«كلاب جلجامش» للروائي العراقي شاكر نوري


صبري مسلم حمادي


ربما كان الروائي الآيرلندي جيمس جويس مؤلف رواية يوليسيس (1) الشهيرة يسخر، حين أشار ردا على رسالة أحد أصدقائه إلى أنه وضع في رواية يوليسيس الكثير من الألغاز والأحاجي، وذلك لتشغل تفكير الأساتذة لقرون بمناقشة ما كانت تقصده أو تعنيه. وإن ذلك فقط ـ وكما عبر جويس نفسه ـ هو الذي سيضمن لروايته الخلود. بيد أن الذي حصل هو أن رواية يوليسيس، وعلى مدى تسعة عقود من الزمان قد شغلت أجيالا من النقاد والدارسين، نظراً لخصب دلالاتها واشتباك رموزها. وإذا عكسنا وجهة النظر هذه على رواية كلاب جلجامش للروائي العراقي شاكر نوري (2)، فإن وجه المقارنة يتضح من خلال أفق التأويل الرحب الذي يمكن أن ينطلق فيه الناقد أو المتلقي عامة، حين يقرأ هذه الرواية المهمة.

وعلى الرغم من مرور تسعين عاما على صدور رواية يوليسيس، فإنها لا تزال تتصدر قائمة الروايات الرائدة التي أسست لنفسها نسقا خاصا مختلفا، إذ آذنت بولادة تقنية سردية جديدة، هي تقنية تيار الوعي أو المنولوج الداخلي (3) وليس هذا فقط، بل كانت رائدة أيضا في مجال الإفادة من الموروث الإغريقي. ففي الوقت الذي كان فيه يوليسيس في الأوديسة بطلا قاد الإغريق إلى النصر في حرب طروادة، فإن مستر بلوم داخل النص الروائي كان يخلو من البطولة تماما، فهو إنسان عادي يعيش حياة رتيبة حد الملل. وأما مسز بلوم زوجته، فإنها كانت تحلم بلقاء عشيقها، وهي في عهدة زوجها الذي كان أضعف من أن يعترض على وجود هذا العشيق في حياتهما. ومن هذا المنطلق ندرك أن جيمس جويس يعي هذا المعنى ويقصده، بعد أن فقد ثقته بالإنسان الأوروبي إثر الأحداث الدامية في الحرب العالمية الأولى. وهو يتعمد رسم شخصيات تتضاد تماما مع أبطال الملحمة، وكأنه يشير من طرف خفي إلى أن مستر بلوم لا يمثل امتدادا لبطل الأوديسة، كما أن مسز بلوم لا تصلح أن تكون حفيدة بنيلوب التي أخلصت لزوجها وانتظرته عشرين عاما. وهذا النمط من استلهام الموروث يمكن أن نطلق عليه اسم الاستلهام المعكوس، وقد أطلق عليه الدكتور علي عشري زايد اسم التوظيف العكسي للموروث (4).

تخوم العالم


ونلمس الوعي ذاته لدى الروائي العراقي شاكر نوري بملحمة جلجامش في روايته “كلاب جلجامش” التي أراد كاتبها أن يستلهم تلك الملحمة الخالدة. ومن المؤكد أن شاكر نوري أفاد من التراث الروائي العالمي أيضا، ولاسيما رواية (يوليسيس)، وقد صرح شاكر نوري بذلك في حوار له مع الصحفي الأردني معن البياري في صحيفة “الغد” الأردنية.

إذ ظهر أبطال رواية “كلاب جلجامش”، وكأنهم على الطرف المضاد لأبطال ملحمة جلجامش، فهذا جلال رديف جلجامش ـ كما تشير الرواية ـ رأى كل شيء، وهو استهلال تبدأ به ملحمة جلجامش:

“هو الذي رأى كل شيء، فغني بذكره يا بلادي.

وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها.

وهو الحكيم العارف بكل شيء” (5)

ويعزز هذا ما يرد في الرواية:

“تذكر بعض سنواته برضا وأخرى بأسف، فقد سافر الى كل مكان، ووصل الى تخوم العالم، ورأى كل شيء، وحصل على أعلى درجاته العلمية بنجاح، دكتوراه في علم الجينات من لوس أنجلوس، تعرّف خلالها على أسرار وخفايا ونظريات، ووجد فيها حكمة العالم رغم عجزها عن تقديم أي حل للبشرية، ومن هنا جاء تعلقه بخيوط واهية الى تاريخ بلاده السحيق، الى زمان ما قبل الطوفان” (6).

جينات إنسانية

إن جلال كان عالم جينات طموح، إذ يسعى إلى “تلك النظرية التي طالما حلم بتحقيقها ولكن عبثا: ماذا يحدث لو تمّ تلقيح جينات إنسانية مع جينات إلهية مختبريا؟ طار من مكانه صارخا بأعلى صوته: ستكون النتيجة: كائن ثلثه إنسان وثلثاه إله” (7)، وهذه لفتة غرائبية طريفة تجعل هذه الرواية وبطلها جلال موصولين بأجواء الملحمة. وثمة إشارة إلى أن (جلال) كان مولعا بملحمة جلجامش، فقد مثل دور جلجامش وكان لايزال طالبا في المدرسة الابتدائية، في حين مثل أنور دور أنكيدو، ورضي سرمد بأن يمثل دور سيدوري. “قال لنا المعلم: أنور أنت أنكيدو، وجلال أنت جلجامش، ثم سرمد الذي مثل دور سيدوري المرأة صاحبة الحانة، حين رفض أن يمثلها الطلبة الآخرون… ولأن الفتيات كن يخجلن من التمثيل، فوضعوا على وجهه الماكياج والأصباغ، ووضعوا الأقراط الذهبية في أذنه، فتحول إلى فتاة جميلة. وظل الطلاب يطلقون عليه صاحبة الحانة مازحين معه” (8). وتكون أدوار هذه الشخصيات مقاربة لتلك الشخصيات الأسطورية. ولذلك يلقى أنور حتفه مبكرا في سياق روائي مقنع، إذ ينهش جسده السرطان. ويسعى صديقه جلجامش (جلال) إلى أن يدفنه في أرض وطنه (سواديا) بناء على وصيته، وبعد أن يتسلم برقية من ممرضة اسمها زهرة، تعمل بمستشفى بباريس تخبره بأن صديقه أنور قد مات في المستشفى وترك له وصية يطلب فيها أن يدفنه في بلدهما (سواديا). واستجابة لنوازع دفينة تتجاذبه، وهي تنبع من هذا النزوع الخفي في معرفة سر الحياة والموت. وقد اختار أنور (أنكيدو) أرض بلده سواديا مكانا لموته، بعد أن فشل في أن يتخذ منها مكانا لعيشه، “كل ما أطلبه منك أن تقوم بنقل جثتي، وتعمل على دفني في بلدنا “سواديا”. لا أريد أن أدفن في بلاد الغربة، بل أعانق الأرض التي ولدت فيها. لا تحزن. الموت حق.. أو هكذا علمتنا الكتب السماوية منذ الصغر، وحفظناها عن ظهر قلب دون أن نعي معانيها. لقد رتبت كافة الأمور المالية لهذا الغرض، لأنني لا أريد أن أرهقك بموتي بعد أن أرهقتك بحياتي. لا تنس أن تودّع بالنيابة عني صديقنا سرمد” (9).

دلالة مضادة

وفي هذا دلالة مضادة لرحلة جلجامش الذي كان يحلم بأن يبقى في هذه الحياة إلى الأبد، ومع أن جلجامش فشل في مهمته وأيقن بأنه هالك لا محالة، فإنه عاد إلى مدينته أوروك ليعلي أسوارها ويبني حصونها ويفتح الباب لمتخيل المتلقي كي يتخيل حياة أفضل لمدينته أوروك، بعد أن نضج جلجامش وأدرك قصر هذه الحياة واستحالة أن يخلد فيها بنو البشر. إذن فعلى الإنسان أن يعيش حياته القصيرة، فهذا هو نصيبه منها وبناء على نصيحة سيدوري وحكمتها في نص الملحمة.

وقد لعبت الشخصية الثالثة (سرمد) دور سيدوري عبر الإشارة المباشرة إلى ذلك في الصفحات الأولى من الرواية. وتكون نصيحته لجلال في الرواية معاكسة تماما لنصيحة سيدوري لجلجامش في الملحمة، فهذه سيدوري تشير على جلجامش بأن يبقى في أوروك بلده، وأن يتجنب المغامرة المستحيلة التي أصر عليها بالرغم من هذه النصيحة، فإن سرمد (سيدوري) يلوم جلال على هذه الحماقة إذ يصر على العودة إلى بلده سواديا مع جثة صديقه أنور، لا سيما أن أنور قد تعرض للتعذيب الشديد من مؤسسة الخلود في أرض سواديا، ففقد القدرة على الكلام والسماع، وهو يتفاهم الآن بالكتابة. وإذا ما عدنا إلى الملحمة ووجدنا أن سيدوري إنما هي رمز للحكمة، فإن ما حل بسرمد رديف سيدوري في الرواية يرمز إلى أن أرض سواديا أطاحت الحكمة، وعلى العكس من ذلك إذ أضحت الحكمة لعنة على أصحابها ممن راهنوا عليها، واعتقدوا بأنها يمكن أن تنقذ ما يمكن إنقاذه هناك في أرض سواديا. يرد على لسان جلال “كتب لي سرمد في دفتره الصغير: ما الذي أغراك في حمل جثته (أنور) إلى هنا؟” (10).

أجواء أسطورية

ويتعمد شاكر نوري أن يخلق أجواء أسطورية جديدة غير مسبوقة حين يكتشف بطل الرواية أن أهالي سواديا قد حققوا حلم جلجامش، فلم يعد يموت فيهم أحد، وتكون المفارقة أن الخلود في سواديا أصبح كاللعنة، إذ يشبه بطريقة وبأخرى الخلود في الجحيم، وفي ظل مؤسسة الخلود التي تثير أقصى المرارة والكوميديا في آن واحد، ولذلك فإن منطق الحياة لديهم قد انقلب إلى النقيض، وأصبح الموت هو أمنية أهالي سواديا وليست الحياة الخالدة التعيسة. ويكون دور جثة أنور هو إعادة الموت واستبعاد فكرة الخلود بعد أن فشلت في أن تكون بديلا لهذه الحياة، وهذا هو الاشتغال على القطب المضاد للملحمة، وهو المثقل بثمار الرمز، “كان يتفسّخ، وتنتشر رائحته مع الرياح. واكتظت الطرق المؤدية الى المرصد المهجور، يتدافعون الى صعود السلالم الحديدية الى أعلى برج المرصد ليشمّوا تلك الرائحة، عطر غريب ينعش رئاتهم، وما إن يستنشقوه حتى يسقطوا موتى لا تقف في وجوههم لا الأسوار ولا الرياح” (11). وإذ يعود الموت إلى أرض سواديا تعود الحياة، فهما أي الموت والحياة رديفان يكتسب كل منهما معناه من حضور الآخر. وفي هذا مضمون فلسفي، بيد أن الروائي لم يبتكر حكايته الأسطورية من أجل ذلك، بل من أجل معنى إنساني قوامه إدانة الحروب والصراعات، ولعل عنوان الرواية إشارة رامزة إلى أن هؤلاء الناس ممن ينهش بعضهم بعضا هم ليسوا أحفاد جلجامش الملك الخامس بعد الطوفان ـ من وجهة نظر الرواية. وإذا قلنا إن شاكر نوري قصد أن الظرف العصيب لأهالي سواديا جعل الموت يبدو لهم أرحم من الحياة، فإننا لن نبتعد عن أجواء النص. وقد يعني النص فيما يعنيه أن أبناء سواديا جلبوا الموت لأنفسهم من خارج أرضهم ومن خلال جثة أنور (أنكيدو) التي حملها جلال من بلاد الغربة إلى وطنه (سواديا)..

لقد أكسبت ملحمة جلجامش رواية “كلاب جلجامش” بعدا عالميا مستمدا من هذه المعادلة المقلوبة بين الإنسان الأول وطموحه في الخلود قبل ما يقارب من خمسين قرناً، وبين إنسان هذا العصر وحروبه وصراعاته وطموحه في أن يكون الموت هو الهدف لا الحياة. ويمكن أن يؤول هذا النص الروائي على وجوه مختلفة، وهذه سمة لا تخطئ للأثر الأدبي الخصب الذي يمكن تأويله في اتجاهات شتى.

الهوامش:

(1) جيمس جويس، عوليس، ترجمة الدكتور طه محمود طه، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة 1982

(2) شاكر نوري، كلاب جلجامش، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت والجزائر 2008

(3) مجدي وهبة وكامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت 1984، ص230

(4) الدكتور علي عشري زايد، استدعاء الشخصية التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة 1997، ص 203

(5) ملحمة جلجامش، ترجمة وتقديم طه باقر، دار الحرية للطباعة ط4، بغداد 1980

(6) كلاب جلجامش ص7

(7) نفسه ص9

(8) نفسه ص51

(9) نفسه ص11-12

(10) نفسه ص72

(11) نفسه ص99


( الاتحاد الثقافي )

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *