أعمال “تمام الأكحل”.. ثلاثية يافا والبحر والبرتقال




هدا سرحان *

( ثقافات )

حملها بحر المنفى من رصيف ميناء حيفا إلى شاطئ بيروت، فكتبت الوقت على أول صفحة من دفتر الطفلة أنها ستظل في رحيل دائم يلونه القلق.
نسيت طفلة يافا لعبتها على سرير طفولتها، فعادت إليها على بساط الحنين بعد 60 عاما، فلم تجدها لأن مهاجرة يهودية سلبتها بيتها وسريرها ولعبتها.
عادت الفنانة التشكيلية تمام الأكحل إلى مسقط رأسها ومرتع طفولتها حيث علّقت حلمها على جدار البيت العتيق، فلم تجد سوى أرصفة عارية إلا من بقايا عشب يابس، وأول حبات ملح حملتها الريح من بحر اشتاق لأهله.
في بيروت مشت الأكحل خطوتها الأولى على درب المنفى، وفي مساكن اللاجئين في مقبرة الداعوق (منطقة صبرا وشاتيلا) شاهدت صور النكبة ورسمت لوحتها الأولى بلون الماء والحليب.
أحست برغبة عارمة تشدّها إلى تفريغ الغضب والحزن والحلم على شكل ألوان قوس قزح تتدفق من طرف فُرشاتها؛ فرسمت لوحتها، واكتملت بثنائية مع زوجها إسماعيل شموط الذي قال لها عندما تقدّم لخطبتها: الفن الفلسطيني يحتاج إلى جناحين كي يحلّق”…

الأكحل وشموط أسسا لمرحلة جديدة رائدة في الفن التشكيلي الفلسطيني، فشرعا برسم الهجرة بكل معاناتها وقسوتها وأحزانها في أعمالهما وحملا أعمالهما إلى العالم ليفضحا الظلم والقهر الذي تعرّض له أصحاب الأرض على أيدي الصهاينة.

في لوحتها زيتية “الشرخ” التي رسمتها في عام 1999، تعبّر عما يقوم به المحتل الصهيوني في فلسطين من محاولات تهدف إلى انشطار الشعب الواحد وتقسيم العائلة الواحدة، فتظهر عروس اللوحة عاجزة عن لقاء الأهل والأحباب.
وتترك زوايا لوحاتها خالية مهملة ضعيفة، لذلك ترى أطراف جميع لوحاتها غنية الأركان والأطراف فهناك المعتقلون الصامدون الذين يتعرضون للتعذيب في سجون الاحتلال.
ورسمت الأكحل لوحاتها بألوان الزهور البرية وألوان الثوب الفلسطيني التي تحمل في ثناياها الفرح، كما غمست ريشتها بزرقة بحر يافا فتحولت أمواجه إلى خيول عائدة إلى برها.. رسمت لوحتها المعبرة عن الذاكرة الجماعية الفلسطينية العصية على النسيان أو الغفران، استخدمت خطوطها وتشكيلاتها وألوانها كسلاح صلب ضد النسيان وظلت تدق على جدران الذاكرة بحماس يؤججه حافز المشاركة بصياغة حلم العودة إلى أرض على امتداد الحنين.
يلاحقها في بعدها الحنين إلى يافا، كما ظِلها، الحنين إلى البيت والحقل والورد ولون البرتقال الذي علّق بأصابعها أو زرقة البحر التي غطت مساحات واسعة في لوحاتها التي كبرت أو تلك التي تُولد في لحظات الإبداع الجديدة، المليئة باللون والدموع والحزن والغضب.
ذاكرة الأكحل غنية بالصور، ومخيلتها المحلقة تختزن تفاصيل التجربة المرة القاسية فتحولها تمام إلى ثلاثية يافا والبحر والبرتقال وهي الثلاثية التي أغنت تجربتها الفنية.
وفي الكثير من لوحاتها وجود واضح للحصان العربي، إذ يرمز للأصالة والعنفوان، كما تقول، فهو أحيانا مُحاصر ومُقيد بالعوائق والحواجز التي تحول بينه وبين قدراته على العطاء والنضال لاسترداد الحقوق الشرعية للفلسطينيين.

* كاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *