الكتابة المستعملة


خيري منصور *

كما ان هناك ثيابا مستعملة وادوات تم الاستغناء عنها بسبب انتهاء صلاحيتها، هناك ايضا كتابات من هذا الطراز، بحيث ما ان تفرغ من قراءة بضعة سطور حتى تشعر بأنها استخدمت من قبل، وليس بالضرورة بقلم صاحبها، فالملكية الفكرية وكل الثرثرة حولها لم تحل حتى الان دون السطو، لكن حصافة القراء الذين شبّوا منذ زمن عن ذلك الطوق الذي تخيله انصاف الاميين، قادرة على فرز القمح عن الزؤان، واحيانا نقرأ نماذج مما نسميه الكتابة المستعملة تبدو بمظهر كاريكاتوري، تماما كما لو ان رجلا قزما يرتدي عباءة او معطفا طوله متران. الكتابة المستعملة هي اعادة انتاج المكتوب لكن بعد نزع الدسم منه، لأن الحكاية اخيرا ليست الكلمات تلك التي سخر منها هاملت بطل شكسبير.. عندما قال كلمات .. كلمات.. كلمات.. انها السياق والنّسق اضافة الى الرؤية، وحين قال هوفمان عبارته الشهيرة وهي ان الاسلوب هو الانسان ذاته، رغم ان مترجمي ثقافة الذكورة ترجموها الاسلوب هو الرجل، تعني ما هو أبعد من معناها المباشر، فإذا كانت بصماتنا لا تتماثل فإن اساليبنا عندما تكون اصيلة هي كذلك. اما اسلوب طبيخ الشحادين فهو الذي يجانس قسريا بين الموز والبامياء والفول واللحم والسمك، لأنه من كل مطبخ وجبة وليس كما يقال من كل بستان زهرة.
لقد اعتدي في ايامنا على اشياء كثيرة في مقدمتها الانسان نفسه، وانتهكت الطفولة والبيئة وفسد حتى الملح، لهذا علينا ان لا نتعجب من نصف أميّ ان يسخر من ابن خلدون او شكسبير، بدلا من ان ينصرف لمكافحة النصف الآخر من أميّته، فما يبدده متسولو الأساليب في التلفيق يكفي لأن يجترحوا لهم آفاقا تخصّهم، والمثقف الاصيل لا يشكو من أي شخص يستخدم مفرداته او حتى افكاره اذا استطاع توظيفها في السّياق القديم، وهذا ما سمعته من الشاعر الصديق ادونيس في احدى الندوات عندما أصغى الى من يستخدمون مفرداته وبعض عباراته، لكن الكوميديا هي حين يلصق مراهق لحية بيضاء على وجهه، كي يبدو طاعنا في السن او الكتابة ـ لا فرق ـ او حين ينتظر من السلحفاة ان تطير وتحلّق عاليا، ويغيب عن هؤلاء الضحايا الذين يتولون جلد انفسهم حتى اثارة الاشفاق ان من يرتدي ثيابا تشبه ثياب نابليون لا يصبح امبراطورا، بل يتحول الى ذلك المهرج المسكين الذي طالما شاهدناه في شوارع عواصمنا ومقاهيها.
ان القليل الحقيقي أفضل الف مرة من الكثير المستعار، ولحم الطاووس أقل باضعاف من حجمه عندما يكون منفوشا. هذا وقت عصيب في كل شيء، فلا بأس ان يتحول انتهازي محترف الى ثائر اذا عمّ الظلام، واختلط الحابل بالنابل، لكن عمر هذه الفوضى قصير، وللحفلة التنكرية مهما طالت نهاية، وخداع الآخرين ممكن ولو لبعض الوقت اما خداع الذات فهو انتحار نفسي ومعنوي، وان كان للمعرفة ما تهدف اليه اخيرا فهو ليس تراكم المعلومات لأنها متوفرة اكثر من مساحيق الغسيل في الانترنت، انه الانسجام والتناغم مع الذات… هذا اذا كان بالفعل هناك ذات.
ومن المفارقات ان الاشباه والاشياء المغشوشة، سواء كانت عسلا او طلاء بلون الذهب او عصيرا، تبدو مبالغة في التقليد وهذا سر افتضاحها.
وبالتأكيد فإن المثقف الجدير بهذه الصفة لا يحرث ويدرس من اجل بطرس كما يقال، فهو الحمامة التي يتورط من يقلدها بفقدان المشيَتيْن.
* * * * * * *
هناك مثال طالما استشهد به موسيقيون، هو ان أحدهم قدم معزوفة من ابداعه وظن بعض من يستمعون اليها انها تشبه معزوفة شهيرة لموسيقي آخر، عندئذ اجاب بحصافة وثقة .. ان ثمة تشابها الى حدّ ما في العزف بحيث يمكن حتى لغير العارفين بالموسيقى ان يلاحظوه، لكن الفارق الجوهري هو ما يفوتهم ، والتشابه الشكلي في الكتابة يكون مجاله اكبر، لأن قماشة الكاتب هي اللغة، وهذا ما قاله ادمان تعليقا على الاستخفاف باللغة، فهي تصلح لقضاء حاجات يومية في التعامل الاجتماعي، لكنها تصلح ايضا للتعبير عن تجليات محررة من جاذبية اليومي والاستهلاكي والذرائعي، فالرقص مشي ايضا واستخدام للجسد والقدمين لكنه مشي حول الذات كالنافورة، وبلا هدف محدد، وهذا امتياز مجانيته وبراءته عن المشي نحو هدف ما.
لكن ليس معنى ذلك ان الكتابة لكي تجترح أفقا او طريقا في الغابة العذراء عليها ان تعلن طلاقا بائنا مع موروثها، لأنها لو حاولت ذلك، فلن تكون الا قصة هذا الفشل، وهذا ايضا ما قاله سارتر في دراسته عن بودلير عندما وصفه بأنه بخلاف الآخرين الذين ينظرون الى شجرة او جبل، فهو حاول ان يرى نفسه وهو يرى لهذا ايضا كانت محاولته قصة فشل. بالطبع ليس هناك آدمي هو اول من كتب او اول من غنّى، فقدرنا هو هذه الحمولة الثقيلة من الخبرة التي باعدت بيننا وبين البراءة والبكارة، وهذا ما دفع ماركس رغم ماديته وصرامته في استقراء الصراع في التاريخ الى استثناء الحقبة الاغريقية، لأنها كما قال تمثل طفولة البشرية وبكارتها.
* * * * * * *
المصطلح الحديث لما كان يسمي نقادنا القدماء وقع الحافر على الحافر هو التنّاص، لكن ثمة فرقا ساشعا بين التنّاص الذي تنتجه ديناميات المثاقفة، وتلاقح الخبرات وبين ‘التلاصّ’ ان صح لنا اشتقاق مثل هذا المصطلح الذي يعبّر عن السطو المقصود، واحيانا نقرأ نصّا او مقاربة نقدية تذكرنا على الفور بالأصل الذي يهجع في الذاكرة، خصوصا اذا وردت في سياق لا يقوى على حملها ولا يوحي بانها جزء عضوي منه، تماما كما يحدث لنا عندما نعثر على خيط حرير في نسيج من الخيش.
وهناك مصطلحات واشتقاقات بدت حين جازف بها اصحابها غريبة ومثار استهجان لكن سرعان ما غزاها القطيع، بحيث اصبح اول من استخدموها يحترزون من اعادة استخدامها دفاعا عن دلالاتها الدقيقة التي تخصهم وتعبر عما ارادوا التعبير عنه، ولأن الرصد النقدي ينعم منذ زمن طويل بعطلة لا نهاية لها، فإن هاجس التردد في السّطو بدأ يضمر حتى تلاشى، وكذلك النصّ او المقالة يطويهما النسيان بعد النشر مباشرة، هم نتاج ثقافة الاستهلاك السريع او ما يسمى ‘ديسبوزابل’ في أيامنا وهذه الثقافة تليق بقفازات الاطباء في المستشفيات والمناديل الورقية في الحمامات، لكنها لا تليق بالمناديل الحريرية وذاكرة الاصابع الذكية، وكم كان ت. س. اليوت ذا حدس كبير عندما قارن في قصيدته الارض الخراب بين شكلين من الحب، شكل رومانسي رمز اليه بالمناديل وزجاجات العطر والورد على ضفة نهر التايمز، وشكل آخر لا يليق به حتى وصف الواقعي رمز اليه بزجاجات الكولا والبيرة الفارغة والمناديل الورقية الملطخة.
الكتابة ايضا كذلك، منها ما يبقى ويتعدد من خلال متوالية التأويلات، ومنها ما ينتهي فور الفراغ منه الى مصير المناديل الورقية.
لن أردد ما قاله دانتوس وهو: سحقا لمن سبقونا فقد قالوا اقوالنا كلها. ذلك لأن كل حب اول وكذلك كل موت هو الموت الاول، انها تكرارات من طراز آخر يثريها ولا يفقرها وهذا ما قاله البير كامو عن تكرارات تشيخوف الجميلة والدافئة.

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *