خيري منصور *
ثمة ريش للزينة، مقابل ريش آخر للقتال، وهذا هو الفارق بين الطاووس والنعامة، وبين القنفذ والنيص، فالأول يطلق سهاما ملونة ومدببة كالصواريخ الصغيرة التي تليق بكائن بري وصغير لم يقبل التدجين كالدجاج والثاني يرسم لجسده الصغير حدودا اقليمية بأشواكه الدقيقة رغم ان عالمه هو باطن الأرض، وحين شاهدت لأول مرة ذكر البطريق وأنثاه في رقصة تانغو وداعية أدهشني المشهد خصوصا بعد ان صدرت عن الراقصين الثاكلين همهمة اشبه بنشيج بشري خافت، فطائر البطريق الذي يعيش في القطب المتجمد ويقاوم صقيعا يصل الى الثلاثين درجة تحت الصفر، يستشعر الانقراض، ولأن انثاه تبيض بيضة واحدة في العام يتوجب على الذكر ان يساعدها في تدريبات تدوم لأشهر كي لا تسقط البيضة على الجليد ويموت الوليد، وغالبا ما تسقط البيضة رغم كل اساليب الحذر والاحتراز، وربما بسبب الافراط فيهما، فيكون تانغو الوداع، حيث لا يلتقيان الى الأبد، وهذه ليست حصة في علم الاحياء، بقدر ما هي تأملات تأويلية لعالم مهجور، لكنه يحزر بالفطرة ما لا نقوى على ادراكه بالوعي والتعلم، وأذكر انني كتبت في هذه الزاوية قبل عدة اعوام مقالة بعنوان ‘ تانغو من راقص واحد ‘ ودار يومها بين الصديق الباقي محمود درويش وبيني حوار لم ينقطع للقاءين او ثلاثة، وكان الحوار عن العزلة، لكن بمعناها الطوعي العالي والمضيء وليس بمعنى الانسحاب والتشرنق، وأذكر ان محمود كان متحمسا لما كتبه برديائيف عن العزلة في كتابه ‘ العزلة والمجتمع ‘ وكان لانحيازه سببان، اولهما ما كتب عن برديائيف من ماركسيين ارثوذوكس او دوغمائيين حيث وصفوه بالبرجوازي اليميني التائه، وثانيهما التناغم الذي شعر به محمود في اطروحة استثنائية عن العزلة، وانتهينا الى ان المرء احيانا يراقص ظله، ويعقد صداقة مع ذاته متحررا من الأوهام والمقايضات الثقافية والاجتماعية التي تحوله الى ‘ سواه ‘، فالرهان العربي والوجودي هو ان تكون انت ولا احد سواك، لهذا كان عنوان المقالة التي كتبها عشية انفجار الصراع بين التوأمين الفلسطينيين اللدودين في الضفة والقطاع هو ‘ انت منذ الآن غيرك’.
والمثل الانكليزي الشهير عن ضرورة الآخر لاستكمال شرط رقصة التانغو لا يشمل حالات يسطو فيها المونولوغ على الديالوغ، ويضطر الراقص الى معانقة ذاته التي هي ‘ آخره ‘، اما الايقاع فهو ليس عزفا خارجيا بقدر ما هو من افراز قدمين وساقين وذراعين يغذيهما قلب واحد .
‘ ‘ ‘
لوهلة تخيلت رقصة تانغو شبيهة بتلك الوداعية بين ذكر البطريق وانثاه يمارسها قنفذان، حيث لا سبيل الى ملامسة سطح الجسد بسبب كثافة الاشواك الحادة، هذه النمط من التانغو بين القنافذ ينفرد بموسيقاه وبكل تفاصيله ولا يصلح على الاطلاق الا بين القنفذ وانثاه، فكل آخر خارج هذا النوع هو ضحية الرقصة التي تدميه وتسيل الدم من كل مسامات جسده .
ولكي اقترب اكثر، اعترف بأن المسألة ابعد من رقصة تانغو بين ذكر وانثى تسلّحا بما يخص جسد كل منهما ضد الاخر، فهناك بشر عندما يعانقونك تشعر على الفور بأنه عناق القنافذ رغم ان الوجه بشري واللغة دافئة واحيانا بليغة، ولم يحدث ذات فجر ان استيقظ انسان من النوم ليجد نفسه امام مرآته قنفذا كما حدث لمسخ كافكا، لكن مثل هذا الكابوس يتكرر بصور وتجليات مختلفة، فالمرايا ليست هي الشاهد الوحيد على القنفذة او التحول الى قنفذ، لأن هذه الحالة قد تحدث داخليا وفي باطن الذات، وتبقى هناك في ظلام اللاوعي، وثمة ما يغري الخيال بتداعيات لا حصر لها حول مسخ الكائنات بالطريقة الاسرة التي قدمها الشاعر اوفيد، والذي لم يحل كابوس المسخ دون مواصلة حلم ازرق وشفيف هو فن الهوى. والطريف في حكايته انه عوقب على كتاب الحب وليس على كتاب المسخ ونفي الى ارض لا حدود او ايقاعات فيها للفصول .
وبمقدور اي قارىء يتجاوز دور المتلقي الى دور المشارك في منطق الطير لفريد الدين العطار ان يذهب الى ما هو ابعد في تأويل كل شيء، كأن يرى في الغراب ذي الريش الفاحم حمامة ترتدي ريش السّهرة، او في القنفذ كائنا هشّا وناعم الملمس لكنه يرتدي درعا من الاشواك دفاعا عن نفسه، وحين يعود الى جحره يخلعه وينام .
‘ ‘ ‘
لم يحدث ان شاهدنا أحدا حتى من هواة عالم الحيوان يقتني اشواك قنفذ او يضعها بدلا للزهر في اناء، لكن هذا يحدث مع ريش النعام الذي يكنس به الغبار عن رفوف الكتب واحيانا يتحول الى وسائد تحول الكوابيس الى احلام كما يقال في امثال الفقراء، طاووسا لا يرى في ريشه الملون غير عائق لافتراس لحمه، وهذا ما يلخص الفارق الابدي بين عالمي الضرورة والحرية والغريزة والادراك، والبدائيون لا يعلقون فراء الحيوانات الضارية على جدران بيوتهم او على اكتاف نسائهم، لأنها بالنسبة لحاجتهم ادوات يمكن استثمارها محليا، لهذا قد يعثر جاهل بدائي على لوحة لفان غوخ او سيزان ثم يحولهما الى مجرد اداة لاستخدامات لا تتخطى الغريزة واشباعها، لهذا يقول مثل قديم لا تلق اللؤلؤ امام الخنازير، او ان نهاية مشهد ما كانت كارثية واشبه بدخول فيل الى متحف من الخزف .
وبمزيد من التأويل للرّقص الذاتي وبدون آخر تصبح المسألة كأنها محاولة يائسة لتقبيل الذات، فهذا لا يحدث الا بشكل وهمي عبر المرايا لكن ليكتشف من يفعل ذلك ان شفتيه التصقتا على سطح زجاج بارد .
‘ ‘ ‘
لو صحّ ما يقال عن رقصة افعى الكوبرا الصمّاء امام مزمار العازف الهندي، فإن جملة او منظومة من المفاهيم تصبح بحاجة الى حفريات جديدة واعادة نظر، فما يقال هو ان الأفعى الصّماء لا ترقص ولا يستخفها الطرب من عزف المزمار، كل ما في الأمر انها تتحرك برشاقة يمينا ويسارا كي تستطيع لدغ المزمار او الاصابع التي تعزف عليه .
هذا بعد آخر لتانغو القنافذ، فالعناق اشتباك، وما من سبيل لفضّ هذا الاشتباك الا بانهاء الرقصّة وعودة الراقص الى جسده سالما غير نازف، واذكر مشهدا من رواية الجحيم لهنري باربوس يرى من خلاله المؤلف بعيني بصّاص متلصص من ثقب في جدار ما وراء الرقصة بل ما وراء جلد الراقصين، فحيث يضع الراقص يده على جسد من تشاركه الرقصة يبدأ وصف الاحشاء تحت الجلد وكأن هناك كاميرا عابرة للحواجز او اشعة سينية تفتضح الوضع البشري كما هو وبدون اضافات وتجميل واوهام، وهذا المشهد يعيد الراقص الى ذاته لأنه يفكر كما يقول باربوس بأمر وجودي هو انه ولد وحده وسيموت وحده، وهذا ايضا ما عبر عنه على نحو مغاير سارتر في مسرحيته ‘ الحلقة المفرغة ‘ حيث يتوجب على اشخاص سجنوا في غرفة موصدة الابواب ان يمارسوا رقصتهم بكل معزوفاتها العضوية على مرآى من بعضهم ولم تكن مقولته الشهيرة الجحيم هو الاخرون الا خلاصة ذلك المشهد .
‘ ‘ ‘
قد تعرف انثى الثعلب ان النمر او الفهد لهما مواصفات أخرى، بدءا من صفة القوة، لكنها لا ترضى بديلا عن الثعلب، وهذا ما يحدث للقنافذ في رقصتها السرية في باطن الارض، فأنثى القنفذ لا تستبدله بغزال او صقر او انسان، لأنها تعــرف اين تضع اشواكها دون ان تؤذيه، لهذا فالتانغو بين القنافذ صعب ومثير تماما كعناق السلاحف التي تحمل بيوتها والتي هي قبورها ايضا على ظهورها !
( القدس العربي )