الوطن بين القسم والقسمة


هانم الشربيني*

( ثقافات)


 



تلح على ذاكراتي اليوم معاناتي فى طابورالصباح فى مدرستي من الإبتدائية وحتى الثانوية التى كانت تقع فى محافظة الغربية إحدى محافظات الوجه البحري بمصر ، كانت بناء مدرستى المطلية بالجير الأصفر أشبه ببيت أيل للسقوط ، كان يشاع عنها أنها مسكن العفاريت والجن ليلا ، كنت أصل إليها بعد أن تتقطع أنفاسي من السير على قدمى لمسافة 2 كليو متر مربع بالتمام والكمال ، ومن حظى العاثر أننى كنت من الأوائل دائما وأشغل وظيفة أمين الفصل ، تلك الوظيفة التى كانت محل فخر وقتئذ ، لكني فى حقيقة الأمر كنت تلميذة كسولة للغاية أهرب من أداء واجباتي الدراسية ، لا أجلس سوى بجوار الراسبين أو كما يطلق عليهم “معيدين الفصل”لخفة دمهم المعتادة، ليس هذا فقط بل كنت أعتبر طابور الصباح بمثابة تعذيب يومي لا طائل فيه سوى منظرة مدير المدرسة وإثبات قدرة المدرسين فى السيطرة على التلاميذ، لكن كنت أفرح فقط وقت أداء النشيد الوطني ، حيث تنتقل المهمة إلى لساني ليقوم بواجب الترديد المعتاد ، لكن ما كان يخفف معاناتي اليومية هو وجود أخى محمود الذى يصغرني بعام واحد معي فى المدرسة وهو إخوانجى حاليا ، وأخى الأكبر منى بعامين أحمد وهو ثورجي متعصب فى كراهيته للإخوان .

وما زالت فى عمري أقع بين أحمد ومحمود، وأعيش بين حب جماعة الإخوان وكرهم ، تقع مشاعري فى المنتصف، فى حب مصر يقع غرامي ،تلك البلد الدافئة التى تضم ضلوعي برفق كلما ضاقت بى الدنيا ،ولماذا لا نحب الوطن الذى كنا نردد له يوميا ، بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي ، إلى أخر هذا النشيد الذى ألفه محمد يونس القاضي، ولحنه سيد درويش، والذي كان ذا روابط وعرى وثيقة مع قادة الحركة الوطنية مثل مصطفى كامل، وفي الحقيقة فقد إشتق نشيد مصر الحالي من كلمات ألقاها مصطفى كامل في إحدى أشهر خطبه عام 1907م وهذه كلماتها: ” بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.. لك حياتي ووجودي، لك دمي، لك عقلي ولساني، لك لُبي وجناني، فأنت أنت الحياة.. ولا حياة إلا بك يا مصر”، وتم تبنيه كنشيد رسميا للدولة عام 1979،و قام موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بإعادة تلحينه وتوزيعه بتوجيه من الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
اليوم فقط عرفت أهمية طابور الصباح ، وأهمية النشيد الوطنى الذى يقول للجميع ،أنتم من بلد واحدة ، وكأن ترديده هو قسم يتلى كعنوان لحب الوطن ، لكن السؤال الذى يثارهل للقسم أهمية ،وهل الحب فى حاجة لقسم ، ولماذا إذن يقسم الرؤساء للوطن قبل أن يجلسون على كرسى الرئاسة ؟

ينبغى الإشارة إلى أنه من الظواهرالمتكررة في القرآن الكريم والتي يلحظها بوضوح كل من جالس القرآن ظاهرة القسم الإلهي حيث كان القسم أسلوبا” إستخدمه القرآن الكريم في جملة الأساليب الأخرى لإيصال فكرة أو تأكيدها حتى تخالط وجدان وعقل وقلب كل من ألقى السمع وهو شهيد، ولئن كان القسم أسلوبا” رائجا” في العصر الجاهلي ولكنه في القرآن الكريم أخذ بعدا” آخر يتلاءم مع القرآن الكريم وسمو معانيه وأهدافه العالية، فالغرض من القسم ، لبيان فضيلة المقسم له أو منفعته ) كما في قوله تعالى ( لا أقسم بيوم القيامة ) (فلا أقسم بمواقع النجوم ) ( لاأقسم بهذا البلد …) وغير ذلك من الآيات ،ولكن تبقى هناك علاقة قائمة بين المقسم به والمقسم عليه استدعت إقترانهما , وفي كل مورد من موراد القسم نجد تناسبا” خاصا” بين الطرفين المذكورين يزيد في جمالية التعبير القرآني ويؤدي إلى إيصال الفكرة مستساغة دونما تكلف وعناء ولذلك فكل يراد إيصالها بقسم ما , تستدعي مقسما” به خاصا” ، ولكن سؤال الواقع السياسي المصري فى ظل أن الدين لا ينفصل عن السياسة ، هو هل القسم الذى قاله الرئيس مرسى حينما تولى مصر “أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصًا علي النظام الجمهوري، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أرعي مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن أحافظ علي استقلال الوطن وسلامة أراضيه’، كان مجرد كلام بروتوكولي أم أنه قسم كان أمام الله قبل أن يكون أمام شعبه ،وكيف لقسم أمام الله أن يؤدي فى النهاية لقسمة وطن ، ليقتل بسببه الأخ أخاه ؟
يا سادة لا يجوز لرئيس الدولة ممارسة مهامه وصلاحياته قبل أدائه لليمين الدستورية ويسمى في هذه الحال “رئيس منتخب” ويبدأ احتساب مدة ولاية الرئيس من تاريخ أدائه له، أى أن القسم هو الذى يمنح الشرعية للرئيس ،فماذا لو تجاوز الرئيس فى حقه ، فى الحقيقة إجابة هذا السؤال هى التى قسمت بين أخى أحمد ومحمود فى الرأى،وقسمت أبناء الوطن جميعا ، والحل الصحيح للأزمة يكمن فى العودة للقسم لنقف جمعيا من حاكم إلى محكوم تحت رايته ،وأن نحترم جمعيا الدستور والقانون ، لأنك ببساطة كمواطن يمكن أن تقابل فى حياتك حاكم ظالم ، قاصر فى تفكيره وعقله ،لكن لا يمكنك أن تقابل ميزان يهوى جانبه الأيمن على حساب جانبه الأيسر ، إنه العدل الذى لابد أن يحكم بين الجميع.


* كاتبة من مصر

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *