الكتب الكاملة المختارة لمجموعة من الأدباء والمفكرين العرب، وهي هنا تبدأ بنشر المجموعة القصصية الخاصة بالأديب الأردني مفلح العدوان والتي كان قد نشرها خلال السنوات الماضية، ولاقت حين نشرها إشكاليات مع قلم الرقيب وتم تحويلها الى دائرة الإفتاء العام بالأردن.


هنا قصص المجموعة على حلقات



 


موت عزرائيل



قال عزرا- إيل: (سبحانك لم يبق أحد!).
حينئذ لم يومض الضوء العلوي، بل ساد صمت، فانقبض قلب عزرا- إيل.. وكان الثلاثة حوله: (إسراف – إيل..
ميكا- إيل.. وجبرا-إيل).
– (أي عزرا-إيل.. ألم تأخذك بهم رحمة حين قبضت على أرواح الجميع؟!).
قال جبرا- إيل.
– (إنها الأوامر قضت بأن يموتوا، ولست إلاّ يد العليّ!)
وغشي الحزن عزرا-إيل!
***
جاء الصوت: (من بقي يا عزرا-إيل؟!).
التفت حوله..
كانت الأرض فارغة إلاّ من شواهد القبور، وأشباح الموتى، وهسيس الريح الذي يضرب جدران البيوت.
ولم تكن اليابسة لذّة للساكنين، ولا السماء فضاء الحالمين، وحدها القبور كانت!
أما الدروب فكلّها بقايا ذكريات بعيدة: هنا نقش البشر تاريخهم، والعروش بقيت تفتقد دفء عباءات المتربّعين عليها، والمشانق تهتزّ حبالها بعد أن سقطت كل الرؤوس.
وفي الأزقة رذاذ كركرات ضحك الأطفال بلا صوت، والوحشة خيمة حتى على الذكريات.. لم تبق إلاّ الريح بلا معنى، حياديّة حدّ النشيج!
***
– (من بقي يا عزرا-إيل)؟!
– (سبحانك.. لم يبق أحد!).
وارتفع الصوت متحدياً: (بل بقي يا عزرا-إيل!).
حدّق حوله مدققاً أكثر..
كانوا يحيطون به: (جبرا- إيل/ الحبيب، إسراف-إيل/الرفيق، ميكا – إيل/الصديق) كذلك أنا مؤتمن العرش وقابض أرواح الجميع!
ماذا؟!
هل يعقل بعد هذه الخدمة العظيمة لهم في سرايا السماء أن يأمرني بأن أقبض أرواحهم: الحبيب، والرفيق، والصديق وأنا؟!..
ماذا؟! غريب أمر هذه السماء!
أبيض.. أحمر.. أخضر.. أسود..
والبقية ماشية بألوان أخرى كثيرة، تسير ولا تدري إلى أين.. على فترات أكلها الأسد بعد أن تنازلت في البدء عن الثور الأبيض، ثم الأحمر، والأخضر، والأسود.. والبقية!
حتى جاء يوم قالوا فيه: (أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض!).
تذكّر عزرا-إيل تلك القصة الأرضية فتساءل: (ماذا عن مواشي السماء؟!).
قال الصوت: (من بقي يا عزرا-إيل؟!)
أجاب بانكسار: ( لم يبق إلاّ جبرا-إيل، وإسراف-إيل، وميكا- إيل، وعبدك الماثل بين يديك!).
عبدك! عبدك!
هه.. نعم، كلنا عبيدك، ولك الأمر.. ها نحن أمامك بعد أن عذّبنا الجميع وأمتناهم، فماذا بقي؟!
أغمض عينيه فرأى كيف كانوا يجوبون البلاد، كل البلاد، ويتنصتون إلى كل همسة ونأمة فيها، ثم يخبرون صاحب الأمر بما تحدث به اليمين، وما خطّط له اليسار.. يرصدون له من فرح ومن بكى..ثم يأتونه مخبرين: (لقد أخطأوا، وأساءوا.. لقد عارضوا وانحرفوا).
فيأمره صاحب القول: (يا عزرا- إيل، إقبض أرواحهم ثم زجّهم في القبور). ويفعل دون سؤال!
يبكون فلا يرحم.. يرجون فلا يجيب..
يتشبثون به: (يا عزرا- إيل، أمهلنا يوماً أو بعض يوم!).
لكنه لا يسمعهم!
قال لروحه: (كم كنت غبياً إذ لم أسأل نفسي ماذا سيكون مصيري حين يموت الجميع؟! وماذا أذنبوا لينتهوا، ويُزجّوا في القبور مع الدود والذباب؟! ألأَنهم حاولوا أن يسألوا ويفكروا؟!).
(يا عزرا-إيل.. إقبض روح جبرا- إيل؟!).
ارتفع الصوت آمراً.. فبكى جبرا-إيل!
وغطى الحزن وجهه فتساءل: (سبحانك.. لماذا؟! ألم أكن خادم عرشك المطيع؟! ألست حامل رسائلك إلى مريديك حيناً، وجناح عذاب على معارضيك أحياناً أخرى؟! ألم أكن نفخة الرحمة على بعض المدن – بأمرك – في زمان، وإعصار نقمة على أقوام – بأمرك – في زمان آخر؟! ألست حاجبك المطيع، وحارس سرّك الأمين؟! إذن.. لماذا تسلّط سيف الموت حتى عليّ؟!).
لم يتراجع الصوت، فاقترب عزرا-إيل وقال:
– (عُذيرك.. فلا بدّ وأن أطيع الأمر.. لا بدّ!).
وقبض روح جبرا-إيل.
***

مرهقاً كان!
ورأى إسراف-إيل، وميكا-إيل يرجوانه ألاّ ينظر إليهما.. قال ميكا- إيل: ليتني لم أُخلق!
قال إسراف-إيل: الدور قادم إلينا، ولا مناص من قبضة عزرا-إيل!
هزّهما الصوت: (يا عزرا-إيل من بقي من عبادي؟!).
نظر إليهما، فأشاحا بوجهيهما عنه.. وتحشرج صوته..
قال: (سبحانك لم يبق إلاّ ميكا-إيل، وإسراف-إيل، وعبدك الماثل بين يديك!).
ساد الصمت..
واقترب منهما، فالتقت عيناه بعيني ميكا- إيل: (كيف يأمرني بقبض روحك وأنت من كنت بيدك تقبض أرزاق البلاد وخزائنها، وبيدك انسياب الأنهار، ودموع المطر؟.. كيف؟.. وأنت كل الأشياء كنت تعطي أو تقطع، تأمر أو تنهى! ثم بلحظة يتخلّى عنك! كيف وأنت ذراعه التي تجتاح كل الأمكنة، وتبعثر كل استقرار؟!).
حوّل عينيه باتجاه إسراف-إيل..
كان الصُور بين يديه، بينما قلبه ينفخ خوفاً، وعيناه مذهولتان: (أنا.. أنا من عذّب الجميع.. الآن أعترف! لا مجال للإنكار، ولا بديل عن الاعتراف، فبعد قليل، وربما الآن سيقبض عزرا-إيل روحي رغم أنّه صديقي، لماذا أكذب، حتى آخر لحظة، على روحي؟! نعم كنت سبباً في شقاء الكثيرين، وعليّ أن أعترف: أُقر بأني أرهقت البشر، كل البشر بالعذاب.. وكان خلاصهم بيدي لكنّي لم أفعل.. كنت الوحيد القادر على بعثهم ببوقي هذا لكني أّجّلت ذلك عن سبق إصرار على تعذيبهم وتصميم على نيل رضا العليّ ولو على حساب آلامهم.. الآن أعترف، وما كنت أدري بأن السيف الذي سلّطته على رقاب العباد سيصل إلى رقبتي!).
– (يا عزرا-إيل.. إقبض روح ميكا-إيل).
أمر الصوت بذلك، فانقضّ عزرا-إيل بسرعة خوف أن يأخذه ضعف، فقبض روحه.
ثم لم يبق إلاه، وإسراف-إيل فكانت المواجهة:
– (عزرا-إيل.. ماذا لو أمرك ان تقبض روحي.. هل تفعل؟!).
– (رحماك اسراف-إيل.. وهل كنّا جميعاً نستطيع أن نخالف أمره؟!).
– (كان أفضل لو لم نعذّب، أنا وأنت، البشر.. ماذا استفدنا الآن؟!.. لا شيء!).
– (كنا نستطيع أن نخفّف عنهم، لكنا ما فعلنا.. وهو أمر بذلك!).
– (لو نستطيع الهروب!).
– (لكن إلى أين نهرب؟!).
***
ارتطم الصوت بآذانهما : (يا عزرا-إيل.. من بقي من عبادي؟!).
فابتعدا فجأة عن بعضهما كأن لا رفقة بينهما..
قال عزرا-إيل : (بقي إسراف-إيل.. وعبدك الماثل بين يديك!).
وبكى إسراف-إيل حين سمع:
– (إذن.. فاقبض روح إسراف-إيل).
قال عزرا-إيل : (ما الذي يبكيك الآن؟!).
بكاء إجابة: (تذكّرتهم.. كلهم كانوا يرجونني أن أُريحهم، ولم أكن أفعل.. كنت قاسياً معهم.. تذكرتهم، وها قد جاء دورهم لينتقموا من عذابي لهم..!).
اقترب منه، فسقط سماءً.. ومات!
***
بقي عزرا-إيل..
أحسّ بالغربة وحيداّ!
تأمل حوله فكان رفاقه في خدمة العرش يسبحون موتى بين السماء والأرض بلا قبور ولا جبروت!
أخذ يهذي: (وحدي بقيت، وجميعهم رحلوا.. ليتني لم أُعذّب أحداً.. ليتني لم أُمت أحداً.. اقتربت الساعة، وأنا حتى آخر لحظة إسفين الموت والعذاب حتى على أعزّ الأحباب لي!).
سمع الصوت: (من بقي يا عزرا-إيل؟!).
ها قد جاءني الموت!
ماذا أفعل؟! دقّات قلبي تنخفض قليلاً، قليلاً، والبرودة بدأت تجتاح جسدي.. آه، لو أشرب قطرة ماء.. لو أُعطى القليل من الوقت لأُكَفّر عن خطاياي بحقّ من عذّبتهم..
اقتربت الساعة، فماذا أفعل؟!
بلهفة قال: (سبحانك لم يبقَ إلاّ عبدك الماثل بين يديك!).
عبدك! عبدك!
إرحم عبدك.. أنا من نسي كلّ الرحمة من أجل إطاعة أمرك..
ليتك ترحمني! عبدك.. عبدك!
كنت سيفاً بيدك، وموتاً بأمرك، وعذاباً على كل معارضة لك، وكاتم صوت لكلّ من عاداك! فهل تنساني بجرّة عمر أو نفخة صور؟!
عبدك! عبدك!
أظنك لا تخذل خدم عرشك!
دون اكتراث جاء الصوت: (الآن جاء دورك يا عزرا-إيل)
وأحسّ بيد تنتزع روحه..
في آخر شهقات الموت قال: (آه لو كنت أدري أن هكذا كان عذابهم ما كنت فعلت.. ليتني كنت بهم رحيماً!).
وسقط سماء!
***
كان الصمت أثقل من الموت!
والسماء كما الأرض أصبحت بلا ساكنين!
جاء الصوت: (من بقي من عبادي؟!).
لكن.. لا أحد يجيب!
ازداد الصوت أكثر: (لمن الملك اليوم؟!).
بقي الــ(لا أحد) يجيب صمتاً!
قال الصوت: (المُلك لي وحدي أنا القوي القهّار!).





واكتمل النصاب



معجزة أبي أنا!
كان يدري أني لن أترك هذا المكان، ويعلم أنّي أصير سمكة إن أردت، وأكون حوتاً بأمري.. وإذ تحاصرني الجدران وتضيق بي أغدو قطرة ماء، أتسلّل من أي شقّ، وأنزّ منتزعاً خلاصي!
وُلدت سليل الماء، فكيف بالماء يخيفني؟!
حين نأوا، كان معهم قائداً للسفينة، وكنت أُدرك أن شقاءهم بدأ مذ أخذ يزجّهم إلى جوف الفُلك غنما وبشراً، طيوراً وزواحف حتى اكتمل النصاب إلاّ منّي، فأحصاهم عدداً!
التفت إليّ.. قال: معنا أو يكن في الماء نعشك!
حدّقت به..
كانت عيونه جافّة إلاّ من دمعة، وكنت أخشى أن يطلق سراحها.. فيها يكمن السرّ!
تأملته.. تساءلت: الماء ميلاد الحياة، عرش السماء وميثاق الأرض، هذا ما علّمني أبي فما الذي أنساه معنى الماء؟!
غابوا..
أخذت السنون تسبح معهم حين ابتعدت السفينة، وما كانوا يشعرون.. أربعون عاماً في البدء قبل أن ينقطع انهمار الماء، ثم حبسهم أربعين سنة أخرى حتى ترسو السفينة، وأتبعها أربعين سنة حتى يجفّ الماء، فماذا تبقى إذن؟!
اخترت الماء..
حذّرته: يا أبت، لا تزجّ نفسك مع الحشرات وأراذل المواشي، وتُنصّب نفسك ربّاناً لسفينتهم، كن معي وأختر الماء!
رفض، فدعوت له بالرحمة..
سار باتجاه السفينة.. أغلق أبوابها وأحكم سدّ منافذها..
رفع أشرعتها البيض وأنا أتبعه حتى آخر كوّة فيها.. كانت الدمعة تكاد تطفر من عينيه وكان يريد أن يقول شيئاً، يريد أن يلوّح لي بيده مودعاً غير أن تضاريس الخوف كانت بادية على ملامحه..
عند آخر كوّة اقتربت منه، تمتمت: أبَتِ!
فأشار لي بالصمت وهمس بأذني: أخاف عليك منهم!
تأمّلت من خلال الكُوّة كل من حوله من الكائنات، لم أَرَ إلاّ اللائي يمشين على أربع بأنياب كالذئاب ولم يكن إلاّ هو بينها واقفاً على قدمين وينبض بقلبي.. تمسّكت بيده، هذيت:
يا أبتِ!
شدّ على يدي ووشوشني خائفاً: كانت مؤامرة، وهذا خلاصهم!
أبي كان حارس السفينة..
وكنت في الماء أراه يلوّح لي مثل سجّان ينهي موعد الزيارة!
أغلق الكوّة، فبدأ انهمار الماء..
سعيداً كنت، وكانت السفينة تتكئ على الماء وتمشي.. تأملتها مبتعدة فتذكرت دمع أبي.. كان سجاناً أنقذ كل الذين معه في السفينة وبقي مائة وعشرين عاماً يبحث لهم عن أرض بلا ماء يكملوا حياتهم فيها!
***

شاهد أيضاً

“الدخيل” و “ليلة عاصفة: روايتان للأديب عدي مدانات PDF

( ثقافات) يسرّنا نشر الأعمال الروائية للأديب الأردني الراحل عدي مدانات والتي صدرت عن البنك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *