علي السوداني *
( ثقافات )
نحنُ الآنَ ،
زرعاً طيباً مجذوراً بباب الفلوجة ،
فلوجة الله التي صلّى عليها ليلاً ، وملائكته والمؤمنون .
بابها ، مثله كمثل باب الحوائج ، وعلى أعتابه يقعد الدحاة ،
ومن بهم حاجة ، شفاء من علة ، وطمعاً بمنزلة .
هي الأرض التي تقدست بدم طهور صابر عنيد ،
فصارت أشبارها ، منائر ومدافن ، من فرط قدسيتها ، تكاد تؤذّن .
هي المبتدأ ،
ميم المقاومة ،
هي الخبر ،
زفة بشائر ، وفتحة هروب للغزاة ،
ضاقت عليهم ، حتى انرسمت مثل سمّ الخياط .
نحن الآن في واحدة من خواصرها ،
نُنَقّلُ القدم خاشعين ، خوفاً من دوسة قبر ،
أو تفزيزة ملاك .
نحن الآن في الفلوجة ،
نشمُّ عطر الجنة ،
أليسَ الله بمكمل وعده ؟
نحن الآن في تمامها ،
إرتقى عاشقٌ منّا دكة حقّ عالية ، وصاح بالناس :
تعالوا تعالوا ، أهل الرافدين الأطهار ،
ادخلوا المدينة آمنين مرتاحين ،
أقيموا فوق سرّتها وساريتها ، أعظم نصب شرف ،
زوروها زوّاراً ،
من كلّ فجّ وثغر وعَلَمٍ مبين ،
جماعات وفرادى ،
مشياً ، والأجر على قدر الوجع ،
ليأتيَ كلَّ واحدٍ منكم ، بكمشة تراب من فجاج أُخياتها ،
من مدائن ومفازات وبطائح بلاد ما بين النهرين .
على رابية من روابي النصب العظيم ،
سنقيم مزرعة ً ، فيها من كل مدينة زرعة مثمرة مبروكة .
ازرعوا في سرّة النصب ، مئذنة عملاقة ، تؤذّنُ في الناس ، رحمة وبركة وتذكيرا .
ابنوا جداريةً ضخمةً داخلَ حوش النصب ،
انقشوا عليها ، أسماء وكنى ورسوم من قضى بفسفور الوحوش الأمريكان ، وواقعات تأبطها شداد الشباب .
قولوا للأرض كلها : إنّ هذا الهولوكوست ، هو من صنع الغزاة ،
الذين عيونهم زرق ،
وجوههم بيض ،
قلوبهم سود ، وقد جائوا من كل ماخورٍ بعيد .
أقيموا ببطن سورها ، مَشوفة كبرى ، تقصّ على الزائرين النافرين إليها خفافاً ، حكايا مجدٍ .
أشركوا في خلق الصرح ، رسامين ونحاتين وحجارين ومؤرخين ومؤرشفين وشعراء ، وساردين ، جيء بهم ، من فوق زاخو ، حتى أخير الفاو .
رشّوا خوذَ وبنادق وسيارات الغزاة الهاربين ، على زوايا النصب ، والثنيات والمقتربات .
سوّروا المقام ، بأشرف الشجر ، تتفيّأ في ظلّه الناس المارة ، وتجعله متكأ وستراً ، تهزّ الجذوع ، فيسّاقط في حلوقها ، رطباً مباركاً طيّباً .
طوّقوا الضريح ، بقلادة من ” حبّانات ” الماء البارد الزمزم الزلال ، فمن شرب منه شربةً ، صحّ بدنه ، وتعسّل لسانه ، إلى يوم الدين .
انحتوا للحاضرة المزار ، وزخرفوا ولوّنوا ، ستَّ بوّابات عظيمات ، كل واحدة منهنّ ، تشيل فوق تاجها وعرشها ، اسم مدينة وما حولها ، تأتي منها حشود الزائرين ، وتتطيّب في أعطارها .
زيّنوا الجدر والمفارق والسقوف ، بشريف الشعر ، وطيّب الكلم ، ومذهل الرسم .
اطلبوا من الناس أجمعين ، أن يضع كلَّ واحدٍ منهم ، ما تيسّر تحت يمينه الحلال ، من دنانير وذهب وفضة وحنطة ، وعشبة خلود ، تبني المقام ، وتعلّيه ، حتى يتوزع شرف الواقعة وبركاتها وكراماتها ، على كل أهل البلاد ، بلاد الرافدين الماجدة ، أُمّ الأنبياء ، وحرثة خطوهم ، ونفحة السماء العاطرة .
علّوها ، فهي القياس .
* أديب من العراق يعيش في عمان