محمّد محمّد الخطابي*- غرناطة
( ثقافات )
كتاب غريب وقع فى يدي، ترك أثرا بليغا فى نفسى عند قراءته فى المدّة الاخيرة، الكتاب يحمل عنوان “أنطولوجيا الشعراء المحبطين أو المنتحرين”، ولقد خلت فى البداية أنّني سأجد في هذا الكتاب عشرة أو خمسة عشرة شاعرا صادفهم سوء الطالع فازورّوا عن الرشاد،وأولوا ظهورهم لسنن العيش الحميد ، وضربوا عرض الحائط نعمة الحياة التى وهبها الله لهم، فزجّوا بأنفسهم فى غياهب الشؤم والظلمات ، و هوّات الضلالة والضلال، وألقوا بأيديهم إلى التّهلكة معجّلين بالخلاص المحتوم، فإذا بي أجد أمامى عددا كبيرا من هؤلاء الشعراء المنكودين، عدد يبعث القشعريرة فى الجسم، ويثيرغير قليل من التساؤلات المحيّرة التى ليس فى مقدور المرء أن يجد لها تفسيرا أو تبريرا يقنع بهما نفسه أمام هول هذا المروق الفكري والتصرّف المشين ، لقد ناف عدد الشعراء الذين ضمّتهم هذه الأنطولوجيا المرعبة بين دفّتيها 53 شاعرا من هذا النوع ، بل ان بعض هؤلاء الشعراء المحبطين إنساقوا نحو الإنتحار بواسطة الإلهام الإبداعي ذاته. يقدّم لنا المؤلف “خوسي لويس غاييرو”، في هذا الكتاب الطريف والمخيف في آن واحد، قصصا وحكايات ونبذاً عن حياة كل واحد من هؤلاء الشعراء المحبطين ترتجف لقراءتها القلوب، وتقشعرّ لها الأبدان ، بل إنّ بعض هؤلاء الشعراء إنساقوا نحو الإنتحار بواسطة الإلهام الإبداعي ذاته. وقد إقتصر بحث المؤلف فى هذا الكتاب على إدراج الشعراء الغربيين (أوروبيين وأميركيين). وهذه نماذج من هؤلاء:
جيرار دي نيرفال:أوّل السّورياليين
كان جيرار لابروني ( نيرفال) (1808 ـ 1855) من أكبر الشعراء الرومانسيين الفرنسيين، زار سورية ولبنان ومصر وشمال إفرقيا ، ويؤكّد ” أندريه بريتون” في بيانه السوريالي الشهيرعام 1924أن نيرفال كان أوّل من إستعمل مصطلح السوريالية فى مقدّمة كتابه”بنات النار” (1854) . كان قد شرع في ترجمة “فاوست” لجوهان فون غوته الذي تحمّس لهذا العمل لدرجة أنه سلّمه المخطوط الأصلي باللغة الألمانية لهذا الكتاب. وعندما بلغ 26 سنة من عمره ورث ثلاثين ألف فرنك فرنسي ذهبي. وكان يكتب باسم مستعار وهو نيرفال. أقنعه بلديّه ومعاصره “أونوري دي بلزاك “بإنشاء مجلة بهذا المبلغ، إلاّ أنه بعد مرور سنة واحدة، كان قد أفلس. وعندما بلغ الحادية والثلاثين من عمره، لم يعد لديه مسكن يأوي إليه، وفي عام 1851 إكتشف سكّير متشرد فى أزقّة باريس جسده مسجى على الأرض ، مغطّى بالثلوج. من أعماله” رحلة إلى الشرق”(1854)،”بنات النار”(1854)،”أوريليا” أو حلم الحياة (1855).
ألفونسينا ستورني :معانقة الآلام
عادت ألفونسينا ستورني (1892 ـ 1938)من سويسرا إلى بلدها الأرجنتين بعد أن كانت أسرتها قد هاجرت من هذا البلد الأميركي اللاتيني إلى سويسرا.وبعد وفاة والدها، إشتغلت في مصنع للنسيج، كما إشتغلت نادلة ، ثم ممثّلة ، ثم أصبحت بعد ذلك أستاذة في مدرسة اللغات الحيّة عام 1935 ببوينس أيريس، كان هوسها البحث عن المساواة بين الرجل والمرأة، ومنذ 1916 نشرت أوّل دواوينها الشعرية، وأصبحت إمرأة مشهورة تقرأ الشعر في الأحياء الفقيرة في بلدها الأرجنتين، كان شعرها حزينا عميقا يعانق الآلام والخوف ويطفح بالمشاعر الفيّاّضة. وبعد عودتها من رحلتها الثانية لأوروبا إكتشف الأطباء أنها كانت مريضة بالسرطان، وذات مساء من شهر أكتوبر من عام 1938 خرجت من منزلها وضاعت في غياهب المحيط الهادر ببحر الفضّة بالأرجنتين. بعد أن تركت قصيدة مكتوبة بلون أحمر على ورق أزرق تحت عنوان “سأخلد للنوم الأبدي”. من أعمالها ” قلق غصن الورد “(1916)، ” السّنة الحلوة” (1918) ” الكسل” (1920).
مارينا تسفيتيفا : ضحيّة عصرها
يعتقد النقاد أنّ هذه الشاعرة الروسية مارينا تسفيتيفا (1892- 1941) كانت ضحيّة عصرها، كانت حياتها سلسلة من المعاناة الدائمة، والعذاب المتواصل وقد صادفها سوء الحظ، حيث قادها كل ذلك إلى الإنتحار بعد أن جاوزت سنّ الأربعين بقليل، كانت تنتمي لأسرة بورجوازية راقية ميسورة ، ولقد ألحقت الثورة الروسية أضراراً جسيمة بها وبعائلتها، بعد أن صادرت السلطات الروسية ثروات زوجها الذي كان يعمل في الجيش الروسي، ثم إختفى فجأة بشكل مؤقت، وماتت إبنتها أمامها تتضوّرجوعا لأنه لم تعد لديها أطعمة تقدّمها لها. وفي عام 1922، تلتقي من جديد مع زوجها ثم تتّجه نحو براغ ثم إلى باريس، حيث تقيم لمدّة أربعة عشر عاما. وبعد قراءتها نصّا لبلادمير ماياكوفسكي إقتنعت أنّ مكانها الحقيقي هو روسيا، حيث إنتقلت عائلتها قبلها إلى هناك عام 1937 في إنتظار أن تلتحق بها، وبعد سنتين من وصولها إلى بلدها، إكتشفت مارينا تسفيتيفا أنّ إبنتها تمّ إدخالها إلى أحد معاقل التعذيب، وأنّ زوجها قد تمّ إعدامه. فاتّجهت نحو قرية إتبورجا حيث ماتت شنقاً.
سيزاري بافيزي: سأم ومعاناة
كتب الشاعر الإيطالي سيزاري بافيزي(1908 ـ 1950) ذات يوم يقول “سيأتي الموت وسوف ينتزع عينيك”، إلا أنّ الموت لم يسع إليه، بل هو الذي سعى إلى الحمام سعيا حثيثا بتاريخ 26 أغسطس عام 1950، حيث إبتلع 16 علبة كاملة من الحبوب المنوّمة. أصبح بافيزي يتيما في سنّ مبكرة وهو لمَّا يتجاوز بعد الست سنوات من عمره ، وعندما بلغ التاسعة عشرة خريفا كان قد طفق يعبّر عن ملله وسأمه من الحياة وتعبه منها على طريقة أبطال ألبرتو مورافيا، حيث كان يسمّي نفسه بـ “أستاذ في فن عدم الإستمتاع بالحياة”! وبعد أن حصل على دكتوراه من تورين عمل في دار النشر إيناودي، وفي عام 1935 حكم عليه بثلاث سنوات سجنا نافذة لتدخله في حياة خليلته السابقة” تين ” وخطيبها الذي كان من مسيّري الحزب الشيوعي الإيطالي، وبعد خروجه من السجن إكتشف أنّ حبيبته ّ “ذات الصوت الملائكي الحلو” قد هجرته وتزوجت غيره. وبعد عام 1941 بدأ في نشر الروايات الواحدة تلو الأخرى. وعلى الرغم من النجاح الواسع الذي حققه، فإن ذلك لم يكن سبباً كافياً لإستعادة توازنه النفسي، وبعد بضع سنوات وضع حدّا لحياته.
غابرييل فرّاتير: الحبّ والعدم
ينتمي الشاعر غابرييل فرّاتير (1922 -1972) لجيل الخمسينات، وهو يعتبر من أكبر الشعراء الاسبان الكطلانيين المعاصرين. وصفه نقاده بأنه كان شديد الذكاء والفطنة، إلا أنه كان سيئ الحظ، قليل المال، كان في غرفة أحد الفنادق، وقد ترك رسالة يقول فيها “الواحد منّا لا يجعل حداً لحياته بسبب حبّ إمرأة، بل إنّه يموت وحسب، لأنّ أيّ حبّ يؤرقنا، ويفضح بؤسنا، ويعرّي تعاستنا وخذلاننا، ويجعلنا نغوص في العدم”. كان باحثاً مجداً وناقداً فذاً ومترجماً حاذقاً لهمنجواي وسيزاري بافيزي، كان غابرييل فرّاتير قد حدّد نهاية لحياته في الخمسين من عمره، وقبل إستيفاء الأجل، ربط كيساً من البلاستيك حول رأسه.
فيرجينا وولف: السّعادة الضّائعة
فيرجينا وولف (1882—1941) كتبت إلى زوجها قبيل أن تحشو جيوب معطفها بالحجارة وتلقي بنفسها في نهر قريب من منزلها تقول:”أشعر أننى أكاد أفقد عقلى،أظنّ انّنا لا يمكننا أن نتحمّل مرّة أخرى تلك اللحظات الرهيبة ،لقد بدأت أسمع أصواتا، ولم أعد أستطيع معها التركيز، لقد وهبتني كل السعادة الممكنة، حتى جاء هذا المرض اللعين، وبدّد سعادتنا وأحالها إلى جحيم لا يطاق، لم يعد فى مقدورى مصارعته، بدوني أعرف أنّك تستطيع أن تعمل، سوف تفعل أنا على يقين من ذلك ، لقد أصبحت عاجزة حتى عن الكتابة كما ترى، كما أنّنى لم أعد أستطيع القراءة ، كنت صبورا و طيّبا معى إلى أبعد حدود،لقد فقدت كل شئ إلا طيبوبتك،لا أريد أن أجعل حياتك جحيما أكثر ممّا أنت فيه بسببي ، لم يكن هناك شخصان سعيدين مثلما كنّا نحن الإثنين” .
كاسارييغو وآخرون: الدفاتر الصفراء
كان” بيدرو كاسارييغو”(1955 ـ 1993) يقول : ” لو أُطلق يوماً إسمي على أحد شوارع مدينة مدريد فإنّه سيكون ولا شكّ شارعاً بارداً” إلاّ أن أشعاره لم تكن كذلك، بل كانت تحفل بالدفء والحرارة والقوّة، كان يكتب أشعاره وكأنها روايات متشابكة متسلسلة مترابطة، تكوّن في النهاية قصّة محكمة متراصّة شعراً. من أعماله: «الحياة ضجر»، وغنيّة عن التعريف في الأدب الاسباني المعاصر دفاتره «الصفراء والحمراء والزرقاء والخضراء». كان رساماً بارعاً كذلك ، وقد خلّف لنا رسومات في جودة متناهية. وفي عام 1993 ولدت إبنته الوحيدة خولييتا التي أهداها إحدى قصصه. إلاّ أنه بعد يومين من نشر هذا الكتاب وضع حدّاً لحياته. ومن الشعراء الغربيين الآخرين الذين صادفهم سوء الطالع فى مشوار حياتهم ، ومعظمهم غير مدرجين فى هذه الأنطولوجيا: الإنجليزى طوماس شاترتون(1770-1752) ،والألمانية كارولين غوندرود (1780-1806) ،البرتغاليان أنطيرو دي كينتال (1842- 1891) و ماريو دي ديسكارنيرو(1890-1916) الكولومبي خوسيه أسونسيون سيلفا (1865-1898)، النمساوي جورج تراك (1887-1914) ،والسويسري أرثور كرافن (1887-1920) ، الروسي سيرغي إسينين (1895-1925) ،الأرجنتيني فرانسيسكو لوبث ميرينو (1904-1928) ،اليوناني كوستاس كاريوتاكيس( 1896-1928) الروسي فلادمير ماياكوفسكي(1893-1930) ،الأمريكي هارت كرين (1899-1932)، البريطانية فيرجينا وولف(1882-1941) ، التشيلية فيوليتا بارّا (1917-1967). الإسباني أنخيل غانفيت (1865-1898) وسواهم . بعض هؤلاء الشعراء مدرجون فى “أنطولوجيا الفكاهة السوداء ” للكاتب الفرنسي السوريالي المعروف أندريه بريتون .
الطموحات الكبرى
وهناك كتّاب وشعراء آخرون واجهوا نفس المصير المحتوم ، مثل الشاعرة الإنجليزية “سيلفيا بلاث ” التي حشرت راسها داخل فرن منزلها فى لندن ،وإرنست همينغواي الذي طار مخّه بطلقة بندقية صيد. وهذا الكاتب الإنجليزي توماس شاترتون الذي فارق الحياة وهو بعد لم يزل فى شرخ الشباب . والكاتب الإيطلي الغريب الاطوار الذي رحل عن هذا العالم عام 1985. ويتساءل الناقد “غارسيا بوسادا” هل يحمل الادب الحديث فى طيّاته بذور السوداوية والشرّ إلى هذه الدرجة؟ على الرّغم من أنّ هذا الادب هو مطبوع بآثار الطلائعيين الذين يعتبرون هم بدورهم ابناء شرعيين للشعر الرومانسي الحالم فضلا عن أنه داخل الادب فإن الشعر بالذات يعتبر أرقى ضروب الفنون جميعا وارقّها. ويشير صاحب الكتاب أنه وضع هذا المؤلف تكريما للفشل مع إعتبارات أخرى، ويكفى أن نذكر هنا أنّ ألبير كامو علّق ذات يوم على ذلك فأشار أنّ هذا النوع من الفشل غالبا ما يقترن بالطموحات الكبرى.إنّ الشاعر عندما يبحث عن التوازن النفسي فى الحقائق الحياتية ، وفى مواطن ومناهل الخلق والإبداع الفني التي تناغي ضميره فإن ذلك يشبه التعلّق او التشبّث بكتلة خشب فى لحظة الغرق ، إنّ “غوته”فى بعض شطحاته الفكرية انقذه أبطال أعماله ، فالرّواية الرومانسية ظهرت تحت شعار الحب القاتل ، واقترنت بأعمق معاني الصّبابة والجوى والتيه والوله. كل هؤلاء هم ضحايا تفكيرهم المنحرف وحكمهم المزورّ على الحقائق والواقع والأشياء ،كانت حياتهم عذابا مقيما ،وبينهم وبين الموت والحياة خيط رفيع .إنّ الرموز التي تطفح بها أشعارهم، والمزاج الأسود الذي يطبعهم يزيدنا حيرة ، ويرسم نصب أعيننا علامات إستفهام ضخمة بشأنهم .
*كاتب من المغرب مقيم فى إسبانيا.