أحمد المديني *
1- بات محسوما في تاريخ الأدب العربي الحديث الموقع الذي تشغله الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية في مُجمل المتن الروائي العربي، سواء من حيث العوالمُ والدلالاتُ التي يعمل في حقلها الجنس السرديُّ التخييليّ، أو ألوانُ التعبير والصنعة التي ينضوي فيها، وبأدواتها يشكل انتماءهَ إلى هذا الفن، ويحُوز اعتبارَه الأدبي، خاصة. أمكَنه تحقيقُ هذا رغم عوائق التاريخ السياسية والثقافية المعلومة، وكذلك مع فُتُوّة التجربة الأدبية في هيئتها وبمراميها التحديثية، التي عبَرت في بيئات أخرى، عربية وأجنبية، مراحل معتبرة من تكوين ونضوج وتبلور منتظمة، واحتاجت إلى زمن غير يسير لتستقر في صورة تقاليد وأنماط قول ومستويات ومحتويات خطاب منتج اجتماعيا وثقافيا، وأدبيا، بالطبع.
2ـ والحقيقة آن الأوان، للقطع مع التصنيفات والأحكام النمطية والمستنسخة، كثيرا ما نظرت إلى محيط الثقافة العربية وآدابها في الجزائر بإشفاق وابتآس؛ النظرة إلى قاصرين ابتُلوا بالاستعمار، اغتصبَ هويتهم وأباد لغتهم العربية، لغتنا، ونحتاج أن نُعاملهم بحدب وقد استعادوا قُدراتهم، وأصبح التعبيرُ الأدبيّ، من بين تعبيراتٍ أخرى، ملءَ القلم واللسان، في مواجهة وأسوة ًبالتعبير الفرنسي الذي ساد بلُغة المستعمر، ومهاراتِ تكوينه وهيمنته أزيدَ من قرن، ويظل، مما يجعل لكل قول عربي حظوة وذا اعتبار في حد ذاته. تقويمٌ بمرتبة التبخيس هو زيادة على خَطَله، وتناقضه مع واقع صمود الثقافة العربية وآدابها في الجزائر والمهاجر العربية، وبتاريخها وتقاليدها المشتركة والمتداخلة مع محيطها المغاربي العربي الكبير، لا يمكن أن يقبل به أدباء هذا البلد، الذين ننسى موهبتهم الأصلية، على أي لسان جاءت وتدفقت، هي اليوم منسجمة مع اللغة العربية، ممتدة في نسيجها الأدبي الحديث بفنونه كلها، مجددة قولا ومعنى، فهي إذن عضو تام في الجسد العربي، فوجب التنويه، درْءا للّبس، ودفعا للبؤس.
3ـ أحسَبُ الروايةَ بالذات، وقبلها القصة القصيرة إلى حدما، هي المضمار القولي الذي تجلت فيه المؤهلاتُ الإبداعية للكاتب الجزائري معبَّأة ًلتصوير واقعه الاجتماعي والسياسي، وقبل ذلك إعادة رسم الصورة التاريخية للوطن ، في نوع من إعادة تأسيس الهوية وتجذير واستنبات الذات، بين فترتي الاستعمار ومسلسل الاستقلال. رواية تحركت وما تزال في أفق واقعية اجتماعية تاريخية ، مرآوية ونقدية، وعَمَد كُتابُها، في جانب مهم منها ، إلى استثمار المادة التاريخية وحلقاتها كمضمون تارةً، وكوعاءٍ تارةً أخرى، وطوراً كسياق رمزي وخلفية لنقد الواقع وتجديده. وبين هذه المقاربات، وضمنَها، كانت أساليبٌ وبنياتٌ فنية وسجلاتٌ لغوية، وأمزجةٌ وذهنياتٌ تتفاعلُ وتتضافرُ بحثا عن المثال أو النموذج، متقلبة بين التقليد لتراث روائي عربي، حديث، لاستدراك الزمن الضائع، ومساوقة لواقعها يُملي عليها تعبيرا بعينه وهي بذا تتطلع إلى كتابة الرواية ذات الخصوصية الجزائرية، وثالثا، وهو الأفق المفتوح الذي تمضي فيه التجارب بدرجات متفاوتة، ووفق مواهب متباينة وعديدة المطامح، تنزع إلى بلوغ تفرّد في الكتابة الروائية لا يبرح الواقع، ويحلق بخيال كاتبه بعيدا عن حدود وقيود حرب التحرير.
4ـ إن لتوصيفنا هذا، وحتى لا نوصم بأيّ ابتسار، تمظهرات شتى، ليس هنا مقام رسمها بتفصيل، إنما لا بأس من التذكير أن الطاهر وطار أنشأ وحده متنا متسقا ومطورا على امتداد عقود ثلاثة على الأقل( بدءا من رواية اللاز1974 وانتهاء برواية قصيدة في التذلل 2010) بعد أن استشفّ وطوّر ريادة عبد الحميد بن هدوقة( ريح الجنوب 1971)، واستطاع بصفة خاصة أن يستوعب الواقع الاجتماعي التاريخي المتواشج مع الثورة الجزائرية عبر شخصيات رمزية ونموذجية، وفي صيرورة التحول العام لهذا الواقع، بحس روائي لا يتنازل للعابر وإن تماسّ معه، ويترك دائما أفقا للذات تتنفس منه، وهي تكتوي بلواعجها، فجاءت أعماله ممثلة لزمنها، وسجلا سرديا منظم المعمار، محكوك الأدوات، مصقول اللغة، نافذ الرؤية ومُعتملا بإنسانيته، وجله مقابل لفيف من كتاب اصطفقت في أعمالهم أمواج حرب التحرير العاتية، العامرة بتاريخ المجاهدين، في مرحلة أولى، ثم ما ارتكن إلى التاريخ سردا وتمثيلا وتأويلا وتقويلا، فتراوح بينهما وهذا ضرب من الرواية، ومنها ما راح ينحى باللائمة ويسجل الخيبة من حصاد الثورة وتحولها إلى غنيمة، أضاعت حق الفرد والشعب معا، وبلعتها أوليغارشية وطغمة ومن والاهما، فمن جعل الرواية تغرف من الحرب الدموية(الأهلية)حيث هيمن الشبح الأصولي، في مواجهة العسكرتارية، وفي القلب حقوق الحرية والتفتح وقيم التجديد والحداثة والتمدن، وتعتبر هذه التيمة مع التسلط العسكري هي الجامع المشترك لأغلب نصوص الرواية الجزائرية في العقد الأخير، وفي الحاضر، أيضا، مكتوبة بالفرنسية والعربية، سواء بسواء.
5ـ هذه ، إن شئنا، هي البانوراما، ومن الطبيعي أن تنتأ أو تنزاح خطوط وبؤر، ساعية لتوليد أو تخصيب مشروع تجربة فردية في كتابة الرواية، علما بأن مجموع الأعمال، السائد منها والوافد المتكون، هي جزء من مشروع أدبي قيد التكوين دائما في أدب فَتيٍّ، ضمن الأدب الوطني، ومقلد ومجدد ما أمكن في آن ضمن الأدب العربي ككل، ونحن هنا نحتكم إلى النصوص، لا تعنينا الاعتبارات الذاتية وتورّماتها، ولا حتى بعض أسهم بورصة لا يحفل بها الأدب في ‘بورصته’ الاستثنائية. إن من المهم الانتباه إلى التكوينات الخصوصية، وتحديدا فرز الخاص من العام، والذي يقتدر على تطوير الجنس الأدبي، وإبراز موهبة كاتب ما في حقله، ترفد في الوقت نفسه التجربة الكلية وتمدد سياقها. هذا بعض ما يستوقف في النصوص الروائية للأديب أمين الزاوي، تتوفر كتابته عدّا وصوغا على ما يؤهلها للانفراد بعوالم ومواضيع وتمثيلات وطرائق تصوير وتكوين روائية، تجعلها في قلب التجربة الجماعية للسرد العربي الجديد في الأدب العربي بالجزائر، من جهة، ولامتلاكها ما هو حصر عليها وسمة تُعلم بها وتتميز، نعني أساسا : حكائيتها، أي اقترانها بالحكاية كجنس مخصوص، ثم شعريتها.
6ـ لأمين الزاوي قصص وروايات صدرت من مطلع الثمانينات وصُعُدا، من الأخيرة:’ صهيل الجسد’ 1985؛ ‘سماء ثامنة’ 1994؛’الرعشة’ 2005) وأخيرا ‘لها سر النحلة’ ( الجزائر، منشورات ضفاف/ الاختلاف،2102) التي سنخصها بالقراءة والتحليل، جزء من منظومة عمل الكاتب، وآخر رسم في الخط البياني لكتابته السردية. وقد كنا وقفنا في كتابنا: ‘تحولات النوع في الرواية العربية، بين مغرب ومشرق'(الرباط، دار الأمان، 2011) على ترسيمتها إلى جانب نصوص أخرى لكتاب صاعدين، وركزنا على’ سماء ثامنة’، تبين لنا فيها ما يمكن التماس وجوهه وعناصره في العمل الجديد على نحو من زيادة في التبلور وتوكيد نهج الرؤية وخصائص التمثيل السردية والتخييلية، وتحديدا في ما يتصل بالمقترب الحكائي والمنظور الغرائبي، هما وجهان لعملة واحدة اسمها تغريب الواقع وتصعيد الواقعية أبعد من الاحتمال، وجعل التغريب بديلا لها ومن باب المفارقة، أقوى واقعية منها لو جاز ذلك. وبالطبع، فإنه نَسَقٌ متخلل في المواد والعناصر المؤلفة لمتن الحكي مجتمعا، تتضامن وتنفصل، وتتوازى كما تتصل، ويمكن أن تستقل وتنعزل، وهكذا، لكن تبقى سردية تنزع دائما إلى الإنشداد إلى جاذبية الواقع بالدرجة الأولى كلما تباعدت عنه، والعكس صحيح، أيضا، ومراوحتُها هذه هي خاصيتُها الأمّ، تُعد الطابعَ الغالبَ على كل أدب وطني نَزّاع إلى التجديد، ولكن حريصٍ على الإبلاغ والانتماء، بأيسر السبل وأقصرها، أي بالواقعية التقليدية، فأي توفيقية ومفارقة هذه؟!
7ـ في ‘لها سرُّ النحلة’ يسرد الزاوي قصة من المحيط الخبير به، في غرب الجزائر، عارف بتاريخه وتقاليده وبمخياله، خاصة. وهذا يمنح لرواياته طابعا محليا مفيدا، مثلما نلحظ عند سلفه الرائد الطاهر وطار في تصويره الناضج والحفيّ لبيئة مدينة قسنطينة، فالرواية تحتاج إلى مهاد صلب تنهض على أرضيته عالمها المؤسس من خارج مرئي وداخل منبثق بين هذا واحتمال الوجود المتخيل. حي اللاكدوك بمدينة وهران هو المكان والفضاء اللذان توجد فيهما القصة وتتشيّد ويتحرك أبطالها وتُنسج العلائقُ المختلفة وتُفصح وتُبطن الخطاباتُ المعبرة عن رؤية هذه الرواية. وهو حيٌّ هامشيٌّ، سيِّءُ السمعة باعتباره كان يؤوي ماخورا ويضم خمارات، نقيض الطهرانية والحشمة الدينيين، والمروَّجة إيديولوجيا على يد الأصوليين. أبطاله: محند(محمد) الملقب مومو، هو في الأصل طالب في قسم التاريخ، وعازف عود، يلتقي بطالبة مثله هي فاطي أو مريولا، قد أغراها’ أملا في جمع بعض المال لمغادرة جهنم هذه البلاد[حلم جميع الشباب العربي] إلى جهنم جديدة في بلاد قد تكون أرحم بنا'(13). هما معا ينتقلان من الدراسة الجامعية إلى العمل في مطعم وحان بسيط بحي اللاكدوك المطل على البحر، يحمل إسم أرتور رامبو، بسبب إعجاب مالكه الأول بهذا الشاعر، حسب رواية خوسي المالك الحالي، اليهودي الأصل والمخنث، ويتميز المكان بزبائنه الذين هم ‘من فئة الحالمين بتغيير العالم: شعراء دون كتب، أنبياء سلام بدون وحي..عشاق بخيبات وأحلام.. نقابيون..عمال.. وبعض المثقفين الذين ضاقت بهم المدينة..'(19) وبدل أن يرحل العشيقان عن وهران قررا: ‘لا نغادر المكان يا مريولا، دون وهران سنصبح يتامى..'(20). ليعيشا قصتهما الواقعية والعجيبة معا، يؤثثها فضاء وخلفيات سوسيو ثقافية .
8ـ سيعيش العشيقان زمنا ويعملان في المطعم الحانة، هو يغني وهي نادل ومغنية وراقصة، وفجأة يقطع مومو الصلة بفضاء المخمورين والهامشيين، من وحي تعلق غامض ومسعى صوفي، بأحد أجداده الموريسكيين الفقيه أبو جمعة المغراوي الوهراني، فينقل عذوبة صوته ورقّة تكوينه حد التَّخنُّث إلى الالتحاق بمسجد قريب من الحان، سيصبح فيه مؤذنا وورعا، نقلة بلا مقدمات،(!) تبعده عن مريولا، ستحس بوحشة عظيمة إثر غيابه رغم أن علاقتهما عذرية تماما، وتدريجيا تبحث عن تعويض، تحويل عاطفي، في شخص رجل أنيق وغامض، ذي أبهة، من زبناء المحل، تصبح أخيرا خليلة له، وفي منزله الغامض، المشحون بالذكريات والحكايات، الحقيقية والكاذبة، الواقعية والأسطورية، ستعيش وتتعرف على دنيا أخرى بعضها موصولة بصاحبه، وأخرى بشخصيات من نسله وجوه يختلط فيها الواقعي بالعجائبي، والإنسي بالحيواني، وتتعدد فيها السجلات اللغوية والصوتية والخطابات الشعبية الشعبوية بالثقافة العالمة، ضمن مناخ عام تسبح فيه الظلال العجائبية، وتخترقه الدعاوى الإسلاموية الرائجة.
9ـ إلى حد الآن، تبدو الشخصيات نمطية، وأيقونية في رمزيتها الجلية، دالة على مدلولات ثاوية، مقتنصةَ المعنى بيُسر، ومبذولةً في الواقع، كما في نصوص جيل من كتاب العقدين، العقد الأخير خاصة في الجزائر، في بلاد شهدت حربها الثانية الدموية ذهب ضحيتها عشرات الآلاف، هذه المرة، في مواجهة بين ‘الإسلامويين’ والسلطة العسكرية الحاكمة، ونتيجة إجهاض مسلسل انتخابي معلوم (1982)، وعَدَا مسلسل العنف فقد أنجبت المواجهة تصادم تيارين أو أكثر، أبرزه الأصولي الذي يطرح ثقافة دينية وسلوكية وحُكمية بديلا عن الأوضاع القائمة، تعددت تسمياتُها وصفاتُها، واعتبرها جزء من الوعي الوطني والمفهوم الثقافي ‘ظلامية’ و’سلفية رجعية’، واتخذت ، أيضا، شكل تصفيات طالت مثقفين وأدباء، ومسًّاً خطيرا بالحريات الفردية، دون أن يعني هذا أن السلطة المواجهة كانت تحميها أو تضمنها. في هذا الخضم اندرجت روايات كتاب من جيل الوسط والصاعدين، ونحن لا نحصي، جيلالي خلاص، أمين الزاوي، بشير مفتي، حميد عبد القادر، حميدة عياشي، وانشغل الزاوي كثيرا بتسفيه الخطاب ‘الأصولي’، ودحض تشكُلاته في ضرب من المناهضة السجالية داخل الرواية يأنف منه هذا الفن، أو عبر تقديم تمثيلات ونماذج/ شخصيات وذهنيات وسلوكات مضادة تعلن مناهضة الخطاب المذكور وتواجه هيمنته المتصاعدة في الحياة اليومية والثقافية، بل والسياسية، متوسلا شعرية الكتابة واستيهاماتها. ونعتبر ‘لها سر النحلة’ أقوى نصوص الزاوي تفعيلا أدبيا في هذا المنحى، ولو صحّ القول سردا حجاجيا، أيضا، ينبني على متواليات المعارضة والتضاد والبوح والكبح، والتصريح والتضمين، زيادة على القيم الإتيقية والفكرية والمبادئ الإيديولوجية المتصارعة، وفوق هذا وذاك بناء على رؤيتين متباينتين للعالم.
10ـ رؤية العالم الضمنية التي يمتح منها الروائي عادة مادته السردية وموضوعها، وعنها يصدر، ولا مناص من تحكيمها في القراءة المنتجة لعمله، ليست بالضرورة كتلة منسجمة، لا سيما في ثقافة ومسلكية مُتحوليْن، ومن هنا أهمية وقيمة وضع الرواية حول ماض انصرف، أي استقرت رؤية العالم فيه، وتوكيدنا غير مرة بأن الرواية لا تكتب عن الحاضر أو هي ضرب من التعليق أو التحقيق، شأن أدواتها التي تحتاج أن تكون مجربة وحين يعاد تجريبها فهي بصدد الشحذـ الحاصل أن رؤية العالم في ‘..لها سر النحلة’ وهي تبغي الانتصار لإيديولوجية التقدم نراها تستخدم كل ما يحقق الغرض العاجل، وبصرف النظر عن مقدرته على تحقيق الانسجام لهذه الرؤية، وبحكم استنفار بضاعة سجالية (خبرة) متنافرة في أوراقها، جمعت، على غرار متون قديمة، من كل فن طرفا، متعجلة في مراميها، تحريضية في دعواها، رغم أنها مطروحة قولا أدبيا ، تحب أخيرا أن تستدرك، أن تعطي للرؤية إياها رُجحانا ينجيها من الخفة والإسفاف، ويمكنها من أن تنتج نسقا ولا تكون أمشاجا، وتتوفر على روح خلابة، مدهشة، فجنح بها صاحبها، إلى اعتماد النظام الشعري، الذي هو مصدر الحكاية ورحمها الأجناسي الأول، في نظرة الدارسين، جاعلا منها تشغل عربات متعددة في قطار الرواية، والنظام الثاني ينجم عن محتوى الحكاية كما عن روحها وسحرها فيأتي سندا لها، ومنطـــقا ثانيا ممـــثــلا في بنية الغريب والـــعــجيب، وجَماع الإثنين هو الذي يفترض أن ينتج النسق الحكائي ـ الروائي لهذا العمل بالذات.
11ـ لنشرح: يستهل الكتاب بمقطه عنوانه: ‘أداء اليمين’ يقسم فيه من يؤدي اليمين بأنه سيقول الحقيقة: ‘كل الحقيقة حتى ولو كانت في عجبها وغرابتها تشبه الخيال أو الجنون'(9)؛ يقسم أنه سيقول: ‘الحكاية دون تزوير أو كذب أو تحريف'(م.س)؛ يقسم أن:’ لا أكذب عليكم’؛ وينتهي إلى أن:’ اللسان ما فيه عظم [قابل للفلتان] وأن أعذب الشعر أكذبه'(ن). يتماهي التوقيع على اليمين بين ضمير المتكلم(أنا) وبين المؤلف، ولم لا السارد، ليزيد مرتبة في درجة التذبذب بين الحقيقة والخيال، الواقع والتخييل، لكأنما الرواية بمفهومها الثابت، وقواعدها الراسية هي الواقع أو شبهه، وهي الشكل العالِم، الجوهري، لاحتوائه ، مقابل الحكاية كانزياح عنها هي وقواعدها، شكل بسيط. وبالفعل، فنحن إذا احتكمنا إلى أطروحة الألمانيAndr’ Jolles في أهم مبحث عن الحكاية بعد عمل بروب، (1972,Formes simples.Seuil نجده يقيم نظاما خاصا لكل من القصة القصيرة والحكاية، (في ضوء معالجة جاكوب غريم صاحب الحكايات الألمانية الشهيرة للأطفال والشعوب ؛ يتخذ بالنسبة للأولى صورة ‘الإعداد’ وذلك حين نذهب إلى العالم بشكل فني لنعطيه هيئة، ونصنع الانسجام في جزء منه، تكون وحدة عناصره معيّنة بخاصية مشتركة، وهي هيئة صلبة، خصوصية، ومتفردة، مقابل الثانية (الحكاية) التي ندخل العالم إليها في شكل حصرٍ عليه، وحين يتحول هذا العالم وفق هذا الشكل وبعد أن امتصه، فيسمى عندئذ ‘إبداعا تلقائياّ’، فإنه يحافظ رغم التحول على حركيته، وطابعه المتجدد، وتعدديته. وعند Jolles، وهو ما يعنينا أساسا كامتداد للنظرية فإن هذا الحكم، النظام، قابل أن يُطبق على أشكال أخرى، بسيطة وعالمة، وبذا فهي تنطبق على الرواية وأيّ منوال حكائي آخر(185). يمكن استجلاء هذه الخطاطة بوضوح في رواية الزاوي، الذي كنّى عمله ‘حكاية’ وأصبغ عليه صفات الغرابة والكذب والخيال والجنون، انزياحا عن الصدق والواقعية، يؤكد في الآن التزامه تنكب صفات الكذب والزور والتحريف، ثم ‘يحنث’ في الأخير في قسمه، من باب اللعب بالكلمات والنوايا (الفنية) وآكدها وضعه تجنيس (رواية) على الغلاف، أليس كذلك؟’!.
12ـ تتوافق هذه البرمجة مع إعادة ترتيب للرواية بحيث يكون خطها السردي كالتالي: مومو رفيق لمريولا، يعيشان في حي مُهمّش بوهران، بعد أن انقطعا عن الجامعة، الطريق السّوي، ثم ينفصلان حين يتوب مومو ويتحول إلى مؤذن، وتصمد هي قليلا بحانة رامبو، قبل أن تنقطع زمنا إلى حياة وفراش الرجل الذي استهواها بغموضه، ثم تنفصل عنه لتذهب حيث لا ندري. تتحرك هاتان الشخصيتان في محيط اجتماعي متعارض القيم والرغبات، الخلاصُ فيه هو الإحباط موزعا بين الهجرة إلى الغرب، أو الهجرة إلى الله مع اجتياح المد الإسلاموي، في إطار مكان، مدينة وثقافة في الحاضر زمن الأفول مقابل ما كانت عليه في ماض معين، يفترض أنه يمثل الصعود، تماما كما أن حانة رامبو لمالكها الحالي هي وشمٌ في جسد الزمن الموريسكي وحنين إليه. إن هذا التشخيص السريع يظهر النص بصيغة رواية أطروحة، أو رواية أخلاقية، ويزكي هذا التصنيف إلى حد بعيد الحماس المعلن للمؤلف، والجهر بالمواقف والأحكام، واستخدام العبارات المسكوكة، الخ.. ظاهرة مستفحلة في الرواية العربية بالجزائر لا يكاد ينجو من نفضها نص بإطلاق، وتعبر، هي والغنائية الإنشائية المفرطة، علاوة على فهم مختزل لتوظيف الأدب في معركة تجديد الهوية وبناء الدولة الوطنية، عن تشوّش في طبيعة استخدام الأجناس الأدبية وماهيتها، التي تجعل من القول ضروريا، خصوصيا، متفردا، ودقيقا، كشكل عالِم، مصنوع، في الأصل، وله أن يتفرع ويتفتح بعد ذلك على الشكل البسيط، التلقائي. هذا ما عمد إليه الزاوي، بأن جعل الروائية تنضوي في إهاب الحكاية، تتعالق بها عناصرها. فتجد قصة مومو ومريولا وعالمهما مرجعها الأول في الفقيه ابو جمعة المغراوي الوهراني، الذي به تتميز وهران، والذي كان يؤمن بالباطن وينكر الظاهر، والذي أنقذ الموريسكيين، ومرجعها الثاني في يوغرطة البربري، ثم في رامبو، وهي مرجعيات صوفية ومؤسطرة وشعرية ونوستالجية، دمُها من فصيلة الحكاية (Le conte) التي ستصبح الشكل والمادة المستخدمتين بامتياز، حين تلفظ المادة الواقعية في الرواية أنفاسها، بالأحرى تستنفذ طاقتها. هل نقول لا بديل عنهما لكي ينقذ الكاتب روايته من ورطة الانعكاس والمباشرة، وحتى الخطابية، ويوفر لها البطانة الرمزية، والغموض اللازم القرين ببعض شخصياته، مثل الشيخ المغراوي، والزبون الوقور، وزوجته الراحل، وابنته وأخيها الشقيق، شبه الزوج، في صورة محبة سفاحية سبق للزاوي أن رصدها في ‘قراءة ثامنة’ باحتفالية جريئة. كيفما كان الحال، فإنه بمجرد ما ينقل ماريولا من حي اللاكدوك إلى بيت الزبون، إلا ويجعلها تلج عالما متحولا تسكنه الأسرار والرموز الخفية، وبالذات حكاية شميسة وما جرى لها بعد أن خطبت واضطرت لهجر أخيها، بانتقالها إلى فضاء الوحشة والصحو الدائم، ثم ما جرى لها مع القط الذي يصبح رفيقها وكليمَها قد تعلمت لغة القطط(!) ترويها مريولا، تارة، وتارة أخرى تندمج فيها، ومعها ننتقل إلى عوالم منبتة الصلة بالمحكي الروائي الأول، مليئة بالهلوسات، والمتناصات، وإلى حكاية ثالثة ترويها مريولا عن خالتها يامنة، تعرفنا عليها في الفصل الأول كطرف عائلي، لتعود شخصية أندروجينية (خنثى) بيولوجيا، ووضعا اجتماعيا وثقافيا: امرأة فقيه ومقرئ ومنافس للرجال، لا بأس فكل شيء غريب، في بلد يزعم فيه سائق تاكسي أنه سمع في الإذاعة الرسمية خبرا مفاده أن السماء تمطر ضفادع، ليعلق الكاتب(السارد) على المزعم: ‘أيصدق العقل هذا الكلام؟ لقد أكلتنا الخرافة والدجل، الحكومة تكذب والناس غارقون في الخوف'(185) والكتاب ماذا يفعلون؟ هل يكتبون روايات يقلدون فيها الحكومة، أم يفضحونها، أم هم في المنزلة بين المنزلتين؟
13ـ دائما في المبحث المشار إليه، ينبهنا الدارس الألماني إلى مسألة في النباهة غاية، كجزء من السجال الذي دار بين غريم وأرنيم حول الحكاية واعتبار هذا الأخير بأن غريمه النقدي يقوم بالتحريف لدى روايته لحكايات الشعوب؛ مسألة عملية التحيين التي يمكن للحكاية أن تخضع لها، فيذهب إلى أنه كلما تحيّن شكل بسيط إلا قصد اتجاها قد يقوده إلى الثبات النهائي الذي نلفاه أخيرا في الشكل العالِم، (جولس187)، فيفقد بذا خصائص الوحدة، والدقة، والفرادة، المنوه بها أعلاه، نظرا إلى أن’ كل تحيين يحرف عن الهدف الذي يريد الشكل البسيط أن يرسمه'(م.س). ليس التحيين مضمون العواقب دائما، ولنا أن نتساءل، من جانبنا، عن مدى قابليته لأن يمثل وحده نسقا في هذه الرواية، والحال، أنها تتكون من عناصر متنافرة يتعذر تعالقها في بنية واحدة، أم أن علينا أن ننظر إلى قابلية الازدواج بين شكلين كإمكانية تجريببية من قبل الكاتب لإنجاز نسق مفتقد، في الواقع أولا، قبل النص، وتصبح هجنة الشكل عندئذ جزءا من معناه…
14ـ الحقيقة أن الأندروجينية هي الطابع المهيمن على هذه الرواية، ممثلة بنيتها العميقة، وطافحة قبل ذلك في بنيتها السطحية، بالاصطلاح الغولدماني، لكي تكتمل الآلية المنهجية التي اعتمدنا رؤية العالم في مركزها. فكل شخصيات العمل ليست هي، ليست في مكانها، هي نصف نصف: مومو: شاب، رجل، وأصابعه ناعمة، وصوته رقيق، ولا يجرؤ على أي اتصال جنسي بمريولا؛ وهذه أنثى، ومغنية وتتنقل بين الزبائن، ولا أحد يطمع فيها، وهي تعيش تحت سقف شهيرا مالكة المطعم، والمودة وحدها تجمعها مع خوسي المشرف عليه، لأنه ببساطة مخنث ومثلي؛ وشميسة نصف إنسان ونصف حيوان، تتكلم لغة الآدميين والقطط، والقط كذلك، والمجتمع حانة وحي اللاكدوك وسكارى وغناء(ماخور سابق) وهو أيضا مسجد وبشرٌ بلباس الأفغان وأذان، ووهران لا جحيم ولا جنة، أو هما معا، ولا بقيت في ماضيها، وهل يعقل أن يكون ذا حاضرُها، وذروة هذه الطبيعة تصنعها شخصية يامنة المرأة ذات اللحية ومنافسة الرجال في التلاوة والفقه، وقبل ذلك بتبني فحولة عضو مصطنع. لا أحد، ولا شيء في مكانه، بما في ذلك اللغة التي يتبدل دورها من الإباحي إلى القدسي، إلى نزع القداسة ودواليك. من الطبيعي أن يأتي الشكل، بمعنى الجنس الأدبي العام مدموغا بهذا الطابع، أي بين نوعي الرواية والحكاية، مرة متساوقين، ومتعانقين، ومرة ثانية منفصلين، متباعدين، بل إن المؤلف، يبدو كأنه ينسي روايته، في لعبة التقطيع والمناصّات المشوشة، والاستيهامات، وحتى الرطانات اللَّغْوية(Phatique) قد استهوته حكاية يامنة فانصرف إليها كلا ليضيع خيط السرد، أم تراه ظل يبحث عنه من البداية، وما هذه الكتابة جزءا وكلا إلا بحث مسترسل، ذو طابع تجريبي، ولذلك ما تنفك تتمظهر بين الأنواع، وتتمرأى في تعدد الأشكال، يستهوي مؤلفَها شكلٌ ما قبل روائي، فيما هو يصر على اصطناع الرواية، لنقُل باستلهام تراثي، دون أن يستقر على أي منهما، ولن يستقر، إذ هناك فرق بين الهُجنة وبين التهجين الذي هو قصدي لا عاهة، وهو آلية يستخدمها الكاتب في سرده التخييلي ضمن نسق كلي، مثلما يعرف كيف يمتح من التراث فيشتغل السرد عندئذ وينضوي العمل في نظام متصل بالتقاليد وبصناعة الكاتب الشخصية، زواج الصنعة والموهبة، وذا بعض سر نجاح ‘ الزيني بركات’ لجمال الغيطاني ورسوخها.
15ـ هذه قراءة جزء من كل، والكل هو النص المفتوح، المسترسل، لأمين الزاوي، منشغل به شخصيا، إبداعيا وأكاديميا، وهذا هم مشترك بيننا، وهو في الحقيقة شاغل جماعة حية من الكتاب العرب، بقدر ما تتلمذت على الموروث الروائي الكلاسيكي للرواية، بقدر ما تبغي بَصم هذا الجنس الأدبي، الكوني، بميسمها، ينسجم مع ثقافتها وذائقتها، ومعيشها، وتطلعاتها الإنسانية والحلمية، بل وأبعد نزعة وطموحا. وبين الرغبة والطموح يمتد طريق التمرين والتجريب اليقظ وحتى التجريب النزق، في سياق آداب وطنية حديثة، لطالما قلنا ونكرر بأنها في علاقتها بالأجناس الأدبية الحديثة، رغم كثير من المزاعم المشروعة، والمدعاة، ورغم فقاعات السوق والترهات، هي قيد التكوين ومزيد التأسيس والتبلور، بقوة ومثابرة لا تفتر/ متشبعة بالحساسيات الجديدة دون حدود أو قيود، في الحياة والكتابة على السواء، وكما لا يستسلم صُنّاعُها للسائد كذلك لا تستسلم كتابتهم، قد وضعت نصب عينيها إبداعا خلاقا ما ينفك يبحث عن بديل، بديل تجديدي أبدا، هو المعوّل عليه؛ أحسب أمين الزاوي قد نذر نفسه لهذا الدور، وبهذا الفهم، في مجال يجعله ندّا بين أقران قلائل موهوبين حقا(والموهوبون قليل)، ومتفردا فيهم، ولذلك وكما كتب الناشر على ظهر غلاف’..لها سر النحلة’: ‘ممنوع عدم قراءة هذه الرواية’!’.
* كاتب من المغرب