“فنّانة الجسد” لدون ديليلو بالعربية


روجيه عوطة

ليست رواية “فنّانة الجسد” لدون ديليلو، الصادرة بالعربية عن “دار المدى” ترجمة أسامة منزلجي، نصاً إيروتيكياً، يحتفي بالجسد ورغباته فنياً. الكتلة الجسدية في الرواية ضائعة، وإيروسيّتها مبهمة، نتيجة الإلتباس الذي يتقدم في النص على العناصر الكتابية الأخرى. يوظف الكاتب الإختلاط في حبك قصة لورين هارتكه، التي يتوفى زوجها، المخرج السينمائي راي روبلز، فتقضي الأيام من بعده مستكشفةً جسدها في سياق من الغرابة، مستخرجةً منه عملها الفني الجديد.

يستقر الإلتباس بين الجسد وفنه من خلال ظهور السيد تتل بعد وفاة روبلز، في المنزل، من دون أن يحضر كجسد رغبوي، بل كصورة شبحية. يشكل الحضور الطيفي جزءاً مما بعد حداثيّة النص الروائي، الذي يركب سردياته بالتشابك المبهم، ما يؤمّن له أفقاً سيمانطيقياً، يتحول فيه الجسد الناطق إلى شبح متلعثم. يسير السرد في النص بالتوازي مع توجه الجسد من صورة إلى أخرى، ومن استكشاف إلى آخر، حتى وصوله إلى الغموض في الماهية، والإنفتاح على الخفة.
يتحرك النص، مثل الجسد، من الموت إلى اللاإنتماء. وعندما تستعيد هارتكه جسمها، يحدث الإسترجاع بقسوة غليطة، فتفتح المرآة الإيروسية على مصراعيها. يدور جسد “الزوجة الثالثة” في ثلاثة أمكنة: المنزل، الذاكرة، الرغبة، بحيث لا يتشكل الفضاء الفني، الذي يتضح في نهاية النص، سوى بالخلط بينها، عبر تأرجح الجسد بين صورة الزوج الميت انتحاراً، بطلق ناري، وصورة الزائر المتلعثم.
تسمح الرغبة لهارتكه بأن تشتبه في عودة راي إلى المنزل من جديد. بالنسبة إليها، لا مجال للمقارنة بين حضور الرجلين، روبلز وتتل، في حياتها، غير أن الموت يفقدها زوجها، ما يدفعها إلى البحث عنه في مكان مختلف عن الحياة، لكنها تكتشف أن تلاصق المكانين، الإيروسي والثناتوسي، يخلقان فضاء آخر، تتآزر داخله الرغبات والصور، كي تحاكي المفقود، أي راي، في ألمه، الذي تسبب به التواء عموده الفقري، وتوجّه النحيب. الصوت الذي كان روبلز يصدره كلما أتى بحركة مجهدة، يعود إلى الظهور مع تتل بوتيرة مختلفة، لا يستطيع الشبح النجاة منها، لأنه يقع بين الجسد وظله، بين الجلد وضربات الفراغ فوقه.
تطلق هارتكه لقب السيد تتل على الزائر بسبب التأتأة التي يتكلم بها، فضلاً عن التشنجات التي تصيب مفاصل حديثه، وتحرمه الكلام غير المتقطع، مثل حضوره المتجزئ بين السرديات والأحداث البطيئة. فالكاتب لا يتعجل في توجيه السرد نحو بؤرته الأخيرة، بل يراكم الصور السردية، التي تحتكّ هارتكه بها، كي تدرك أسرار الزائر، محاولةً الكشف عن سبب ظهوره فجأةً في المنزل. لذا تسمّيه “المتلعثم” كي تسهل الإقتراب منه والإحتكاك بقصته، فتحلّ تأتأته مكان النحيب الذي كان يطلقه راي كإشارة إلى ألمه الجسدي الواصب. تساعدها الذاكرة على استبدال صورة زوجها السابق بشبح الزائر: “إنني أقيم هنا بسبب راي، الذي كان زوجي، وقد مات. لا أدري لماذا أخبركَ بهذا لأنه حتماً ليس ضرورياً البتة. ولكن أنا بحاجة إلى أن أعيش هنا وحدي بعض الوقت. فقط أخبرني إن كنت تفهم”.
في الذاكرة، تصبح تأتأة الشبح بمثابة نحيب الجسد، وينطوي هذا الصوت المتقطع على إيروسية قاسية، تومض في النص كأنها تقلصه، لأن الرغبة في الموت تشكل البنية التحتية للسرد، فيجذب الشبح الزائر رغبات هارتكه الجسدية، ويستولي على أغلب أطرافها، حتى يبدأ بالتغيّر إلى جسدٍ، عضلاته مدهونة بمرهم اللذة المطحونة. ترى هارتكه في تتل صورة زوجها الميت، وفي شبحه جسدها، ثم ترى جسم راي في جسد الشبح. عند ممر الباب، أي عند مغادرة الذاكرة، تكتشف أن “راي حي يرزق الآن في ذهن هذا الرجل، بفمه وجسده وقضيبه. كان جلدها مُكهرباً. شاهدت نفسها، تُشاهد نفسها تزحف نحوه”.
تقرر الـ”فنّانة” أن تنقذ جسد راي، من دون الإكتفاء بشبح الزائر، الذي ستفقده أيضاً، فيصل إلى جسديّته الأخيرة، من خلال تسجيل كلامه المتطقع على شريط صوتي. تُخزن التأتأة، نحيب الشبح، في الذاكرة، كي لا تشغل الرغبة بتقطعها، فتكبتها أكثر. في الوقت نفسه، يعين التلعثم الشبحي هارتكه على إستعادة راي من الرغبات الميتة، مصطحبةً إياه إلى مكان حيّ، تتمكن فيه من العودة إلى كلماته ولمساته وكل جزء من جسده الإيروسي، بدون أن تلتفت إلى الخارج، إلى رنين الهاتف، وأشرطة التسجيل الصوتي.
تنفذ هارتكه إلى فنها الجسدي من خلال عبورها من المنزل إلى الذاكرة، قبل أن تستقر في الرغبة. يتألف مكانها الأخير من إيروسية شبحية، من المستحيل التنكر لها، ومن الممكن الشك فيها، ولاسيما إذا اختفت صورها في الذاكرة الرغبوية. فمع دخول “فنانة” الشبح إلى الغرفة، حيث كان يمكث تتل، لم تتوقع أن تجده فيها، لأنها تعرف أن الشبح لا يصير جسداً، ولا جسد راي طيفاً، “لعل كل شيء كان حلم يقظة جنسياً”. لكن اليقظة بحاجة إلى إشارة وصورة من الذاكرة كي تحدث جنسياً، موت الأم على السبيل المثال، “ماتت أمها حين كانت في التاسعة من عمرها. لم يكن ذنبها. لم تكن لها صلة بها.” إذاً، تحضر عقدة ذنبها في التمثلات الجسدية والشبحية، إلا في الغرفة، في مكان رغبتها الأصلية، حيث يتلاشى نحيب الجسد، وتزول تأتأة الشبح، ولا يبقى من الموت سوى الإلتباس واللاإنتماء، فـ”عله يخبرها من هي”.  

 

( النهار )

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *