ربيعة ريحان *
( ثقافات )
أفكر أنني كنت لا أحب وجه الصورة القديم الذي كان على جدار بيتنا العتيق ، ولا أحب سيفها المعقوف ولا ألوانها الضاجة أيضا .
كنت أرقبها وأنا أكور جسدي الصغير تحت اللحاف صافنة مستغرقة في تفاصيلها الغريبة ، جاهدة أن أربط بين الرجل المكتنز القصير وصورة الأسد المخيف جنبه ، والأغصان المدلاة من حوله وطاحونة الانزعاج والشرود بداخلي .
أذكر أن كل أحزان طفولتي وتلك الجراح السرية مرتبطة بها . أهرع إلى هناك ما أن أقع في فخ الصياغات السلطوية التي لا أفهمها . أبي يزجرني متصارخا وكذلك أخي وأمي ثم يشدونني جميعا من شعري بقوة . عنفهم الواقع على قلبي كعقاب دائم كان يدفع بي إلى أن أنزوي بعيدا حيث لا قدرة لأحد على استعادتي . أضحي بأكلي ولعبي وأنطلق على قطار الغضب فاقدة الرغبة في كل شيء بسبب الفرض والمنع والإرغام .
كانت غرفة منزوية باردة تليق بأن تكون مستقرا لزوبعة شتائمي الحانقة وطول لساني .
ـ أنت أيتها الجنية ماذا تبركمين ؟؟..
يهبط الصمت علي حين يتناهى إلى سمعي صوت والدي القوي وهو يصرخ من مكانه سائلا .. ـ أيتها الجنية !! ..
نادرا ما كانوا ينادونني باسمي ..
أنظر ببرود نحو الرجل في الصورة وأخرج له أصبعي الوسطى ، وأتركها لفترة منتصبة ممدودة نحو وجهه البعيد ولا أكلف نفسي مشقة طيها . .
أمي تدعوني إلى ترك هذه العادة الوقحة ، وتقسم من انزعاجها أنني إذا أعدتها ثانية ستفرقع كل أصابعي أو تهرسها واحدا وحدا تحت قضيب من حديد ، وأنا صرت أفعلها ببرود دون أن أفكر حتى فيما إذا كان الداعي يتسع فعلا لذلك الشطط .
ـ والله يا ابنتي لأتركك من غير أصابع !!..
أنظر نحو أمي بخوف وانتباه قليلا ثم يعود ليركبني عصياني . أتلفت في الجهات بحثا عن منفذ للهرب . أفكر ربما أفعلها معها هي أيضا بعد هذا التهديد الرهيب !! ..
كنت أضيق ذرعا بأخي الذي كان مجنونا متجاوزا للحدود وراغبا دوما في إيذائي ، كان يرسل قدمه الوسخة نحوي أو ينفلت راكضا خلفي ثم يشدني بيديه القويتين من ضفيرتي .
يفعل ذلك كلما رآني ألهو مع رفيقاتي أو أجلس لوحدي في وضع مريح . المؤسف ألا أبي أو أمي كانت تضايقهما تلك العادة أو كانا يتوتران بعض الشيء من ضربه الساخن لي ومن صراخي . كأن من حقه فعل ذلك ومن حقي الصراخ والبكاء . مرات كنت أقول في نفسي : هؤلاء ليسوا أهلي ، وأفكر أن على باطن يدي أن يكون مطواعا سريع الرد ، فكانت تلك الحركة من أصبعي تثلجني ، كما أنها بحجم انتقامي ومقاومتي .
ـ سوف ترين !! …
يقول لي أخي مهددا بعد أن أمد له أصبعي .
لم أكن طيعة أبدا ، لذلك شكلت لأمي هاجس هم دائم . توجهني يمينا فيكون علي أن أعكس شرطها بالمقلوب ، ثم تبعث بي لقضاء حاجة فأتيه في صخب اللعب وأنسى وصاياها المتشددة لي ، وفي ما بعد صارت يدي تمتد بالعداء لكل من حولي .
صرت أسوي في الخفاء تلك اللسعات القوية بحلاوة في قلبي ، أفعلها مع البنات والأولاد والنساء العاريات المكتظات في الحمام . أختار موقعا لقرصتي ثم أسربل ملامحي ببراءة صفيحية كسكينة الأطفال . لم يفطن أحد لي ، لكن مع المعاودة صارت أمي تدرك بعد صرخة المباغثة ألا أحد يجرؤ على حبكها غيري .
ـ أنت أيتها الجنية ؟ أليس كذلك ؟؟…
تسألني أمي بخفوت مذهولة عاجزة بعد أن أكون قد أدخلت الرعب إلى قلبها فتتلاشى الحدة من داخلي وتلين نظرتي .
لماذا تتذمر منيو أمي ؟؟.. وماذا تراني أفعل وأنا أراهم يتجسسون علي ويضربونني ويراكمون حولي كالآلهة شهوة الأطواق والمعاني الحائرة مثلي ؟؟..
ـ تعالي .. قربي ..
قابلة الحي العجوز البشعة التي لا تبتسم تناديني آمرة بصوتها الفاضح ، حين تأتي في جولتها الاعتيادية لتطل على أمي . شيء ما من الأحاديث عن صلابتي جعلها تربط بين ذلك العناد وحدوث ثقب عبثي قد يحصل في مكان ما من لحمي . هي لاتفعل شيئا سوى أنها مغرمة بتوليد النساء وتثقيب الآذان وتفحص بكارات البنات وتصفيحها كذلك ..
أخبط وأتلوى في مكاني حين تدس كفيها بين ساقي وألف وجهي بين ساعدي وأصرخ ، وأتفوه في وجهها بشتائم صاعقة إذ يتوزعني الذعر والغرابة والألم ، وحين تنتهي مني تقذف بي إلى الأمام وأمي التي تساعدها على تثبيتي تضحك في صمت . لا أدري إن كانت تفعل ذلك عن قصد أم لتغطي على حرجها أمامي .
تقول العجوز لأمي بصوت واثق قبيح :
ـ لاشيء بها الآن .. لكن انتبهي لها .. لم أر بنتا عاصية مثلها ؟؟…
أنهض لأسوي ملابسي وأشعر أنني غير قادرة على النظر إلى أحد . قلبي يخفق بقوة . أهرب إلى الحجرة الداخلية وألف جسدي الطفل في الملاءات الكثيرة وألتصق بالفراش محتكة به . أقوم بتلك الحركات العصبية اللاإرادية الصماء ، إلى أن أهدأ قليلا وأستعيدني فأنظر بوحشة نحو الصورة الغامضة على الجدار . خلفي تتساقط صور أمي وأبي وأخي والجيران ..
في الزمن المحفور في قلبي لاشيء كان يسمح بالحلم ، فرومانسية البنات كانت شيئاغريبا علي . كن يسلمن أنفسهن لآهات عبد الحليم العارمة وتداعيات أغانيه الشجية وهن ينظرن نحو الأولاد الجميلين برحابة ورغبة والأولاد كانوا يقولون كلاما مثيرا وهن يبتسمن .
كنت أحس أنني مذعورة ولا أعرف كيف أمسك بكل الضجيج الذي بداخلي ، وكنت أود أن أحزن وأتوجع ويلفني مثلما يلفهن إعصار العشق ، لكن صورا كثيرة كئيبة كانت تحل عند مستوى رغبتي كعلامات وقف زاجرة ..
موجع صار جسدي وتفاصيلي المغطاة بركام فظيع من التوتر والأثقال زاد من حدتها بلوغي . ظللت منتبهة لي مرعوبة مني وعلي ، وحين جاءت دم الحيض كان قد حل بقلبي الوحل . ظننت بهول أنني فقدت بكارتي . كانت نقطة دم غريبة ومميتة . في لحظة حصل فصل بيني وبين حياتي وصرت شيئا آخر غيري . بدا وكأنني مت في الثانية عشرة من عمري واستكنت .
لأول مرة صارت تبدو لي أمي جسرا أخضر وعطر أمان .
قلت لها بصوت خجلان خفيض :
ـ انظري !!..
ارتعبت في البدء وهي تنظر إلى سروالي ، لكنها خمنت على عجل فأسدلت هندامي ومنعتني من الخروج بقول صارم :
ـ إياك أن تخرجي وتنكشفي بلعبك الغبي فيتفرج عليك الخلق !!.
وجدتني بانقياد أطيع أمي تماما وأخاف من إمكانية حصول الفضيحة . حين عاد أخي تصورت في لحظة أنه إن دنا مني سيكتشف ما بي ، وشعرت أنني مذنبة بحقه بإقبالي خلسة على عالم هو لايدريه ، كأنني مدنسة بشيء أو كأنني خنته . شيئا آخر صرت وواحدة عليها في الأيام الثلاثة الأولى من كل شهر أن تغرق في النظافة والتطهير . أقلعت بأريحية عن عادة إغضاب الكل وعادة مد أصبعي الوسطى إليهم ، ولم تعد بي رغبة في توقيع قرصاتي الحذرة اللاسعة على الأجساد الشاردة من حولي . كانوا غير مصدقين لهذه القابلية السريعة للتغيير ..
ووحدي حين صرت أنزوي لأسباب أخرى أبعد عن الغضب في الغرفة المعتمة الباردة ، كنت أهجع وأنا أحاول فك فخاخ أسئلتي . كان التفكير يطوح بي إلى حدود أخرى لأنني صرت أتحسسني بوداعة في أكثر من موضع من أنوثتي وأنا أنظر إلى الصورة خلفي على الجدار . لم تعد تشعرني بالفظاظة والخوف . نبض آخر صار يعبرني . تهادنت مع وجه الرجل المزدان بالقساوة والهدوء ، وصرت أخفي نفسي عنه في عريي وأخفي نتوءي اللذين صارا يبرزان على صدري وأنا أغير ملابسي . كنت أرفع رأسي نحوه ثم أسبل عيني وأبتسم وأتساءل في صمت كيف أبدو له بملابس النساء الضاجة ، ملابس أمي الطويلة التي كنت آخذها سرا من خزانتها لأقيسها هناك !!
بعد ذلك بوقت طويل حين مات أبي وكان الآخرون يأخذون أشياء البيت الكثيرة ، لأمر ما وجدتني أفكر في الصورة التي على الجدار في الغرفة الباردة المنسية ، حيث انزرعت بذهني هكذا فجأة فأنزلتها بتلف الألوان المطفأة على سطحها من الجدار الأجرب الخرب . كانت إرثي الاختياري الممكن الوحيد في دوامة اللغط والحساب . قطعة أثرية بيني وبينها تاريخ ووجع . لمستها . كانت واهنة وطيعة ورطبة . عفتها قليلا وكدت أمزقها فحاصرني الغموض . وجدتني بحذر أفكر في بروزتها وإعادتها إلى مكانها ..
بدا لي الجدار في لحظة من غيرها عامرا بقوة بالفقد والرحيل ..
* قاصة من المغرب