فاروق يوسف *
كنتُ قد وصلتُ الى القرية بالحافلة المتهالكة منتصف النهار. كان الاضطراب واضحا على وجوه الواقفين في انتظار المسافرين. ما أن ترجلنا من الحافلة حتى بدأت الجملة تتقافز مثل فتات حبز يلقى لحمام غير مرئي.
‘ورث حتفه قبل أن يرث بيته’ ‘لو أنه تأخر في الحانة قليلا لأفلت من الموت’ بعد ذلك عرفت أن قطارا دهس رجلا كان قد بنى كوخه على سكة القطار. أما لماذا بنى الرجل كوخه على السكة؟ فلأن القطار كان قد توقف عن المرور بالقرية منذ أربعين سنة. ألم يجد الرجل مكانا آخر يبني فيه كوخه سوى ذلك المكان الذي يقع على سكة القطار؟ لو أنه ابتعد بكوخه مترا على اليمين، على اليسار. من الصعب العثور على أجوبة منطقية وسط جمهور وجد في الحادثة مناسبة للإعلان عن وجوده. كانت الأصوات تتصادم، تتقاطع في ما بينها، يمحو بعضها البعض الآخر. غير أن اذني التقطت كلمة نبوءة وهي تتكرر على أكثر من لسان. خشنة وناعمة كانت تنزلق إلى روحي. لكن ما صدمني أن أحدا ما لم يكلف نفسه عناء البحث عن أشلاء جثة ذلك الرجل الذي دهسه القطار. ولأني لم أكن أعرف أحدا في القرية، وما من أحد بين الواقفين يبدو مستعدا للاهتمام بسؤال من نوع ‘أين يقع أقرب الفنادق؟’ فقد قررت المضي بعيدا عن الجمع وعن الحافلة، لأهتدي بنفسي إلى ضالتي.
ما أن غادرت المحطة، وهي عبارة عن أرض خاوية، حتى وجدت نفسي وسط حي شعبي، كان أطفاله يلعبون الكرة في الشارع، فيما جلست نسوة على كراس متشابهة من القش. امرأة هنا، امرأتان هناك. ثلاث صرن ينظرن إلي. كنت في شبابي أجيد تمثيل دور الغريب، بل اتماهى معه إلى درجة البلاهة. تناهت إلى سمعي كلمات رقيقة. اهتز لها جناح في أعماقي. فابطأت من مشيتي وصرت أتغنج، غير أني ما أن تذكرت المهمة التي جئت من أجلها حتى انصعت إلى صرامة صوت أبي الذي انبعث من داخلي ‘اعتمد عليك’ أسرعت في سيري وأنا اتلفت بحثا عن كلمة (فندق). سلمني ذلك الحي لمحطة تعبئة وقود، كانت نظيفة، كما لو أنها لم تستعمل إلا قليلا. قالت لي المرأة البدينة التي ظهرت فجأة من مكان مجهول ‘لا يبدو على مظهرك أنك في حاجة إلى وقود. فأنت لا تحمل بيدك إلا حقيبة. هل ترغب في أن أملأ حقيبتك بنزينا او نفطا أبيض؟’ ابتسمت لظرفها وقلت لها ‘ انا أبحث عن فندق’، ‘في هذه القرية لا فنادق’. القيت حقيبتي التي لم تكن ثقيلة على الأرض وصرت اتلفت يمينا ويسارا. بين لفتة وأخرى كنت أعود إلى عينيها يائسا. ‘لا تفعل ذلك ارجوك. أنا أكره اليتامى’ قالت ثم أضافت ‘لدي غرفة في شقتي. هناك فوق المحطة. يمكنني أن أؤجرها لك لليلة واحدة. ولكن عليك أن تحذر التفكير بأشياء أخرى. لا جنس. صديقي يغار علي إلى درجة قد تدفعه إلى قتل من يسمعني كلمة غزل واحدة’، كانت عيناي مصوبتين إلى بطنها فيما كانت تدق مسامير كلامها في أذني.
ولأني كنت متعبا، وبي حاجة عظيمة إلى النوم، فقد وافقت على أن أدفع لها مئتي بيزو، لقاء قضاء ليلة واحدة في تلك الغرفة. لحظتها اكتشفت أنني قد أخطأت. لقد رأيت في عيني المرأة نظرة ارتياب وشك. مددت يدي في جيبي وأخرجت المبلغ ودفعته لها. غير أن النظرة لم تتبدل، بل اتسعت. مشت المرأة فمشيتُ وراءها حاملا حقيبتي. فتحت المرأة بابا، رأيت سلما ضيقا. ارتقيناه. هي بخفة وأنا بصعوبة. كانت هناك غرفة معيشة بأثاث رث. أريكة قديمة، تلفزيون مكعب، أزهار بلاستيكية، سجادة مهترئة. كان هناك بابان. احدهما كان مفتوحا وهو كما بدا لي يؤدي الى غرفة السيدة والآخر كان مغلقا. فتحت السيدة الباب المغلق وقالت ‘هي ذي غرفتك لليلة واحدة. يمكنك النوم إلى الساعة الحادية عشرة صباحا. بعدها تغادر. ستجد كوب قهوة وخبزا في المطبخ إن أردت أن تفطر’.
من حسن حظي أنني كنت متعبا. لم يكن ليهمني أن امعن النظر في الغرفة. لقد عثرت على سرير. ما أن وضعت رأسي على المخدة حتى غفوت. نمت عميقا. حين استيقظت كانت الساعة لا تزال في معصمي. الساعة السابعة مساء وكنت أشعر بالجوع. قلت لنفسي بعد أن وجدت مفتاحا ملقى على منضدة تقع قرب السرير ‘سأغادر الشقة بحثا عن مطعم ومن ثم أعود’. في الحانة الوحيدة التي عثرت عليها كان القرويون يتحدثون في وقت واحد وبصوت مرتفع. كانوا ديكة تتصارع. لم يكن هناك ما يدعوني إلى متابعة حوارهم المتشنج. كنت على موعد صباح غد مع رجل سيسلمني الجزء المتبقي من ثروة أبي. ولكن ما اثار رعبي أن اسم ذلك الرجل صار يتردد بين حين وآخر في ثرثرة أولئك القرويين. البرتو مانويل. قلت لنفس ‘تشابه أسماء’ شربت الجعة وأكلت أصابع البطاطا ونهضت من مكاني.
وصلت الى محطة تعبئة الوقود وفتحت الباب ومن ثم ارتقيت السلم بهدوء. كانت الساعة في معصمي تشير الى العاشرة. كانت هناك أصوات شجار. يبدو أن صديق المرأة البدينة كان قد حضر في غيابي. دخلتُ الى غرفتي وأبقيت الباب مفتوحا. سمعت صوتها وكانت تصرخ ‘قتلته وهدمت كوخه. هؤلاء القرويون السذج صدقوا حكايتك عن القطار. ولكن الشرطة ستأتي غدا وينفضح كل شيء. أين سنخفي كل هذه النقود؟’ قال لها الرجل بصوت هادىء ‘لا تهتمي. لم أقتله. البرتو هرب بعد أن أخبرني أن ابن الرجل الذي اودع لديه المبلغ سيأتي صباح الغد. وهكذا دبرنا الحادثة لنتقاسم المبلغ’، وهنا أدركت أن الأموال التي جئت من أجلها قد نهبت. تذكرت أن أبي قد تنبأ لي بأني سأكون قاتلا. نظرت إلى حقيبتي الصغيرة بأشفاق وفتحتها. كان هناك مسدس محشو بالطلقات. حملته ومشيت إلى الغرفة المجاورة. حين أطلقت الرصاصة الأولى على الرجل سقط على الأرض وهو يتلوى ثم همد. ظلت المرأة تنظر إلي بتوسل وهي تردد ‘خذ المئتي بيزو وأهرب’ لم يكن في فمي غير جملة واحدة ‘ايتها العاهرة’ قلتها وانا أطلق الرصاص عليها.
صمت الرجل. كنا نجلس في مقهى يقع على قناة الامراء في امستردام. قال بعد دقائق وقد اكتشف أني صرت أنظر إليه بخوف ‘كان القتل يومها مباحا في الارجنتين. لا أحد يسأل مَن قتل مَن؟ ومع ذلك فقد حملت المبلغ معي وجئت إلى هولندا لاجئا. لقد قلت لهم أني شيوعي وصدقوني’. ‘وهل تصدق نفسك؟’ سألته يائسا. هز رأسه منفعلا ‘حين يُخبرني أحدهم بانه شيوعي ارجنتيني، أضحك في أعماقي. وأقول لنفسي أن ذلك الشخص اما أن يكون ساذجا أو لصا’. حين وقفت وكنت أنوي مغادرة المقهى وضع الرجل يده على يدي وقال ‘لم أكمل الحكاية’ نظرت إليه باستفهام صامت فقال ‘لقد عرفت في ما بعد أن الشرطة قبضت على البرتو مانويل وحُكم عليه بالسجن بتهمة قتل صاحبة محطة تعبئة الوقود وعشيقها. كان الحكم عادلا كما أظن. لقد ذهب الجميع إلى الجحيم’ .
* ناقد وفنان عراقي
( القدس العربي )