أمجد ناصر: الكتابة بحثٌ حسّيٌّ عن طريق للأنثى


حاوره: محمد جميل خضر *

 في محطات درب ممتد على مساحة أربعة وثلاثين عاماً، يواصل الشاعر الأردني المقيم في لندن أمجد ناصر مشروعه الإبداعي، مجدداً عند كل مفصل ومرحلة، نفسه وتجربته.
ورغم برودة بلاد بحر الظلمات، إلا أن صاحب «رعاة العزلة»، يظل قادراً على تكوين حرارته الخاصة. ومن تجريبية التخوم والهوامش، عمل صاحب «مديح لمقهى آخر»، من دون كلل على القصيدة المثالية، جاعلاً النثرَ في أعماله الأخيرة («حياة كسرد متقطّع» نموذجاً) بوصلتَهُ إلى الشعر، بما يشبه مطاردة شبح. وهو ما ظهر جلياً في كتابه النثري الجديد «رحلة في بلاد ماركيز» الصادر عن سلسلة كتاب مجلة «دبي» الثقافية، بما يتقاطع مع أدب الرحلات.
هو الكشف إذن، المضمّح في حالة «الزرقاوي» العتيد، بشفافية الشعر المتجول داخل ثقافات إنسانية متباينة. وهو الكشف المتأمّل تفاصيل بيئات عديدة، والمتوقّف ملياً في حالات التماثل بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى، وفق منهجية مقارنة عميقة بين العوالم والمعايير فيهما.
حول الكتابة، وفضاءات الخيال، وأشرعة السفر، ومواويل الاغتراب، كان ل «الرأي الثقافي» هذا الحوار مع الشاعر أمجد ناصر.

مطاردة شبح

* تسعى في «حياة كسرد متقطع»، بدربة خبيرة وحس يقظ، إلى تحرير قصيدة النثر العربية من آخر ما ظلّ عالقاً بها من هواجس الشكل والقولبة، وتحاول، ما استطعتَ إلى ذلك سبيلاً، إنقاذها من أسر الرتابة والتماثل. إلى أي غاية قصوى تود الوصول على صعيدَي الشكل والمضمون (مسوقاً بريبة أسلافك)؟

– يبدو أن مشواري في الكتابة قد بدأ من نقطة معينة كانت «التفعيلةَ» الخفيفة التي تحاول اكتشاف التفصيلي في المشهد اليومي، في المكاني والحياتي وحتى شبه الوجودي، ليواصل طريقاً حدّدتْهُ، كما يبدو، نهاياتُ كل عمل.
ففي نهايات «مديح لمقهى آخر» ثمة إطلالة على قصيدة النثر. أو لأقل قصيدة النثر كما كانت سائدة، شكلاً ومضموناً، في متداول الساحة الشعرية العربية. بعد ذلك حاولت القصيدة استثمار التفصيلي والجزئي في لحظة كانت تحفل فيها بما هو كليٌّ وشامل. أظن أن قصيدتي في ذلك الطور، في «منذ جلعاد» مثلاً، خفيضة الصوت وشبه عارية بلاغياً في لحظة ذات عقيرة وبلاغة عاليتين. لم يكن الأمر مقصوداً على الأغلب. لم أفكر فيه طويلاً. لكنه ميلي شبه الفطري لما هو خارج المتن، للهوامش والتخوم.
أنا أصلًا ابن مكان يقع في الهامش. وُلدت أيضاً على تخوم البداوة والتمدين، عشتُ في أحياء عشوائية («جناعة» مثلاً) وأمكنة صارمة في تخطيطها وعلاقتها بعالمها الخارجي (معسكر الزرقاء). هذه الإقامة على التخوم ربما هي التي ضبطت اتجاه تلك البوصلة المتوترة التي عمّقت عندي شعوراً غامضاً أنني لست ابن المتن والمستقر والثابت. هذا ما أفكر فيه الآن. أما في تلك الآونة فلم يكن هناك سوى هذا الشعور الغامض، سوى تلك البوصلة المتوترة، وهما اللذان حفزا خطوتي وربما قاداها في اتجاهات ونحو أمكنة لم تخطرا لي على بال.
في نهاية كل عمل، مثلما لاحظ أكثر من ناقد، هناك انطلاقة إلى لحظة أخرى في القصيدة. يصعب بطبيعة الحال تحديد الأطوار الشعرية انطلاقاً من كتاب واحد أو كتابين. أقصد أنه ليس معهوداً ربما أن يكون كل كتاب شعري لشاعر تمثيلاً لمرحلة أو طور شعري. ولكن تنبغي الملاحظة، هنا، أنني لا أكتب كثيراً. هناك دائماً مسافة زمنية تقدَّر بخمس أو ست سنوات بين عمل وآخر، خصوصاً، بعد العملين الأولين.
عندما صدرت أعمالي الشعرية المكتوبة حتى الآن في مجلد واحد لاحظت كَمْ نتاجي، من حيث الكَمّ، قليل. لاحظت كذلك الانتقالات في الموضوعات والشكل وربما في اللغة أيضاً. لا أدري كيف ينظر النقد إلى ذلك، فقد لا يرى الباحثون عن وحدةٍ في الموضوعات والجوّ، انسجاماً وتواصلاً في طَرْقِ جوٍّ واحد أو موضوع بعينه. يبدو أنني أيضاً ضد ما يسمى «الوحدة» و«التماسك» في العمل الشعري، رغم أنني كتبت أكثر من كتاب في موضوع واحد وجوّ واحد. لكن يبدو أن تناولي موضوعات وأشكالاً متعددة هو أشبه ببحث عن قصيدة لم أتوصل إليها حتى الآن.
القصيدة المثالية التي أريدها لم تتحقق على ما يبدو. هذا يفسر، ربما، ذلك البحث المضْني عن الشكل المثالي الخاص بي، أو الذي أريده. إلى أيّ غاية تذهب قصيدتي؟ هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي بين حين وآخر ولا أجد له جواباً. لكن النثر هو الذي يلوح لي الآن. الذهاب في النثر إلى أبعد مدى ممكن لملاقاة الشعر أو ربما عدم ملاقاته. أعرف أن الأمر ينطوي على تناقض قد يبدو جوهرياً، لكنني غير قادر على دفع كتابتي في اتجاه آخر. فكل ما أكتبه اليوم هو قطع نثرية أو أعمال نثرية يحلو لي أن أرى الشعر يتخللها. ذلك، طبعاً، شيء يشبه مطاردة شبح.

وعي النهايات وغواية اللغة

* في قصيدتك «طريقة أردنية» تعود بنا إلى البدايات، إلى أزمة تيسير سبول ومأزق الطاهر وطار في علاقتهما مع الغرب عموماً ومع المرأة الغربية على وجه الخصوص، ربما لا تحتمل القصيدة «الطريفة» كل هذا التأويل، ولكن (على كل حال) كم تبقّى من الشاب الصغير القابع «مبهوتاً» في مرآة الزمن السريع؟

– هذه القصيدة تحتمل عندي تأويلاً آخر. المرأة الغربية، وهي نادلة في مقهى، ليست ربما أكثر من ذريعة لتأمُّل تلكؤ البدايات واللحظات الأولى في حياة المرء. قد نظن أننا تخلصنا من لحظات المكان الأول ومواضعاته عندما نذهب بعيداً في الأرض والجغرافيا، لكننا نكتشف أننا ما نزال نحمل وشم المكان الأول ومواضعاته ولو على نحو حائل.
لم يكن الرجل شبه الكهل هو الذي ينظر إلى النادلة ويمسد شعره بيده، كما كنا نفعل للفت نظر فتاة عندما كنا صغاراً، بل كان يفعل ذلك الولدُ الصغير نفسه الذي لم يفارق، على ما يبدو، رجلاً يخطو نحو منتصف العمر.
تلك الإشارة المحلية البسيطة (وربما الساذجة) ظلّت في ذاكرة الرجل ويده، رغم أن إشارة كهذه تبدو مضحكة في مقهى لندني، وبالتأكيد لا تدل على مقصدها، لكنها ظلت موجودة. ربما هذا ما أردت قوله: إن البدايات تتلكأ داخلنا على نحو أو آخر، وإننا لا نتغير كثيراً، أو أن هناك أشياء فينا لا تتغير رغم تقدم السن وتبدل الإطار المكاني واختلاف المواضعات بالكامل. لذلك سميت تلك القصيدة «طريقة أردنية».
 

* حتى «مرتقى الأنفاس»، المجموعة الصادرة في العام 1997 في بيروت (حيث صدرت كثير من أعمالك الشعرية)، لم تكن النهاياتُ قد شكّلت بعد شاغلاً في ثنايا وعيك (الموضوعي والواقعي) كما فعلت قصائد تلك المجموعة المتقاربة في أجوائها ونفحتها الصوفية المسكونة بضوء دفين وبعشب وخفة.. إلى أي مدى تنظر لهذه المجوعة بوصفه نهاية عشق ما؟

– كل كتابة هي نهاية ما، وبداية غامضة. إنها قطْع واستئناف في الوقت نفسه. هذا ما تفعله الكتابة عادة، إنها تفتح لحظة وتغلق، ربما، لحظة أخرى. أفكر بكتابتي، بعد أن تكون قد نُشرت ولم يعد هناك إمكانية لاسترجاعها إلى حبرها الأول، بوصفها بدايات. قلت من قبل إن بحثي عن قصيدتي، قصيدتي المثالية (بالنسبة لي فقط) هو الذي جعل البدايات، وما يشبه النهايات كذلك، واضحة في أعمالي.
لكن ذلك، على ما أظن، سطح مراوغ. فنحن على ما يبدو لا نفرغ تماماً مما يمتلكنا من هواجس واعتمالات داخلية غير محددة تماماً.. وما يبدو نهاية قد يكون استئنافاً لخيط ما تركناه وراءنا وظنَنْا أننا ولّينا عنه الى غير رجعة.
هذا الحسم غير موجود في العمل الإبداعي. ليس هناك من حسم مطلق للأسئلة ولا أجوبة نهائية لما نبحث عنه. الكلام عن القطيعة في الإبداع والمعرفة مجرد أهزوجة راديكالية. قد يكون «مرتقى الأنفاس» نهاية لغة في قصيدتي، تلك اللغة التي تحاول تأهيل نفسها كي تزج معجمها المهمل في دوامة الشعر الحديث. هناك لغة تستعرض نفسها كذلك. لم أعد أفعل ذلك الآن. اللغة لم تكن يوماً غواية خاصة لي، لم تكن هدفاً للكتابة. أعتقد أن ذلك الكتاب استمرار لكتاب سابق عليه تماماً هو «سُرَّ من رآكِ».
قد يبدو الموضوع الذي تتصدى له القصيدة مختلفاً، ففي الأول هناك ما هو إيروتيكي، وفي الثاني هناك ما هو تاريخي أو شبه تاريخي. لكني أظن أن اللغة التي صنعت الكتاب الأول هي تقريباً اللغة التي صنعت الكتاب الثاني. ثمة خيط واصل غير اللغة بين الكتابين أظنه البحث عن تحقق وجودي من خلال الأنثى.
يحلو لي أن أتصور أن أبا عبد الله الصغير في «مرتقى الأنفاس» ليس أكثر من قناع لما هو راهن. قناع لصاحب القصيدة نفسه أو من يشبهه في اللحظة الراهنة. التاريخ بحد ذاته ليس شيئاً مهماً في هذا الكتاب، فالتاريخ يكتبه المؤرخون. لكن الفن يتصدى في الموضوعة التاريخية لما هو غير تاريخي بالمرة. أظن أنه يحاول اكتشاف اللحظات المفقودة، أو اللحظات التي لا يتوقف عندها كاتب التاريخ ودارسه. إنها طبقة تحتية بعض الشيء حيث يثوي الفقدان وتتبدد الأحلام ويتخثر الحنين. فهل ينطوي بحثٌ كهذا مع نهاية كتاب؟ لا أعرف.

أعالي الاشتهاء

* مع «من غطَّ إصبعاً في السرّة» ونعطي معاني شتى لإطباقة الشفتين/ نشمّهما/ نقبّلهما/ نغسلهما بالرّضاب/ لنوقظ النحلة ونلثم القمر ذا الخدين»، وصولاً إلى «السخونة في القطن»، وقصائد غيرها في «سُرّ من رآك» ودواوين أخرى، منحتَ ناقداً مثل فخري صالح، على سبيل المثال، فرصة أن يرى «البعد الإيروسي يضرب جذوره في أعماق تجربتك الشعرية»، وتركته يقول «في «سُّرَّ من رآكِ»، وفي بعض قصائد «حياة كسرد متقطع»: «نعثر على مشاغل الجسد في أقصى حالاته شغفاً ورغبة وغلمة واشتهاء». إلى أي قدر أردت أن يرى النقاد ذلك؟ وإلى أي درجة تتفق مع من ينعتك ب «شاعر الإيروتيكا»؟

– لا أحد يقول للنقاد شيئاً من هذا القبيل. النقاد، أو بعضهم في الأقل، هم فاضحو مطاوي النص ونابشو أعماقه وأحشائه. بعضهم طبعاً يقطع النص بمبضع خشن وبعضهم بمبضع مرهف، ولكن في الحالتين هناك تقطيع ودم وأشلاء. لا أعترض على القراءة والتأويل، فمن حق القارئ، ناهيك عن الناقد، أن يقرأ كما يشاء، فقد لا تكون الكتابة عملاً ديموقراطياً، لأن الكاتب يقول شيئاً ويصمت عن شيء آخر، إنه يقرر الخطاب ويعمل من داخل النص، على توجيه تلقّيه، لكني أحسب أن القراءة فعل ديموقراطي. فأنت تبتاع الكتاب وأنت تقرأه في الوقت الذي يناسبك وتصل معه إلى خلاصة ما. لا أعترض على شيء كهذا، فكلنا نفعل ذلك.
ما أعترض عليه هو سوء القراءة. فخري صالح من النقاد الذين تابعوا الجيل الذي أنتمي إليه وهو يعرف، بحسب ظني، معظم ما كتبت، وله كتابات في ذلك. لا بد أنه رأى ما يبرر قوله هذا. الحجة واضحة أيضاً، فهناك عمل كامل مكرس لما هو «إيروتيكي»، أو حسيّ، إنه «سُرَّ من رآكِ». لا يخفي هذا الكتاب خطابه، حتى إنه لا يحتاج إلى تأويل. فهو يقع في تلك المنطقة التي يسهل وصفها بالإيروتيكية. قد يكون هناك توتر ذكوري في لغتي، قد تكون هناك غلمة، ولكن الأمر، في ظني، أبعد من مجرد انفعال أمام لحظة حسية.
أظن أن الكتابة، والفعل البشري عموماً، مسكونان، في العمق، بما هو حسيٌّ، بمحاولة البحث عن طريق للأنثى. ففي ذلك اكتمال لما هو إنساني وبشري. في ذلك، بحسب ظني، تَحقُّقٌ إنساني منشود، بل قد يكون هو التحقق الإنساني، إن لم يكن الفردوس المفقود. ثمة من رأى الرجل والمرأة بوصفهما نصفين مسلوخين بعضهما عن بعض. لا أدري من هو الكاتب الذي قال إن الرجل والمرأة كانا أصلاً جسداً واحداً انشق نصفين راحا يبحثان عن التئامهما. ألم يكن الحسيّ والعضويّ، في المثيولوجيا، هما بداية تكوّن البشرية.
بعضهم يرى هذا التكوّن كامناً في الخطيئة، لكن الأكيد أن في تلك الخطيئة يكمن شوق الالتحام، أو التئام النصفين المفصولين بعضهما عن بعض. فإذا كانت الحياة البشرية بدأت من لقاء رجل بامرأة وطردهما من الجنة على خلفية إقدامهما على الالتحام، فكل فعل بشري لاحق موشوم بتلك البداية.

شاي النكران.. والفقراء أيضاً

* في إحدى مقالاتك في مجلة «عمّان» الثقافية قبل سنوات، تحدثت نوع من النكران بين الكاتب والمثقف الأردني وحياته الاجتماعية، وتحدثت كثيراً عن «الشاي» كمعطى في حياة الأردنيين لم يحاول أيٌّ من الكتاب الأردنيين إدراجه ضمن نص الكتابة الإبداعية، فهل ترى أن هنالك حالة نكران من قبل المثقف الأردني لواقعه الاجتماعي؟

– لم أتحدث عن نكران، بل لعلني قلت إننا لا نلحظ ما يشتغل في متخيّلنا الجماعي من طقسيات ورموز. تحدثت عن الشاي في أكثر مقالة وكتابة بوصفه وسيطاً للأكل والحكي والضيافة وناظماً لحياة الفقراء. إنه كما قلت، ذات مرة، «دم الأردنيين الأحمر القاني». الصباحات لا تكون صباحات إلاَّ به، والأكل الصعب لا يسلس قياده إلا بمزيجه الحلو الذي يعقد الشفاه، وجلسات المصاطب والبرندات في العصاري والمساءات لا تكتمل من دون حضوره بروائحه المخلتفة: النعنع، الميرمية، القرفة.. إلخ.
قد لا يكون للشاي عندنا طقسية تشبه طقسيته في المغرب حيث لا يعدّ الشاي مجرد مشروب يومي يتخلل الأكل والكلام والسهر والضيافة، بل يتعدى ذلك ليشكّل نوعاً من طقس له شروطه وأشكال توزعه الطبقي، وله كذلك صناعة شعبية رائجة وحضور في الشعر الشعبي والفن التشكيلي. وقد اشتغل المثقفون المغاربة على موضوع الشاي بوصفه جزءاً من المتخيل الجماعي والهوية.
في مصر؛ الشاي مهم في الحياة اليومية لعامة المصريين، والقرويين منهم خصوصاً. وللشاي عندهم مراتب في الثقل والخفة. في مقاهينا هناك تراتبية وشيء من الطقسية للشاي. شاي ثقيل. شاي خفيف. شاي بالحليب. شاي بالقرفة والجوز (الإينر). لكن الشاي رغم تخلله تفاصيل يومنا الأردني لم يدخل على ما أظن في الكتابة والبحث. لم نسمع قصيدة تشبه قصيدة عبد الرحمن الأبنودي التي يقول فيها: «كبّاية شاي القهوة (المقهى) غير كبّاية شاي البيت خالص!».
المشروب الذي له طقسية ورمزية خاصة في بلادنا هو القهوة العربية (السادة). ففي تقديمها وشربها تثوي رمزيات ثقافية واجتماعية وأعراف سائدة. هي مشروب الأعراس والمآتم، مشروب «الجاهات» والصلح بين المتخاصمين. شربها أو عدمه يعني الموافقة على شيء أو رفضه. هَزُّ الفنجان له معنى، عدم هزّه له معنى آخر. تحريك الفنجان في العرس غير تحريكه في المأتم. الكلمات التي تقولها بعد شرب القهوة في فرح غير تلك التي تقولها في ترح أو مصاب. تراتبية تقديم القهوة (من الأكبر إلى الأصغر أو من اليمين إلى الشمال) في المضافة والمجالس ليست هي نفسها في حالة أخرى. بأيّ يد تقدمها للضيوف وماذا تفعل باليد الأخرى، وما إلى ذلك من أصول مستقرة في علاقتنا بها. كم مرة في اليوم نشرب هذه القهوة، بهذه المعاني بالضبط، في بلادنا؟ حتماً أكثر من مرة.
لكن مع ذلك، دُلَّني على كتابة (غير الشعر البدوي والفلاحي) تناولت هذا المشروب الذي تفيض منه رموز وينعقد حوله متخيل جماعي موروث. البدواة الفعلية في بلادنا لم تعد موجودة كما كانت عليه من قبل، بقيت عادات البداوة وبعض أوجه ثقافتها وطقسيتها، وفي مقدمتها المعنى الاجتماعي والثقافي للقهوة وطريقة تقديمها.
أحب فعلاً أن أعرف إن كانت هناك كتابة تتناول هذا الأمر. هل هناك في الجامعات الأردنية، وهي بالعشرات، من أعدَّ أطروحة في هذا الشأن؟ قد يكون، ولكني لم أسمع بذلك. وبالعودة إلى موضوع الشاي، لعلني أردت، أنا الذي يحب المقاهي وجلس فيها طويلاً، لفت النظر إلى غيابه في المدونة الثقافية والبحثية في الأردن. لكن بعضهم يظن أن موضوعات الكتابة هي في مكان آخر.

* تنتقل بأناة وذكاء نحو النص الأفقي (على الأقل شكلاً)، ويأخذ النثر (في بعدَيه السردي والدرامي) مساحة واسعة من قصائدك الأخيرة. هل هي تمارين أولية لكتابة الرواية كما فعل أقران شعريون كثيرون من أبناء جيلك وأجيال إبداعية عربية أخرى؟

– تحدثت عن السرد، أو هذه الكتابة الأفقية، وقلت إنها صارت تقريباً الطابع الأبرز لكتابتي. عندي ما يشبه اليقين الداخلي، غير المفزع، أنني غير قادر على الكتابة مثلما فعلت في أعمالي الأولى وصولاً إلى «مرتقى الأنفاس». صارت الكتابة عندي منبسطة ونثرية وتذهب في السرد والحكي المتقطعين.
كنت من قبل أكتب على خطين متوازيين: خط القصيدة وخط كتابة الأمكنة. الخطان المتوازيان اللذان لا يلتقيان كسكة القطار قد يلتقيان في الأدب. ما حصل هو أن هذين الخطين تداخلا حتى صار من الصعب التفريق بينهما. هكذا لم أعد أفصل الشعر عن النثر، ما هو مجازي عما هو تقريري ووظيفي.
المثال الأوضح على ما أقول هو العمل الذي كتبته في إطار مشروع التفرغ الإبداعي الثقافي الأردني. كنت أرغب في اقتفاء أثر الأشياء التي تغيرت أو تبددت في محيطي العائلي، وأبعد في حياة الصحراء الأردنية. لم أقل في تقديمي للمشروع إنه شعر، أي قصائد منفردة، بل قلت إنه مزيج من الشعر والنثر والسرد، الواقع والخيال، الحكايات التي حصلت وتلك التي لم تحصل قط. كان عندي تصور مسبق لشكل العمل وهندسته ومضمونه، ولكني اكتشفت أثناء الكتابة أن العنوان لا يفي بما صارت تنحو إليه الكتابة، هكذا أسميته «فرصة ثانية»، لأنه
يشكل ما يشبه الفرصة الثانية التي تُعطى للمرء فيعود لرؤية ما فاته أن يراه في المرة الأولى، أو لعل الأمر هو بمثابة تمني حصول معجزة الفرصة الثانية التي نقول لأنفسنا إننا لو أُعطيت لنا لفعلنا كذا وكيت.
العمل مركّب وذو شكل يصعب تصنيفه. ففيه من قصيدة النثر، بالشكل الذي صرت أكتبه، بقدر ما فيه من كتابة المكان ولكن على نحو مختلف عما فعلت في كتبي السابقة. فالكتابة هنا ليست معرفية صرف، الجملة نفسها إيقاعية قصيرة متدفقة لاهثة في موضع، ومسترخية بطيئة وطويلة في موضع آخر.
هذا الكتاب من كتبي القليلة التي شعرت بشيء من السرور أثناء كتابته، كما أن هناك مشروعاً لعملٍ يذهب فيه السرد الى الحكاية الفعلية، وهذا شيء يشبه الرواية، رغم أنني من الذين يقولون بوجود أشكال مختلفة للرواية بينها رواية الواقع أو الحقيقة كما هو الأمر مع الكتابات التي تتناول الأمكنة وما يعتمل فيها من صراعات وأحداث، ففي ظني أن الرواية بشكلها الحكائي المتداول قد استُنفدت، وهي أصلاً مستنفَدة في بلدان الرواية الأولى. هناك رواية أخرى غير قَصّ حكاية مختلَقة عن شخوص مختلَقين.

 قاص وصحفي من الأردن

( الرأي الثقافي )

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *