محمد العنّاز *
لم يوقف الروائي المغربي عبد العزيز الراشدي منظاره السردي عند حدود الصحراء كما في روايته’ بدو على الحافة’، بل فتحه نحو آفاق شاسعة هي أفاق المدينة بكل ما تحمله من صراعات وأزمات، حيث يعود في روايته الجديدة ‘مطبخ الحب’ الصادرة عن دار ثقافة ببيروت ودار الأمان بالرباط، إلى المدينة ليكيف أسئلته القديمة وفق مناخ مغاير ورؤية مختلفة مما يعني أن المبدع طور تجربته في السرد وفي الحياة.
رواية عبد العزيز الراشدي هي رواية المدينة المغربية، والتحولات التي لحقتها جراء انبلاج أسئلة جديدة جاءت مع ما يسمى بمغرب التحولات، وهو المغرب الذي منح الفرصة لعبد الحق بطل الرواية ليطالب بالعمل باعتباره حاصلا على شهادة عليا، وهذا المطلب نفسه دفعه لكي يختبر أسرار الحياة، وأن يستنطق الظروف الاجتماعية القاهرة التي جعلته ضيفا عليها، حيث يمكن القول إن السارد عاش متاهات متعددة في كل مدينة يلتقيها في طريقه، وفي هذه المدن بنى معان جزئية سرعان ما تعاضدت فيما بينها لتترابط مع مدلولات أخرى ليتشكل لنا معمار الرواية، فمدينة سلا شكلت للسارد مكانا للإيواء، والنقاشات الساخنة بين طلبة يفرقهم الانتماء السياسي ويجمعهم حق العمل، أما الرباط فشكلت للسارد مجالا للاحتجاج والمطالبة بالعمل، وأحيانا مكانا للهروب من هراوات المخزن، أما الدار البيضاء فهي ملاذ الهاربين، فر إليها السارد ليمتهن مهنا وضيعة توجته ليكون أحد مسحوقيها، لكن القدر الروائي سرعان ما رماه في أحضان امرأة قوية اسمها ‘الشعيبية’ التي ستعطف عليه، وتمنحه جسدها ليبحرا معا إلى أقاصي اللذة وهناك سيصبح عبد الحق ضيفا عزيزا على جسد الشعيبية وممتلكا لمفاتيح لذتها، هي الأخرى ستحاول أن تفكر في تحسين وضعية مالكها الاقتصادية حيث انتهت إلى أن رغبته لن تتحقق إلا بالهجرة نحو الخارج، وفي هذا المرقى الدلالي سوف تتوسط الشعيبية للسارد كي يسافر إلى الخارج عبر قوارب الموت إلا أن تجربة السفر ستنتهي بالطرد من المدينة الغربية نحو مدن المغرب ليستعيد السارد عذاباته وصراعاته من أجل الكرامة والعمل والحرية.
يعود السارد إلى وطنه وهو مثخن بالجراح، جرح الوطن الذي صدّره كسلعة فاسدة إلى الغرب، وجرح الحب الذي جعل قلبه ينفطر، فالوطن لم يقدم للسارد فرصة لكي يعيش الاستقرار، ويحلم بمستقبل هادئ، والتحولات التي لحقت هذا الوطن لم تستجب لطموحاته وآمانيه، لنقل إنها أتاحت له الفرصة أن يصرخ عاليا دون أن تستجيب لصرخاته. أما جرح الحب فوزع قلبه إلى جزيرتين متنافرتين، جزيرة الرغبة الجامحة التي كان يطفؤها في جسد الشعيبية وأجساد أخرى مشابهة، وجزيرة سهام المرأة التي توجها ملكة على عرش قلبه لكنها هي الأخرى ترفض هذا العرش؛ لأنها تعيش جزرا مغايرة، حيث فرضت عليها سبل الحياة أن تنهي حسابها مع السارد لأن علاقتهما لا يباركها الواقع، حيث ستسحب معطفها وتتذرع الطرقات والمدن بحثا عن الآمان والاستقرار، هكذا ستشهد الدار البيضاء على لحظة الوداع الباردة وكيف أن سهم سهام سينغرز في قلب السارد، ويفتح جرحا عميقا لن يندمل. هكذا تتجلى البيضاء باعتبارها رمزا للفراق والتطويح بالذات نحو المجهول.
يعود عبد الحق من غربته مشتت الذهن مبعثر الأفكار، يحمل دفتره الذي يدون فيه حكايته مع الزمن المغربي وتفاصيله، لينتشله صديق الدراسة المهدي الذي يعرض عليه العمل كصحفي بجريدته، وفي هذه اللحظة السردية ستنمو الحكاية لتورق من جديد أحداثا مفصلية ستشكل عمق الرواية وأساسها الفكري، حيث سيستعيد السارد توازنه النفسي والعاطفي والاجتماعي؛ فالعمل شكل للسارد نقطة تحول جعلته يحس بقيمته كفرد داخل دوامة المجتمع، ووفرت له دخلا قارا يؤمن له الاستقرار، ومكنته من أن يستعيد تجربته مع سهام ليعيشا من جديد فصولا ربيعية لن تنتهي بموسم قطف الورود ولكنها ستنتهي نهاية سحرية. ففي مدينة البحر التي لا نظفر لها باسم سيسعى السارد نحو حكايا الجسد بإشكالاته العويصة فيقيم نوعا من الحميمية معه بهدف فهمه واستيعابه ومحاولة الإجابة عن أسئلته، هكذا سيكلف بصفحة الإبداع والمشاكل العاطفية، والسارد لن يوقف منظاره في مكتبه بل سيسعى إلى موضوعه السردي في تمثلات مختلفة في الشوارع، والحانات، والدروب الشعبية، ودور الدعارة، ومطبخه، وعبر متخيله الثقافي، ليدون موادا كثيرة سيؤطرها ضمن بحث أكاديمي، والبحث عن الجسد واللذة سرعان ما سيصطدم بإكراهات الواقع وتحولاته ليكتشف الخدعة التي وقع فيها؛ وهي خدعة مغرب التحولات التي اختزلها عمله، حيث سيظل السارد منخدعا في جريدته التي يعمل بها وفي شخص صديقه الحميم صاحب الجريدة ليكتشف أن الحرية التي منحها مغرب التحولات هي حرية رمزية، حيث منع من نشر مواد ذات رائحة سياسية، كما لم توضح الصورة بشكل دقيق حول خط الجريدة ولمصلحة من تعمل وحول مواردها، هكذا يكتشف السارد حقيقته المؤلمة وكيف أنه كان يؤثث مشهدا ملغوما فرضته عليه مطبات الحياة، بل الأنكى من ذلك، أن موضوعه الذي لطالما تحاور فيه مع المهدي وصديقه عثمان الذي يشتغل معه في الجريدة نفسها سيفجأ أنه قُدِّم كموضوع أكاديمي لتتشكل الصورة الكلية، وتدشن بذلك بداية انهيار السارد، لنقل إن انهيار السارد في نهاية الرواية جاء كتتويج لجملة من المعطيات التي تآزرت فيما بينها لتشكل نهاية عبد الحق المواطن المخدوع في الوطن، فسهام هي الأخرى ستفر بالكيفية نفسها لتترك قلب السارد معلقا بين أسئلة حائرة محرقة، لكنها تعود في النهاية لتبرر هروبها بحكاية قد تبدو سحرية، لأنها اكتشفت عن طريق أحلامها ومناماتها أن طريقهما مختلف، وأنهما إذا اصرا على المضي معا فإن عبد الحق لن يعيش طويلا.
سارد الرواية يعيش حالة من الصراع الخارجي والداخلي؛ فالصراع الخارجي الذي قد يبدو واضحا يتجلى في أعلى تمثلاته في الصراع من أجل البقاء ومن أجل الحياة، الحياة التي وضعت في طريقه فخخا متنوعة، فخ الحب الذي لا يكتمل، فخ العمل المزيف، وفخ العلاقات المتصدعة، إنها رواية النقص، واكتمالها يعوضه الغياب، بينما الصراع الداخلي تمثل في التحولات النفسية التي عاشها السارد وهو في طريقه للبحث عن قيم إنسانية متعالية، قيمة الحب والصدق والحق، وهي القيم التي ظلت معلقة ومؤجلة، لنقل إن هذه القيم تجسدت وهي لابسة لأقنعة هشة صورة الواقع صورة وردية لكن هذه الصورة سرعان ما انهارت وتشقق قناعها، لتنبري صورة الواقع الصارخ الذي لا يؤمن بأي قيمة ثابتة، وإنما التحولات جعلت الواقع يغير من قيمه، ويؤسس لقيم جديدة، قيم الزيف والكذب والنفاق والكراهية، وهي كلها قيم جعلت نفسية السارد متدبدة لينتهي به المطاف طريحا في باب منزله يبتلع مرارته، ويحلم بيد حنونة تنتشله من مستنقع الظلام لترمم خسارته. ظلت اليد مؤجلة، وظلت الحقيقة غائبة، ليكتشف السارد عمق الخدعة التي حيكت حوله، وكيف أن المحيطين حوله أتقنوا أدواره وأجلوا معرفته بالحكاية.
إن مطبخ الحب الذي تتأسس عليه الرواية هو مطبخ الاحتراق، ففيه تدون حكايات السارد مع الحياة والحب والجسد، هو كنيسة السارد الذي يعترف داخلها بما مر معه من انعطافات ومطبات، هو المطبخ نفسه الذي شهد لحظات التماهي بينه وبين سهام، لكن هذا المطبخ الذي ظل بؤرة الحكي، هو الآخر مطبخ الاحتراق، لأن كل ما دونه هو في كرسيه الوثير سوف ينضج ليصل إلى مرحلة احتراق الحكاية، حكاية عبد الحق القاضي الذي يقيم تجربة جيل بأكمله، والمتهم الذي يحاكم بتهمة انتمائه للحياة وبحثه عن الحقيقة الماثلة أمام أعينه، والتي لن تحتاج إلا إلى إبرة دقيقة لتنفجر أمامه كما انفجرت دودته الزائدة، وهو المطبخ نفسه الذي أحرقه، وجعله مضطرا أن يتركه إلى الأبد بعدما انتشرت رائحة الحريق قبل أن تشب في الحي بأكمله.
إن الرواية هي دعوة صريحة لتأمل تجربة مغرب التحولات، والتفكير مليا في أثر هذه التجربة على حياة الفرد والمجتمع، قد يبدو الروائي وكأنه عالم اجتماع؛ لأنه وجّه عدسته لنقد المجتمع وعلاقاته، وقد يبدو كمحلل للاختلالات النفسية دون أن يصلح إلى الحقيقة، لكن عبد العزيز الراشدي تعالى عن هاتين الوظيفتين ليُكيِّف نقده وتحليله ضمن امتداد تخيليي يوهم بالحقيقة. ومن ثمة يكون قد نجح في توزيع روايته على الثنائية الصعبة القائمة على ربط الواقعي بالخيالي.
*ناقد مغربي
( القدس العربي )