ضرس


إدريس خالي *

(  ثقافات )

 

 
في المنزل الذي تحول إلى عيادة كل شيء محسوب. غرفة للنساء ، ثانية للرجال و ثالثة للطبيبة. و في الردهة منضدة تقف خلفها (على الرغم من وجود كرسي خشبي) المكلفةُ بالاستقبال.
قبل الشروع في عملها تقوم العاملة بضبط تلفاز بحدبة على قناة ‘المجد’ حيث مقرئ يتلو: ‘يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم…’
اليوم جمعة. في فمي الذي انفتح فجأة ضرس لعين لم يتركني أنام طوال ليلة البارحة. ‘ضرس العقل’.أنا ثالث الموجودين في غرفة الرجال و رابعنا طفل يتعلم المشي. لقتل الوقت ( قتلي) أقرأ بمتعة و دهشة حكايات إيطالو كالفينو حيث الأمراء و الأميرات يتزوجون و يعيشون في سعادة و هناء بعد القضاء على الأشرار. في الغرفة الأخرى نساء و فتيات. أسمع أصواتهن و لا أحاول التدقيق في وجوههن حين يمررن في اتجاه غرفة الطبيبة.
تنادي المكلفة بالاستقبال على اسمي. على شخص يحمل اسمي. حان دوري أخيرا. أجعل من يدي كماشة بثلاث رؤوس. السبابة في الصفحة التي أقرأ، الإبهام على الوجه الأيمن للغلاف و باقي الأصابع على الوجه الأيسر. قبل أن أتقدم نحو غرفة الطبيبة أحس بانقباض طفيف في جسمي . تتقدم مني فتاة و تطلب بأدب جم أن أترك لها ترتيبي في لائحة الحاضرين لأن لها شغلا عاجلا ينتظرها. بهدوء شديد تنقصه ديبلوماسيتي المعهودة أقول لها ‘لا يمكن’. أرفض طلبها حتى بعد أن نظرتُ إلى عينيها الكبيرتين.
لي شغل ينتظرني غير الصلاة و الطاعة و لغة العينين.
تفسح لي العاملة الطريق كما لو كنت شخصا مهما. تفتح باب غرفة/مكتب الطبيبة. أدخل. أطوي رأس الصفحة 98 و أغلق كتاب الحكايات الإيطالية. أحيي الطبيبة المحجبة و أجلس على كرسي خشبي متوسط الطول. أرمق سلك أليمنيوم موضوعا على الأسنان العلوية للطبيبة. و بعد سؤالين أو ثلاثة تطلب مني المساعدة أن أتمدد على كرسي العلاج. أفتح فمي و أحاول أن أتحكم في ارتعادي الداخلي. غير أن الانقباض الذي في جسمي لا يبرحني. لنسيان و مداراة الألم أفكر في ضرسي الذي حاولت حمايته بالترميم المتكرر و فشلت. و كي لا أبدو، كما أتصور، مضحكا أفتح عيني و أحاول أن أتجاوب بسبابتي مع الطبيبة التي تضع واقيا على وجهها كَلَحّامٍ شاب .
أكره الإبر. لذلك أقول للطبيبة:
– ما كان على الله أن يخلق للإنسان أسنانا أصلا.
تتبسم الطبيبة قليلا و تستمر في عملها. لا بد أنها مدربة على التعامل مع كل أنواع الأفواه.
في انتظار أن يقوم التخدير بمهمته أعود إلى الغرفة. و بينما العاملة المكلفة بالاستقبال تقود الفتاة ذات العينين الكبيرتين إلى غرفة الطبيبة أتابع أنا سريان التخدير في فكي الأيمن. لا تنظر إلي الفتاة. لا أفكر حتى في إيجاد شبه آخر لعينيها غير عيني غزالة. في التلفاز المحدب يستمر المقرئ في القراءة. أسمعه دونما تركيز على ما يقرأ.
و بعد لحظات أكون في غرفة العلاج مرة ثانية. بقليل من الكلام الموجِّه لحركات فمي تقوم الطبيبة الشابة بعملها.
ثم،
– يكفي. سيدي .
– حقا؟
– طبعا. ماذا تظن؟
– برافو إذن. شكرا. لم أشعر بشيء.
قبل أن أخرج، تمد لي وصفة يمكن لي اللجوء إليها عند الاقتضاء. أمام مكتب العاملة المكلفة بالاستقبال أقف لأؤدي ثمن قلع ضرسي اللعين. الضرس المقرون بالعقل. كان الثمن يفوق بالنصف ما توقعت غير أن الألم الذي شدني طوال ليلة البارحة كان له رأي آخر غير الاستمرار في الترميم.
ثمة فجوة أخرى في فمي الآن. لا بأس. مع الوقت سيشتد لحمها،لحم الفجوة أعني، و أصير قادرا على كل شيء بما في ذلك قضم أصابع الطبيبة الشابة.

 

* قاص من المغرب 

 

 

   

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *