* محمد شوقي الزين
( ثقافات )
مقدّمة:
في زيارة خاطفة للمعرض الدولي للكتاب بالجزائر العاصمة التقيت بالعديد من الكُتّاب والروائيين، ومن بينهم سمير قسيمي الذي أهداني روايته «الحالم» (منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم، 2012). شخص أنيق والابتسامة لا تغادره، في استنفار دائم للإجابة عن سؤال أو التواصل بالقارئ، الرؤية مسافرة عبر العناوين وتجاه الوافدين بالاستقبال والذاهبين بالشكر والامتنان. لكن يحمل هذا الإسم “السرّ” الذي وُجد معه ووُلد عليه وهذا منطلق دخولي على روايته “المرآوية”، دخول حذر، لأنّ في أول قراءة تنزلق الأقدام على أرضية كلها مرايا تعكس القارئ لتزجّ به في متاهة من التساؤل: من يكتب لمن؟ هل الروائي كتب بإلهام الشخصية الروائية؟ لكن يبدو أنّ سمير قسيمي يذهب دائماً عكس الرياح والسيول بحكم تلك “العاكسة” الكونية التي هي المرآة: فالشخصية الروائية هي التي تكتب على لسان صانعها. من الصعب الدخول على الرواية برؤية الفيلسوف، لكن رواية سمير قسيمي هي من المتعة والتشعّب ما يصيب القارئ بالدُوار، يدور على رحى شيء وجده الآن ليفتقده على التوّ، ليجده بعد قليل ثم يفتقده أيضاً، لأنّه بحضرة المرآة التي تصاحبه وتعكسه وتضاعف من شخصه ومن الأشياء المحيطة به. أقول من الصعب الدخول عليها من وجهة نظر الفيلسوف، لكن يجد فيها الفيلسوف مادّة للتفكير ولرسم ملامح حياة بشرية هي حُبلى بالتناقض في الظاهر والانسجام في الباطن. شيء غريب في الرواية وكأنّها عبارة عن “وحدة الوجود الروائية” حيث الكاتب والشخص الروائي والقارئ شيء واحد لكن بمرايا متقابلة. فهي تهدّم الحدود المفروضة بين العوالم المتماسّة وكأنّ لسان حالها «هو لا هو». علينا أن نستحضر «هو لا هو» كمرآة، “الهو” الأول واقعي، و”الهو” الثاني مجازي أو مرآوي والفاصل بينهما أداة تفيد في الوقت نفسه النفي والإيجاب وهي المرآة ذاتها. هدم الحدود المفروضة هو نقض الهندسة الإقليدية ومبدأ عدم التناقض، وفي الرواية عناصر من هذا التجاوز للهويات نحو “وحدة وجود” دفينة.
في قراءتي لهذه الرواية حاولتُ التركيز على بعض المبادئ “الباروكية” البارزة فيها وسأفسّر لاحقاً المقصود بالباروك Baroque الذي لا أستعمله كمرحلة تاريخية من الفنّ الإيطالي في الفترة الممتدّة بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، ولكن كقيمة فكرية ومفهومية أسوة بما كتبه جيل دولوز في كتابه «الطيّة: ليبنتز والباروك» (مينوي، 1988). كما حاولتُ التركيز على سحرية “الإسم العَلَم» وكم يذكّرني سمير قسيمي بالعارف الأندلسي عبد الحقّ ابن سبعين الذي جعل من اسمه المنطلق لفلسفته في “التحقيق” (عبد الحق) والطريقة السبعينية (ابن سبعين)، وهي خاصيّة باروكية بامتياز، أن يستنبط الإنسان فلسفة أو فكرة من اسمه، لأنّه في الوضعية المرآوية، ليس بحكم الضرورة النرجسية التي تمثّلها رمزية المرآة، ولكن بحكم هذه “الوحدة الوجودية” التي أتحدّث عنها حيث الكاتب هو نفسه الشخص الروائي لكن بفاصل تُبرزه القيمة الأنطولوجية لفكرة «هو لا هو». وتحمل المرآة أيضاً قيمة “المقلوب” لأنّ من يرى نفسه في المرآة ويرفع يده اليمنى، فإنّها اليدّ اليسرى، وهي نظرية مرآوية عجيبة ومدوّخة يشرحها في الفصل الرابع على لسان شخصه الروائي (ص 68). واسم العَلَم مقلوب بشكل مبهم ومرآوي في هذه الرواية: «ريماس إيمي ساك». بقلب هذا الإسم نتحصّل على «سامير كاسيمي». المرآوية بارزة بشكل مدوٍّ: سمير/ريماس؛ كاسيمي/إيمي ساك: «قرأت فيها اسم “ريماس إيمي ساك” على المرآة مقلوباً» (ص 125). الإسم عربي ولكن النُطق إفرنجي لأنّ هناك الالتباس حول هوية كاتب الرواية: هل هو جزائري أم فرنسي؟ هنا أيضاً، وبذكاء مرآوي وشُعلة ذهنية، محاولة هدم الحدود بين المشكلات المختلقة والمصطنعة، الهشّة في جوهرها ومحورها، حول المعرَّب والمفرنَس في أزمنة لم تعد تتشبّث بالهوية القاتلة للذكاء البشري: «كنت أترجم من اللغتين العربية والفرنسية وإليهما أيضاً» (ص 133).
هندسة الرواية ومتاهة الغواية:
لنلتفت إلى هذه المرآوية العجيبة: «أخذ يحدّق في مرآة يد صغيرة كانت لحظتها على مكتبه» (ص 37) ثم يربط الإدمان على المرآة خلال أربع سنوات بصدور ثلاثين رواية «وهو أمر أدمنه منذ أزيد من أربع سنوات، تماماً بعد صدور روايته الثلاثين»؛ إنّنا في الحضرة المرآوية، فتنعدم الأمكنة والأزمنة على شاكلة قول الصاحب بن عبّاد:
«رقّ الزجاج ورقّت الخمر
وتشابها فتشاكل الأمر،
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر» [الديوان، شعر 54، ص 176].
فإنّ ما نفتقده هنا نجده هناك، وعندما نصل هناك لنجده نفتقده من جديد: «إنه حين ينظر إلى هنا لا ينظر حقيقة إلى هنا» (ص 69). في حضرة «هو لا هو» هناك النفي والإيجاب، الحيرة والدوخة، فلا هو الكاتب إذن ولا هو الشخص الروائي لأنهما معاً: «أتقصد أننا واحد أنا وأنت؟» (ص 94)، لكن بفاصل مرآوي لا ينفكّ عن مضاعفتهما: «فكرتُ في عدد الأشكال المحتملة في الصورة، فخلصتُ إلى أنه لانهائي، ولكنه في النهاية لن يؤول إلا إلى الواحد» (ص 104). فالوحدة الوجودية هي كثرة معقولة ووحدة مشهودة، فيتعقّل الكثرة ويرى الواحد، أو العكس، كالانعكاس المرآوي ذاته، يتعقّل الوحدة ويرى الكثرة. هناك وحدة أصلية لكن بفارق مرآوي عزيز المنال لأنّه غائر الأسرار: «كان يظهر ويختفي وأحياناً يتقمصني وأتقمصه بالكامل، ولكنه مع نفسي كان يُبقي على المسافة التي عادةً ما تكون بين الوجه والقناع» (ص 165). كذلك “الأربع” سنوات المضاف إليها “الثلاثين” رواية لها علاقة بسنّ “ريماس إيمي ساك” الإبداعي القائل من قبل: «إنه يوم ذكرى ميلاده الأربعة والثلاثين، والذي لم يكن بالمناسبة اليوم الذي خرج فيه من رُحم أمّه، بل الذي انتهى فيه من كتابة أولى رواياته» (ص 37). وسنصادف من جديد هذه “الثلاثين” في اسم المقهى: «يعيش لوحده في شقة لم يعد يعرف منها إلا غرفة مكتبه المطلّة على زقاق من غير منفذ، ينتهي بمقهى اسمها “ثلاثون”..» (ص 38)؛ وأيضاً «ثلاثون سنة من الخدمة [في المقهى]» (ص 50)، وثلاثون طاولة في المقهى (ص 53) مضافاً إليها أخرى؛ ثم الأربع سنوات المصاحبة لها: «ما قاساه من ضجر ووحدة في السنوات الأربع الأخيرة» (ص 54)، «هذه أربع سنوات لا عمل لديّ إلا محادثة نفسي» (ص 57)، و«فمنذ أربعة أعوام وأنا أحاول أن أبدأ» (ص 105).
ويعود الإسم في أدق التفاصيل لأنّ الأشياء والأفعال هي مسميّات على شاكلة «وعلّم آدم الأسماء كلّها» (البقرة، 31). هناك “تقسيم” نابع من الاسم “قسيمي”، تقسيم يطال فصول الرواية (ص 41) ومداخل الذهن التي هي الأخرى عاكسة لمظاهر الوجود: «جعل من ذاكرته سكناً مقسّماً إلى ثلاث غرف» (ص 46). التقسيم في الوجدان هو انعكاس للتقسيم في العيان، ولم ينفكّ قسيمي عن حمل هذا التقسيم في الاسم كما في الرسم، في البيان كما في العيان، في الوجدان كما في البرهان. التقسيم الخيالي للذاكرة ما هو سوى التقسيم الهندسي للمكان بحكم الانعكاس بين الواقع والذهن لكن في تميّز يجعل الذهن في إرجاء بالمقارنة مع الواقع (محو الذاكرة، فقدان الأنصاف..). وقسيمي الذي يقسّم (بتشديد السين) هو قسيمي الذي يُقسم (بسكون القاف): «وكأنك رأيت شبحاً للتوّ؟ لقد كان كذلك. أقسم إنه كذلك» (ص 69)، على شاكلة «كأنه هو» (النمل، 42) في الإجابة البلقيسية على العرش السليماني: «وكأنه الأزل» (ص 288)؛ «أكاد أقسم أنه هو من كان يحدّث أمي بشأنها» (ص 311). المرآوية هي ما أجازف بنعته بكلمة «كأنهية»: « كأنّه» يجمع ويفصل، الواصل/الفاصل لأنّه الحدّ، الحادّ والمحتدّ، بين الواقع والطيف، بين الشخص والتجلّي. «كأنّه» يستجيب لإيقاع «هو لا هو»: «إنه يا صديقي عالم يجعلك مرئياً وغير مرئي، ظاهر وغير ظاهر في الوقت نفسه» (ص 68). ويحيل القَسَم والتقسيم إلى هذا الفاصل/الواصل بين عوالم تتجاذب بمغنطة عجيبة ولكن تقاومها بتميّز راديكالي. التقسيم هو مؤسسة رمزية منذ بدء الخليقة كما تعبّر عنه الكلمة الإغريقية “سُمبولون” sumbolon والتي انحدر منها “الرمز” في اللسان الفرنسي symbole. تعني الكلمة حرفياً «تقسيم شيء إلى نصفين متساويين» يعبّران في الوقت نفسه عن الهوية والاختلاف، التماثل والتفارق، لأنّ النصف والنصف الآخر هما في وضعية «هو لا هو»، في حالة «كأنّهية»: كأنّ النصف مشابه للنصف الآخر على غرار التوأمين، لكن دائماً بكاف التشبيه التي هي أيضاً كاف الالتباس والتنبيه.
لا يفارقنا هذا الرمز النصفي عبر الرواية: نصف بارز ونصف خفيّ، ولربّما كانت حقيقة الأشياء هي بالتعريف “نصفية”: نصف مرئي ونصف غائر عبّر عنها التاريخ الفكري البشري بمقولات الظاهر/الباطن، الحرب/السلم، الشعور/اللاشعور، الخبر/السرّ، الكلام/الصمت. بل ويذهب الفيزيائي جون بيير بوتي Jean-Pierre Petit إلى الاعتقاد بأنّنا فقدنا نصف الكون، لأنّه نصف خفيّ يفلت من أجهزتنا في الرصد والتخمين كما يخفى علينا النصف القمري (عن كتابه «لقد فقدنا نصف الكون»، باريس، منشورات هاشيت، 1997). ولأنّ العقل البشري نفسه “نصفي” البنية: يُظهر ويُبطن، يُبرز ويحجب حسب السياقات والمواطن: «حياة ظاهرة وباطنة في آن واحد» (ص 151)، فيها اللفّ والدوران والمراوغة: «كنّ يبتكرن في كل مرّة قصّة غرام مختلفة، إلا أنهنّ كنّ يحسنّ تنميقها بحيث يجعلن أمر تصديقها مسألة وقت لا أكثر» (ص 313) لأنّ الإيهام يقتضي إبراز الباطل كحقّ أو الزائف كحقيقي تماماً مثل العُملة النقدية المزيّفة؛ وفيها الالتواء والتعريج بحكم تلك الطيّة التي تجمع الداني والقاصي كالكتاب الذي نغلقه فيتّحد أقصى يمينه بأقصى يساره: «كطيّ السجلّ للكتاب» (الأنبياء، 104)، لأنّ المسألة هي دائرية تتّحد فيها نقطة البداية بنقطة النهاية والبداية هي عينها النهاية «كما بدأنا أوّل خلق نعيده» (الآية). الباروك هو دائري بالتعريف بوجود الأقواس والدوائر والانعراج المفتوح على اللانهاية: «كان يمكنها أن تشعر بالارتخاء، لولا أنّ خط الزمن المتمدّد إلى أقصاه تقوّس من جديد، كالكون لحظة الانتهاء، ليعود أدراجه ويعيدها إلى حاضرها المتعب بالانتظار» (ص 229).
نتفاجأ في كل مرّة بالمرآوية المدوّخة التي تدفعنا دائماً لنرى مقلوبات الأشياء أو بالأحرى ننقلب على وجوهنا فنمشي على الرؤوس والأقدام في السماء. فها هو يتحدّث من جديد عن “غياب النصف” بعدما فقد عينه في حادث مروّع. فهو لا يرى أنصاف الأشياء إلا بوجود مرايا عاكسة تُبرز له ما خفي على عينه الأخرى. لكنه يلج في المرآة «منطقة وسطى بين عالمين» (ص 312) ويشغل الحيّز الذي يختفي فيه من أعين الناس وهو يراهم: «يرى الجميع من غير أن يلاحظه أحد» (ص 313). يطبّق المبدأ البانوبسي أو البانوبتيكي Panopticon الذي ابتكره جيريمي بنثام في الهندسة السجنية حيث يتواجد الحارس في مركز يخفى عن الأنظار، يرى المساجين ولا يرونه، لأنّ هذه الهندسة البانوبسية هي مرآوية في هيكلها. وتعني الكلمة حرفياً «الرؤية» (opticon) «الحلولية» (pan)، فهي رؤية شاملة ترى كل شيء ولا تخفى عنها خافية. لكن لا يمكن أن تكون هذه الرؤية الحلولية بشرية، بل هي رؤية إلهية يندمج في حاضرها الماضي والمستقبل ومشارق الأمكنة ومغاربها. فهي بؤرة تستقطب كليّة الوجود وهو أمر محظور على الإنسان سوى بضرب من الخيال: «كانت قصّة سريعة بحيث يستحيل على الرائي القبض عليها بمشاهدة واحدة» (ص 287)؛ ولا يمكنه ذلك سوى بأن يحدّد نقاطاً في اللوحة الجامعة يستطيع بموجبها تحديد أبعاد ما يرى: «كنتُ أتأملها حتى خطر على بالي أنني قد أحتاج لفهمها إلى معلم ثابت لا بدّ وأن يكون مرسوماً عليها في مكان ما» (ص 287). يجيب الكاردينال نيكولا الكوسي (1401-1464) على سمير قسيمي بتجربة مثيرة في كتابه «اللوحة أو رؤية الله» (1453) حيث إذا رأينا لوحة عليها وجه يحدق بعينيه نحونا، فإنّه لا ينفكّ عن رؤيتنا مهما غيّرنا من مواقعنا، على اليمين أو على اليسار، في الفوق أو من التحت، سواء كنّا فرداً واحداً أو عدّة أفراد، سواء تنقّل فرد من اليمين إلى اليسار في الوقت نفسه الذي ينتقل فيه فرد آخر من اليسار إلى اليمين ويريان في اللحظة نفسها ذلك الوجه المحدق؛ فإنه لا ينفك عن رؤية كل رؤية تراه، مهما تحرّكت ومهما تعدّدت وتنوّعت. إنّ غرض الكوسي هو تبيان العين الحلولية لإله مفارق بالاعتماد على تجربة حسّية استقاها من الفنّ. الغرض هو تبيان أنّ الرؤية الشاملة هي رؤية إلهية بامتياز، ولا يمكن للإنسان، حبيس الحيّز الزماني والمكاني أن تكون له رؤية كونية سوى بضرب من الادّعاء أو الكبرياء أو البهتان أو الجنون. لا بدّ أن يحدّد لذاته معالم في اللوحة أو نقاط في المشهد تلمّ شمل نظره الباهت والتائه. لهذا السبب كانت الرؤية الإنسانية التي تلامس الرؤية الإلهية هي رؤية جنونية بالمعنى الإيجابي لكلمة “الجنّ” القريبة من العبقري génie (التي تشمل النبيّ أو الملهَم أو العالم والحكيم) وسليلة الكلمة الإغريقية “جينان” (gennan) ومعناه “المختفي” كالاختفاء وراء المرآة؛ وبالمعنى السلبي لكلمة “الجنّ” التي هي كبرياء وغرور وغطرسة تؤول إلى السحق والمحق وتجليّاتها السياسية هي الحكم المطلَق والمطبَق.
يُبرز قسيمي انتماءه إلى النصف المتواري، الصنف الخفيّ والصامت، لأنّه في الضفّة الأخرى من المرآة، غير مرئي، في «وطن اللامرئيين» (ص 313). هؤلاء الصامتون والقابعون خلف الستائر والمرايا، هم الأكثر فعلاً وتفاعلاً مع وطن تحوّلت فيه النخبة إلى آلهة مستعِرة ومستعارَة، ذات الرؤية الحادّة كرؤية النسور، رؤية جنونية ونرجسية، في علاقة دائرية تستلذّ بانعطافها على ذاتها في 380 درجة من التحديق والتلصّص: «منذ ولادتي وأنا كائن لامرئي بامتياز» (ص 313) كالعديد من الذوات المنتمية إلى وطن خفيّ، كاختفاء النصف القمري، وطن الأغلبية الصامتة، التي تُصبح مرئية يوم الاقتراع ولها نسيان وهجران لمدّة 364 على مدار العام الدائري؛ يوم تشعّ فيه شمس الأغلبية بكل أنوارها وتختفي وراء غيوم تسود كالأسود الحالك على مدار السنة. إنّ فقدان الأنصاف أصاب “العين” بالمعنى المزدوج: حاسّته البصرية وجوهره الإنساني، ففقد المرآة وفقد المرأة: فقد نصف ما يراه في المرآة، وفقد نصف حياته: «في تلك السنة توفيت زوجته وهجرته ابنته صديقته الوحيدة» (ص 38). ويشير بانهمام على لسان شخوصه الروائية إلى “الرأس” الذي قسّم فيه غرفاً ودروباً عاكسة للواقع: «حفظته في رأسي»، «كل ما في رأسي»، «تهاوت على رأسي» (ص 44)، «كان يفعل ذلك حقيقة في رأسي» (ص 45)، «النص المنقوش في رأسه» (ص 46). وهذه الإشارة المكثّفة للرأس تتواقت مع الالتقاء بجميلة “بوراس”. فيتوهّج الإسم نوراً أو لنقل بأنّه ينعكس على المرايا فتضاعفه إلى اللانهاية: «فلا بدّ أن يكون هو صاحب هذا النص الذي نُسخ في رأسه ملايير المرّات» (ص 41). ويواصل الرأس في الانعكاس بين الفصول «كان النادل يتساءل داخل رأسه» (ص 56)، «ثمة أسئلة كثيرة احتشدت داخل رأسه لأزيد من أربع سنوات» (ص 60)، «يتجاهل ملايين الأسئلة التي ملأت رأسه» (ص 63).
تأتي الفصول اللاحقة لتُبرز ملامح الملاحم السابقة عبر المقولة المرعبة “الاستحالة” التي تتكرّر دائماً بحكم ذلك الانعكاس المرآوي: «يكاد الأمر أن يكون مستحيلاً»، «تراءت في تجويفه أسنان تشبه في بياضها الصلاح: “مستحيل”» (ص 51)، «هذا أمر مستحيل» (ص 52)، «لم تعد مسائل مستحيلة بالنسبة لي» (ص 53)، «جعلت من فعل الكتابة أمراً مستحيلاً..» (ص 60)، «مدركاً بأنّ ذلك مستحيل» (ص 143). تأتي الاستحالة أيضاً على صيغة ما قمتُ بتسميته «هو لا هو». فهي مقولة مرآوية تقول الشيء وعكسه أو بالأحرى الشيء وانعكاسه، لأنّ الاستحالة تضمر في جوفها “المحال” و”التحوّل”. يردّد العامل في المقهى استحالة “المحال”، فهو لا يصدّق؛ بينما يردّد الزبون استحالة “التحوّل”، بأنّ الأمور تبدّلت خلال الثلاثين سنة، وليس الزبون سوى صاحب المقهى جاء ليُشاهد التحوّل الطارئ على الأمكنة والأزمنة رغم ثبوت الأشياء التي تحتويها (ثلاثون طاولة). ثمة حوار عنيف بين حدّين نقيضين أحدهما ينفي لأنها استحالة والآخر يؤكّد لأنه يقصد التحوّل: «كنتُ أشعر بروحين تتعاركان في ساحة نصّه» (ص 140). ويبدو الانتقال من الاستحالة إلى التحوّل أمراً مريباً ومحفوفاً بالشكوك والخواطر والمخاطر، ولكن هذا الكائن المصاب بالعمى النصفي أبى إلا أن «يفقأ عين حسن الظنّ» ويخرج إلى الوجود ويجيب عن الأسئلة ويأخذ زمام أموره بيده. لكن محو الذاكرة وحوام أطياف الموت واقتحام الرسائل في حياته جعلته يكتفي بالحياة دون الإبداع المصاحب لها، دفعته لأن يحتفظ بالسرّ ليجعله أقرب من الموت، أي سرّ مقبور في الخُلد يبتغي به الخلود.
لم يتسنَّ له سوى رؤية شبحه في المرآة لأنّ الانعكاس لا يغادره والانعكاس في المرايا هو أن يعكس الأسماء والمسميّات ويراها بالمقلوب وبعين القلب بالمعنى المزدوج: قلب التقلّب (الاستحالة والتحوّل) وقلب اللبّ (السرّ ومغزى الحياة). وحتى عنوان الإيميل الذي تلقّاه بدا له عاكساً ومعكوساً: telfer ليس سوى مقلوب reflet أي الانعكاس في المرآة (ص 126). وتبعاً لبداهة «هو لا هو» الملتبسة، «علّمته التجربة أن لكل واحد بصمة كتابية تختلف عن بصمة سواه، بحيث ومهما بدا الكلام متشابهاً، فإنه يختلف في ألفاظه وفي طرائق بناء جمله وحتى بين سطوره آثاراً تختلف من واحد إلى آخر» (ص 64). كذلك في حديثه عن نصفه المفقود: «ربما تكون ميتة [يقصد زوجته] ولكن ذكراها ورائحتها بقيتا معي» (ص 106)، فالمرأة هي في وضعية المرآة، تعكس شيئاً مفقوداً/موجوداً في شكل “أثر” بالمعنى الذي أشكله دريدا وأشكل عليه، لأنّ الأثر يقول الشيء وعدمه، الموجود وما فُقد منه، مثل المعلم التذكاري الذي يستقطب، في الوقت نفسه، الصور الماضية التي تلامس الخيال والصورة الحاضرة التي تراها عين الشهود. فالأثر هو “كأنهي” بالضرورة، ورسمه أنّه يؤثّر حسّياً بالجرح الناتئ على الجسد أو ذهنياً بالجرح البادي على النفس. فالإنسان يتأثّر لأنّ الأثر جاء ليلتصق به، في حسّه أو وجدانه، تاركاً علامة سعيدة أو تعيسة حسب ضرورة الوقت أو عنف اللحظة. لأنّ الأثر له بالتدوين علاقة مروّعة: «الأثر، هذا ما كنتُ في النهاية أبحث عنه حين بدأت الكتابة» (ص 281). الأثر هو تدوين الحرف على الورقة أو القانون على السلوك أو العنف على الجسد. فمتى كان الأثر كانت العلامة كتلك التي يحملها الجلد من فرط التعذيب أو الجسد من وطأة السنين في العمل. الأثر هو للكتابة على الجسد بمداد الأقلام أو بوخز القهر، بدءً من شهادة الميلاد وحتى إمضاء شهادة الوفاة مروراً بصكّ الانتماء الثقافي والديني عبر الختان وتثبيت عقد القران. بين المبتدأ والمنتهى ينعطف القوس وتنغلق الدائرة.
صدى الباروك وارتباك المعنى:
جوهر الباروك هو “الحلم”، ولم يخطئ سمير قسيمي في عنونة روايته بالحالم. الحياة هي حلم، الوجود هو حلم: هذا ما يؤسّس جوهر الفكر الباروكي الذي، قبل أن يصبح حقيقة تاريخية متجسّدة في الفنّ والمعمار والموسيقى، كان حقيقة أنطولوجية بارزة خصوصاً عند أصحاب العرفان مثل ابن عربي القائل بأنّ الوجود كله خيال في خيال أو أيضاً ابن سبعين الذي جعل من الوجود وهماً لا يقوم بذاته: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا» يقول الخبر؛ «سيكون الأمر ممتعاً ورائعاً لو تمكن أن يعيش خيالين في نفس الوقت.. خيال داخل خيال» (ص 116) يكتب قسيمي، فيكون التداخل على غرار الدمى الروسية. لقد سبق لكل واحد منّا، على الأقل مرّة في حياته، أن لاحظ معماراً باروكياً مثل بعض كنائس روما أو أقرب منّا في الجزائر أوبرا وهران ذات المعمار الباروكي الخلاّب، فتبدو الأشكال غريبة وملتوية، في وضعية متحرّكة تصدم الوعي أو تدهش العين. يمكن تلخيص المبادئ التي يقوم عليها الباروك في الخصائص التالية:
1- الحركة واللعبة: نرى التماثيل في وضعية متحرّكة برفع اليدّ أو النفخ في البوق أو الرقص أو القهقهة وهي ثابتة برخامها؛ توهم بالحركة في جمودها بالذات. كذلك تُبرز النصوص الشعرية أو النثرية نصيباً من الحركة يميّز شخوصها بحكم الرغبة الدافعة كمحفّز أصلي يبتغي هدفاً: متعة، إشباع، حبّ. والحركة هي بالتعريف “شوقية” لها دافع أو محفّز ولها موضوع تصبو إلى بلوغه أو إنجازه.
2- الغرابة والرغبة: تبدو الملامح عجيبة في وضعية العبث أو التكشير أو القهقهة في ما يسمّى بالأدب الهزلي Burlesque والشخوص راغبة بلوعة دفينة: حبّ، شهوة، دافع، عنف شبقي، صراع رجولي..
3- اللانهائي والتعدّد: الباروك هو مرآوي بامتياز لأنّه يقابل المرايا بعضها ببعض، فتتكاثر الأشياء الموجودة قبالة المرايا العاكسة إلى اللانهائي.
4- تعايش الأضداد: نقض مبدأ عدم التناقض من شأنه أن يكسّر الحدود بين الأشياء والعوالم فيتّحد الواقعي بالخيالي أو الإلهي بالإنساني، وهي خاصيّة غالبة في هذا الفنّ الجامع بين الحقائق المتنافرة.
5- الظلال والأنوار: يبدو فيها الأمر المثير نيّراً وناصعاً بينما الأشياء المحيطة به قاتمة وسوداء، وهي تقنية زيتية غالبة في الفنّ الباروكي مثل لوحات الرّسام كارافاجيو Caravaggio.
6- الالتواء والانحناء: تبدو الأشكال ملتوية ومنعطفة على بعضها البعض مشكّلة ثنية أو طيّة تخبّئ سرّاً كالصَدَفة الحاوية على اللؤلؤة، ويفسّر هذا الأمر احتمال أن تكون كلمة “باروك” هي سليلة الكلمة البرتغالية “باروكو” Barroco وهي المحارة في شكل حلزوني يمتدّ إلى اللانهاية؛ أو تبدو الأمور في شكل دوّامة متصاعدة منفتحة على اللانهائي خصوصاً في القبب الكنائسية الحاوية على الرسوم والتي تُعطي الانطباع بأنّ الرسم يصعد نحو السماء وهو في الحقيقة ضمن ما سمّاه دولوز «الداخل المغلق».
7- الإبهام والإيهام: توهم الأشكال بأنّها لانهائية أو ممتدّة أو كالدوّامة بالاعتماد على تقنيات في خداع البصر trompe-l’oeil، فهي مبهمة وتصدم العين الناظرة. نجد هذه التقنية في العديد من الكنائس ذات المعمار الباروكي في إيطاليا.
8- العبث والموت: الرمزية البارزة هي الجمجمة في بعض اللوحات الزيتية مثل لوحة الرسّام لويس دي موراليس Luis de Morales التي يصوّر فيها القديس فرنسيسكو الأسيزي يقرأ كتاباً فوق جمجمة. وهناك لوحات عديدة في هذا المضمار تصوّر الحياة كحلم عابر أو محطّة يتوقّف عندها الإنسان ليغادرها بعد ذلك.
9- الخيال والحسّ: يعتمد الباروك على الحسّ الرهيف في إدراك الحياة الإنسانية المباشرة أي باستعمال قنوات الإحساس كالشمّ والذوق والرؤية ويقوم على إثارة العواطف والانفعالات كالدهشة والولع والرغبة؛ ويلجأ إلى الخيال لإدراك الحقائق المتعالية التي لا يبلغها العقل مثل الحبّ والمثال. فالخيال هو في وضعية وُسطى بين حسّ خشن وفكرة لطيفة، فيلطّف الكثيف ويجسّد اللطيف إذا استعرتُ عبارة هنري كوربان في قراءته لمذهب ابن عربي.
10- الحرب والاستنفار: أزمنة الباروك هي أزمنة الأزمة والحبكة المعقّدة. عندما يجد الإنسان نفسه في وضعية شائكة وحرجة يعجز العقل عن تفسيرها بشكل منطقي وسببي، فإنّه يلجأ إلى الخيال والحدس والذوق لتجسيد خوالج ذاته وخواطر ذهنه. فليس غريباً أن يتواقت الباروك مع الحروب الدينية لدى بروزه في إيطاليا. وعموماً أزمنة الحرب أو الصراع أو القلق أو الموت هي بالتعريف أزمنة باروكية ينكمش فيها العقل والحكم السليم لصالح الصرخة الباطنية في شكل هوس أو خوف أو احتراس وتتجسّد في كلمات أو معزوفات أو رسومات أو معماريات.
هذه باختصار بعد الخصائص البارزة للباروك تتجاوز التعريف الماهوي للباروك كحقبة تاريخية ترعرع فيها الفنّ في إيطاليا بإيعاز من المباحث الدينية التي قامت الكنيسة الرومانية بترويجها. فالباروك خاصّية فكرية وذوقية كانت قبل وأثناء وبعد الفترة التي كان فيها الباروك صناعة إيطالية في الفنّ والمعمار. باللجوء إلى الميزات الكونية للباروك، يمكننا الوقوف على التشكيلات الثقافية والفلسفية والأدبية التي توفّرت فيها هذه الميزات وأخصّ بالذكر النص العرفاني في الثقافات المسيحية واليهودية والإسلامية، أو أيضاً الأدب والفلسفة والفنّ كما تُبرزها بعض النصوص مع ابن سبعين في الأندلس أو نيكولا الكوسي في إيطاليا أو ليبنتز في ألمانيا أو مونتاني في فرنسا، أو في الأدب مع شكسبير في انجلترا. وتشغل رواية «الحالم» هذه المكانة بحكم الميزة الباروكية التي تشتمل عليها: اللانهائي سليل الانعكاس المرآوي، الموت، الأضداد، الغرابة، الطرافة: «تقدّم خطوتين فتراءى له رواق لانهائي الطول يفصل بين غرف ذاكرته» (ص 80). نبرة مماثلة نجدها عند جيل دولوز الذي رأى في النفس عند ليبنتز دُرج أو سلالم تصعد نحو اللانهائي؛ ويُظهر العالم كقبّة نصفية لها وجه إلى الجسد أو العالم المادّي والسفلي ووجه إلى النفس أو العالم الروحي والعلوي: «سقفاً لانهائياً لقبّة سماوية كبيرة كبر السماء» (ص 308). هناك في الرواية فاصل/واصل بين عالم الواقع وعالم الخيال، بين ما يريده الشخص الروائي (على وزن الشخص المفهومي عند جيل دولوز) وما يريده كاتب الرواية، فيكون الشخص الروائي هو الكاتب على لسان ويدّ الشخص الواقعي، أي بنوع من الانعكاسية المرآوية التي تزخر بها الرواية فإنّ الشخص الخيالي هو المحرّك للشخص الواقعي، ويسعى هذا الأخير للاستحواذ على إلهامه ثمّ إعدامه ليتحرّر منه بعد أزمنة التدوين: «كان هذا الشابّ تجسيداً بشرياً لموهبة ريماس» (ص 79). لكن تعود الشخوص الروائية لتحاول الانتقام من كاتبها، فتتحاور فيما بينها وتتواطأ وتتحالف في لعبة كر وفرّ للظفر بالخصم.
ينخرط الوصف في مسارات منعرجة ولولبية باحثاً عن الأمور الدقيقة والمشوّقة: «عرف كم يحب ريماس التفاصيل في كتاباته» (ص 99)، بل افتتن هو الآخر بتفاصيل التفاصيل: «والتفاصيل هي التي جعلتني مهووساً بروايات ريماس إيمي ساك» (ص 146). إنها طريقة باروكية تُبرز العدول عن الأشياء المستقيمة والبديهية وتزجّ بالإنسان في العوالم الغائرة ذات الظلال والطيّات في تعاريجها اللانهائية، وتستجيب إلى لعبة الظلال والأنوار: «صورة المسخ على السقف، ولكنه عكس ما بدا لي في الظلمة، كان مسخاً أقل تشوّهاً مني.. ربما الضياء ما منع تطابق الصورتين» (ص 108). فلعبة الظلال والأنوار تقوم بالمشابهة بين الأشياء حيث في الظلمة كل القطط هي رمادية كما يقول المثل للدلالة على الغموض والالتباس، ولكن إلقاء نظام من الإنارة من شأنه أن يفضّ التشابه والإبهام ويميّز بين الأشياء. بَيْد أنّ تكوير الظلال على الأنوار من شأنه أن يجعل الأشياء والشخوص في وضعية “كاليدوسكوبية” Kaléidoscopique بالمعنى السينمائي للكلمة، أي كائنات متسارعة تتلوّن بتلوينات رمادية من جرّاء انعطاف الأسود على الأبيض، فتبقى بالتالي في وضعية الالتباس تتخلّله فترات الوضوح ولكن فقط كشذرات نورية متسلّلة من ثقوب داخل قبّة حالكة. نستشفّ في هذا المقام تواقت حالة التسارع بحالة الثبوت بناءً على قوله: «عالم أبطالي كان عالماً يتباطأ فيه الزمن وينعدم أيضاً، ليحظوا بأبدية مزيّفة» (ص 184). وكأنّ كاتبنا يغترف من علم الفلك الذي يبدو أنّه مولع به نظراً لحضور هذا المبحث في روايته كمعالم موجّهة وشذرات مزيّنة. ونعرف بناءً على بعض النظريات الفلكية أنّ الزمن قبل لحظة الانفجار العظيم كان زمناً متوقّفاً وشاملاً على اللاحق كالبذرة الشاملة على الشجرة اللاحقة. فكانت العوالم ثابتة كشخوص الرواية، في حالة شبه أقلاطونية بثبوت المُثل، أي كقُرص يحوي على فيلم متحرّك، لكن الفيلم في القرص هو ثابت. فالشخوص هي كالممثّلين في الفيلم، ثابتون في القرص ومتحرّكون في الفيلم: «أحاول أن تذكّر لحظة حدثت قبل (…) ثانية» (ص 297)، لحظة خاطفة قُبيل الانفجار العظيم بانفراج الطاقة وتحرير الخليقة.
حالة الالتباس هي حالة معلّقة (كالعنوان: «مسائل عالقة») بالمعنى الشكوكي العريق لدى الإغريق حيث لا يمكن اتّخاذ موقف أو حكم نظراً للوضعية الحرجة التي يتواجد فيها موضوع الحكم: «طيلة تلك السنين يشعر بالسعادة والاكتئاب في نفس الوقت» (ص 108)، «حين يتحدّث عن تداخل الليل والنهار ساعة المغيب» (ص 139)، «أصبحتُ أفهم في منطق الكتابة، وأهمّ ما فهمته منه، ألا منطق فيها» (ص 189). وننتقل، مُرغَمين ومُغرَمين، من الشكوكية إلى العدمية عندما يكون السؤال هو: من المنعكس في المرآة إذا لم يكن موجوداً أصلاً؟ (ص 109)، لأنّ الشبح لا ينعكس في الشبح، ولكن فقط الحقيقي والواقعي هو الذي يتّخذ صورة شبحية: «إذ لا يمكن أن تعكس المرايا أجساداً لا وجود لها في الحقيقة» (ص 120). نجد أنفسنا في وضعية شائكة تلامس العبث l’absurde حيث الشخص الروائي المختلَق يحيا في حياة مزيّفة يعتبرها حقيقية وهو عين الإيهام: «يوهمهم بأنهم يعيشون حياتهم، وهي في الحقيقة ليست أكثر من أدوار مقيتة كتبها لهم وأجبرهم على لعبها» (ص 110). تمنح هذه الصيغة الباروكية صورة الحياة كخيال أو كمسرح يؤدّي فيه الأفراد أدواراً هادفة أو تائهة، ويكون القَدر أو العبث أو الله (تبعاً لمسمّيات لها بذور وجذور حسب الثقافات والمعتقدات) هو من يحرّكهم، بهم وعلى غير دراية منهم «وكأنّه كاتب مسرحي جعل لكل من حوله دوراً يلعبه» (ص 182). أو يكون الكاتب أداة في يدّ شخصه الروائي يسخّره كيف يشاء: «لقد صرتُ بطريقة ما لسان روحه، يوحي إليّ إلهامه بالكلمات» (ص 171). ويبدو هذا التسخير “القَدَري” راديكالياً بقوله «لما انتبه أحد إلى أنّني مجرّد صدى لغيري» (ص 172) تبعاً لفكرة التوالج التي سأطرحها بعد قليل.
نجد أنفسنا إزاء ما سمّاه الفيلسوف هيغل “حيلة العقل” أو “حيلة التاريخ” بتدبير مصائر البشر بهم ضدّهم دون علمهم. هم وسائل لا مسائل، أدوات لا ذوات. والحيلة هي مرآوية بامتياز، لأنّها تُبرز عكس ما تُبطن، تُبرز الأشياء المنعكسة وتختفي كأداة في الانعكاس، توهم بوضع الالتباس والغموض في صُلب الحياة والوجود: «في عالم مواز لعالمنا، يستقل الإسم عن الكاتب بحيث يتوهم أنه حقيقي» (ص 171). وتنعطف هنا الحيلة على الاستحالة والتحوّل لأنّ لها بهما شُحنة وشَجنة بحُكم الجذر الاشتقاقي/الانشقاقي، مشتقة منهما ومنشقّة عنهما. فتتسلّل الحيلة في صُلب النفي (الاستحالة) والإيجاب (التحوّل)، لتعكس أدوارهما وتقلب منطقهما. لكن ليست الحيلة بالضرورة الخُبث. فهي ليست شرّاً في ذاتها أو خيراً في ذاتها، ولكن استعمالها هو الذي يحدّد خيرتها أو ضررها، فهي “حيلة” للدفاع عن النفس والفرار من مَواطن الافتراس، وهي “خُبث” و”خديعة” عندما يتعلّق الأمر بالتعدّي والابتزاز. فالشخوص الروائية تتحايل على الكاتب من وجهة الدفاع عن نفسها وإيجاد تعيّنات لها في الواقع، والكاتب يتحايل على شخوصه للتحرّر من وطأتها وجنونها. تتبدّى الشخوص الروائية على غرار رسوم موريتس إيشر Maurits Escher المنفتحة على الاستحالة واللانهاية. فهي كالرسومات تريد أن تصبح واقعية بالخروج من الورقة على غرار اليدين في رسم إيشر حيث اليدّ الواقعية ترسم اليدّ الخيالية وهي نفسها الصادرة عن اليدّ الخيالية. تريد الشخوص أن تتحرّر من رأس الكاتب، تريد أن تتعيّن، أن تكون لها أعيان واقعية وملموسة، تريد أن تخرج في حالة “جحوظ” يهبها حالة “مرئية” لكي تُرى بعدما كانت مجرّد حالة “مرآوية” أي شبحية أو طيفية. لكن هل بإمكان الكاتب أن يهب الحياة لشخوصه على الطريقة الإبراهيمية في النفخ في الطير؟ لا يمكنه ذلك مثلما لا يهب النحّات لتماثيله الحياة، بل تأتي الحياة من الرؤية، من كون الرؤية هي التي تنزع عن التماثيل المرآوية جمودها لتصبح تماثيل لمثالات، هياكل لنماذج، بنيات لقيمة أو معنى في الحياة: «ما مغزى هذه الحياة إن لم يكن المرء فيها قادراً على رؤية نفسه في مرآة؟» (ص 59). إنّ محاولة فرار الشخوص كهروب الشياطين من علبة باندورا، فهي بداية الفاقة والحروب، أي الانتقام وقتل “ريماس إيمي ساك”.
هل تحوّلت الحيلة إلى مكر وخديعة؟ ليس بين الحيلة والخديعة من فاصل سوى كالفاصل الموجود بين السمّ والترياق، أو بين الوجه والقناع. فهو يطرح «سؤاله المتعلّق بجدوى بقائه حياً إن تأكّد موت المبدع فيه» (ص 59). إنّ فرار الشخوص وجحوظها كتشخيص العيون المرتعبة/المرعبة، هو الذي يقضي بموت الكاتب. وكأنّ التشخيص بالعين منخرط في فكرة الشخص ذاتها، لكن في الحالات الاستنفارية والمرعبة تجحظ فيه العيون كلوحة الرسّام كارافاجيو Caravaggio عن “الميدوسّا” القائمة على الجلاء-القتمة أي تواطؤ النور والظلمة بتقنية زيتية ومضامين باروكية مذهلة: «بسبب أعينهم التي كانت جميعها واسعة بمقل عسلية» (ص 310)؛ «قالت وعيناها اتسعتا وكأنهما ترغبان في الخروج من وجهها» (ص 311). إنّ قصّة الخيال والموت والشبح هي عودة الماضي في ثنايا الحاضر: «لماذا تتحدّث عنه بصيغة الماضي؟» (ص 179). لا زلنا في تلك الطيّة التي تحدّث عنها جيل دولوز، تحمل في تعريجها الأسرار الكبار ولا يمكن شقّ صدرها لطلوع مصدرها سوى بأن نرى كيف يحلّ الماضي في الحاضر، كيف تسكن الطفولة في الكهولة، كيف تكتنف الذاكرة جيوب الزمن، كيف ينتاب الشبح أمن الهيكل الذي فرّ منه ليعود فيستقرّ فيه ويقرّ به. المعضلة الجوهرية في كل وجود إنساني هي الكيفية التي يتداخل فيها الفائت بالقائم أو المائت بالذي ينضح بالحياة، فيكون تواجدهما في الحيّز نفسه باروكياً وحاملاً لمشاهد الغرابة:
1- «التوالج» interpénétration بالمعنى الذي طرحه ابن عربي بفكرته حول “علم التوالج”، حيث الخيال في الخيال، الماضي داخل الحاضر، الرواية داخل الرواية (ص 213)، الرؤية في الرؤية، التقمّص، «فراغ غارق في الفراغ» (ص 261)، «أسئلة تؤرق أرقي» (ص 335)، إلخ؛ “توالج” بالمعنى الأنطولوجي لوجود حقائق داخل حقائق تختلف عنها في الشكل والبُعد والقيمة؛ وبالمعنى “الشبقي” أيضاً في توالج الفروج. هذا التداخل في الحقائق المتنافرة من شأنه أن يمنح للسرد والصورة قيمة فينومينولوجية هائلة. وعندما نقرأ بأنّ الكاتب هو مجرّد صدى لصوت شخصه الروائي (ص 172)، فنقف على حالة “توالجية” حيث تصدر أصوات عن أصوات أو بالأحرى يتضاعف الصوت بأصدائه أو الكاتب بشخوصه. فكرة الصوت والصدى هي الأخرى “باروكية” ومربكة تستجيب إلى منطق “هو لا هو”، لأنّ الصوت هو نفسه الصدى في خصوصيته الفيزيائية (النبرة) ولكن ليس هو الصدى في خصوصيته المنعكسة إذا جاز لي اللجوء مرّة أخرى إلى جيل دولوز في كتابه «الاختلاف والتكرار» (المطبوعات الجامعية الفرنسية، 1969). فما يتكرّر ليس عينه المكرَّر، فهو كالموجات المتداخلة التي تصنعها قطرة ماء ساقطة على بِركة، موجات عينها لكن في كل مرّة غيرها. المسألة هي مربكة وغامضة تلعب على حدّين متناقضين في الظاهر ولكنهما متواطئان في الباطن تبعاً لما سمّاه الكوسي «تزامن النقيضين» (oppositorum coincidentia) في كتابه «الأمية العالمة» (1440)؛ وتبعاً لما اصطلح عليه ابن عربي اسم «تآلف الضرّتين» الذي لا ينتمي إلى نظام العقل بل إلى نظام الخيال: «وكل ضدّين ضرّتان وهذا لا يدرك من قوّة العقل، فإنّ قوّة العقل لا تعطيه، وإنما يدرك هذا من المقام الذي وراء طور العقل» (الفتوحات المكية، الجزء الثاني، ص 660).
2- «التواقت» synchronisme تجتمع فيه الأضداد لحظة تقاطعها العابر والفارّ: «”يا جماعة، رحم الله الميّت. أما أنا فاعذروني لأنّ زوجتي ستلد في أيّة لحظة”» (ص 218). يتواقت الموت والحياة، لحظة الدفن ولحظة الميلاد؛ أو تواقت الواقع والخيال أو الوهم والحقيقة بالحضور المبهم والموهم للمرآة: «تصوّرتُ أنّه في عالم موازٍ لعالمنا، يستقل الإسم عن الكاتب بحيث يتوهّم أنّه حقيقي» (ص 171). ينخرط هذا الأمر في تآلف الضرّتين (ابن عربي) أو تزامن النقيضين (الكوسي)، تنعطف فيها البدايات على النهايات وتتيح تحوّل الأشياء في أشياء أخرى، فتقتصر الأمكنة والأزمنة، ويقع التماسّ بين لحظة الآن ولحظة البدء تبعاً لقول ابن عربي: «البدء حالة مستصحبة قائمة لا تنقطع» (الفتوحات، الجزء الثاني، ص 55)؛ فيصطحب الماضي الحاضر والطفولة الكهولة والطيف الواقع كظلّ لا ينفكّ عن شخصه أو نصف متوارٍ لا ينعتق من نصفه البارز والمتجلّي.
3- «المسرحة» théâtralisation حيث تضحى الحياة عبارة عن مسرح يتحوّل فيها الأشخاص إلى شخوص، والواقع إلى خيال. فها هو يخاطب الحياة قائلاً: «كلّما دنوتُ أراكِ تبتعدين من جديد» (ص 148)، فقط لأنّ الحياة كالحلم يقبل التأويل وأبداً الحقيقة، أو هي كالسراب في البيداء يوهم بوجود الماء، وكلّما ركضنا وراءه لنصل إليه لا ينفكّ عن الابتعاد، ولكنه يتيح الابتداع. لنقلب الجملة السابقة بهذه الصيغة عملاً بخاصيّة “القلب” كما يسمّيها فقهاء اللغة: «كلما دوّنتُ أراكِ تبتدعين من جديد». إذا كان من المستحيل (بالمعنى السلبي للامتناع وبالمعنى الإيجابي للتحوّل) أن ندنو منها لأنّها كالسراب، بل هي السراب والحلم، فإنّنا ندوّن بها، تبتعد باستمرار كإرجاء يختلف ويتخلّف، ولكن تبتدع الأمر الذي يجدّدها. هكذا هي الحياة، كوميديا في التدوين والابتداع بعد تراجيديا في التداني والابتعاد. فلا نقبض عليها لأنّنا نتكلّم بها عبرها، ولا تنفك عن الحلول والرحيل، خالقة لأشياء وحالات وخاتمة لآجال ومآل، في عطاء لا ينضب وسيرورة لا تنقطع.
ثقافة الإسم واسم الجسد:
أن يستنبط المرء نسقاً أو فلسفةً فقط بالاعتماد على اسمه هي أجمل مغامرة باروكية تميّزت بها بعض الفلسفات العريقة، في الثقافة اليهودية القائمة على القابلاه، أو في الثقافة الإسلامية مع ابن سبعين، أو في الأدب المعاصر القريب منّا مع قراءة جاك دريدا لاسم “فرنيس بونج” Ponge الذي يعني الاسفنج ويميل نحو محو ما يكتبه وشطب ما يخطّه. فالاسم كالذرّة الكونية السابقة على الانفجار العظيم، متى تفجّر تحرّر وحرّر المادّة الفكرية في توسّعها اللانهائي. للاسم مفاتن سحرية لأنّه يحدّد، بشكل خفيّ ودفين، مصير الإنسان، فيحمل أصله في ذاته كالطفل الذي كان والذي يكبر معه. وفي ذلك يكتب قسيمي: «كان السرّ إذن أمراً موجوداً معنا» (ص 47)، حالة مستصحبة كالبدء عند ابن عربي. يقسّم قسيمي حسب ضرورة بديهية في اسمه ولكنها تعود كالباده البرقي تشتعل ثم تنطفئ. يستعير من اسمه ليؤسّس كائنات يعرف خباياها وأسرارها: جميلة بوراس التي وهبته هوس الاهتمام بكل ما في الرأس من خواطر ومخاطر، وعثمان بوشافع الذي يؤمّن له اسماً مشفوعاً تتلقّفه الأقلام وتتداوله الصحف. له في كل إسم شاردة وواردة: «فكل كتبه الثلاثين بكل ما فيها، كانت لتحمله إلى الموت على أجنحة الرضا» (ص 115)، أي على أجنحة الجنون بحكم ذلك المجنون المدعو “رضا خباد”. الإسم هو المفتاح الذي له يرتاح ويفتح به مغاليق الوجود وأقفال الشخوص التي تنتابه ليل نهار. يستعمل أسماءها ضدّها فيعرف كيف يلج في أغوارها لاقتناء أسرارها. في قسيمي التقسيم والقَسَم، التجزيء واليمين، واليمين هي القوّة والشدّة كالضرب بيدّ من حديد. إنّ في الإسم الرغبة، بل الهوس، في أن يكون للتقسيم الروائي قوّة ومتانة ككل نسق يلمّ عناصره وأشتاته بالرابطة العابرة للعناصر أو العلاقات العابرة للحدود. والعلاقات هي معدومة في جوهرها كما يقول ابن عربي. فبين الحدّين الأب والابن علاقة غير مرئية، أي معدومة، هي علاقة الأبوّة من الأوّل إلى الثاني وعلاقة البنوّة من الثاني إلى الأوّل. فالعلاقة هي التي تحدّد قيمة الحدّين. كذلك القوّة بين الشخوص الروائية تتحدّد بانسجام العلاقات بينها، تلعب على وتر التماهي والاختلاف، التبعثر والانتظام.
ليس الإسم مجرّد كنية أو رفعة (فهو مشتق من “السموّ”) ينعت شخصاً له كرامة ونسمة، أي روحاً تقتضي الاحترام لأنّها جزء من الروح الكونية الجامعة ومن الرابطة الإنسانية العالمية؛ وإنما الإسم هو أيضاً عبارة عن فعل. قسَّم وأقسم الصادران من “قسيمي” هما فعلان. وكل إسم له بالفعل رابطة كالعلاقة بين المبتدأ والخبر. يمكن أن ينفرد الإسم بجلاله ومكانته كإسم مستقل عن كل شائبة فعلية تُجبره على النزول إلى عوالم الكون والفساد، بينما هو ينبري التبدّل والتحوّل ليبقى في الهدوء المتعالي كإسم الجلالة “الله” مثلاً. لكن كل إسم له فعل لأنّ الله هو أيضاً الخالق والصانع. يمكن اللجوء إلى التصوير الفنّي الذي يبرزه ابن عربي بشأن الأسماء الحسنى وميلها إلى خلق العالم وتثبيت تعيّناتها في أطرافه وأرجائه: فها هو الإسم “الرزّاق” يتوكّل بالأرزاق، ونقول في تعبيرنا المعاصر “الاقتصاد”؛ والإسم العفوّ يتكفّل بالتسامح والصُلح ودرء الفتن؛ والإسم “المنتقم” يضع بصمته على أقاليم الصراع والحروب والنزاعات، والأمر نفسه مع الجبّار والغفور والعادل والخبير والحافظ والقادر والهادي، إلخ. الأسماء هي أفعال بتجسيد الإرادة في الصناعة. كذلك كانت الآلهة الإغريقية والرومانية والتي هي أسماء لها أفعال: “ديميتر” إله الأرض يُعنى بالزراعة والحرث، “بوسيدون” إله البحار يتكفّل بالملاحة والتجارة، “هيفستوس” إله النار يتوكّل بالصناعة وتذويب المعادن لفبركة الأدوات والأسلحة، إلخ. كل إسم هو نعت لأداء أو علامة على فعل. لكن الفرق بين الأسماء الحسنى كما نظّر لها ابن عربي والآلهة عند الإغريق أو الرومان، أنّ الأسماء الإلهية هي انكاس مرآوي للعالم، على الطريقة الأفلاطونية في كون العالم العلوي هو “مثال” أو نموذج العالم السفلي، فيما الآلهة في الأساطير الإغريقية والرومانية لها قيمة “حلولية” لأنها تختلط بالعالم وتمتزج به وتتجسّد فيه. إنّ الإسم الذي يأخذ به صاحب «الحالم» هو إسم مرآوي سليل ثقافته وتاريخه المذهبي والفكري، إسم يعكس مسمّى ولا يتّحد به: «أتقصد أننا واحد أنا وأنت؟»، والإجابة لا لُبس فيها: «لسنا واحداً، هذا أمر مفروغ منه» (ص 94).
لكن يعود ليضع الشكّ في صُلب اليقين ويتساءل: «أيّ إسم قد يكون لكلينا في وقت واحد؟» (ص 326). يفتتن بهذه الازدواجية في الذات (ظاهر/باطن) أو بالأحرى بالاثنين في الواحد: «كنا ونحن الاثنين معاً وكأننا واحد بعقلين محشورين في عقل واحد» (ص 327)، لكن دائماً بالأداة “الكأنهية” (كأنّنا) التي تصل/تفصل، في الوقت نفسه، بين الاثنين، توحّد بينهما وتحدّد لهما الفواصل الضرورية في التميّز. يعود بالعناد ليقول بنبرة حلولية: «سينتهي به المطاف في التماهي معي (…) لن يصمد طويلاً ويذوب فيّ». لكن المنطق المرآوي يقتضي مجاوزة التعالي والحلول معاً، تجاوز المثاليات والتجريدات المستحيل الوصول إليها سوى بضرب الأمثال والاستنجاد بالاستعارات وإعارة الأشباه والنظائر، وتجاوز التجسيدات التي يقول لسان حالها «وتشابها فتشاكل الأمر». إنّ «الحالم» تقف على عتبة «هو لا هو» في التباس مؤسّس لا يمكن اختزاله، عتبة الشكّ الراديكالي المتجاوز للشكّ المنهجي، شكّ يدفع بالأسئلة إلى منتهى طاقتها وبالخواطر إلى منتهى المخاطر، لأنّ تركيبتها هي الالتباس، بل والتلبّس في هذا الزيّ أو ذاك، التنكّر بهذا الإسم أو ذاك. هل «الحالم» هي سيرة ذاتية؟ نعم ولا، وبين نعم ولا تتطاير البداهات وتتشظّى الوقايات إذا جاز لي محاكاة ابن عربي في السجال الذي يضربه لنا بين التصوّف والفلسفة، بين الوجدان والبرهان. إنّ السيرة الذاتية هي كإسم العَلَم: فلسفة قائمة بذاتها، لها قوام ومقام. إنّ «نعم ولا» هي على وزن «هو لا هو» لا محلّ لها من الإعراب سوى في هذا الحيّز البيني، بين الواقعي والخيالي، بين الحقيقي والشبحي تبعاً للتحذير الأصلي في بداية الرواية: «إنّ كل تشابه بين أحداث وشخوص هذه القصّة مع الواقع مجرّد صُدفة» (ص 15). قبل ضمّ الصُدفة، ماذا لو فتحناها لنرى ما بداخلها؟ أقصد ماذا لو جاءت الفتحة لتزدان الصاد والدال: صَدَفة؟ ها نحن من جديد أمام مشهد باروكي تكون فيه الصَدَفة ذات الأشكال الحلزونية الغريبة والمفتوحة على اللانهائي. كذلك الصُدفة (الآن بضمّ الصاد وسكون الدال) هي مفتوحة على اللانهائي: هناك فرصة في ملايين المرّات لأن يظفر اللاعب باللوتو.
الصُدْفة هي كهذه الصَدَفة: عمياء، عرجاء، ملتوية، ولكنها تختزن على جوهرة نادرة لمن ظفر بها: «جاءت كحبّة “لويز” فريدة ومتميّزة» (ص 292). عندما تجتمع الفرص وتأتي الواردات بدون سابق إنذار ولكن بعلامات لا يفقه كنهها سوى من يتحيّن فرصها ويصغي إلى دبيب قدومها، فإنّها تلمّ في ظرف ومكان وسياق كل المواهب الكونية المتجمّعة بحرارتها الحارقة في هذه اللحظة الجامعة المانعة كتلك التي نعتها الإغريق القدامي بكلمة “الكايروس” Kaïros. “الكايروس” هو زمن المصادفات العزيزة النادرة، قصير في مدّته، جسيم في آثاره، مدوّي بأصدائه، وفير بنتائجه وثماره، كالحلم تماماً الذي في الثواني الخاطفة التي يجول فيها في مداخل الإنسان يُكسبه الفرحة العارمة والسعادة الكاسحة: ها نحن من جديد في الحلم، في هذه التركيبة المبهمة اللصيقة بالباروك، أي في الأمر العابر والعابث من الحياة: «”الدائم” مجرّد وهم لا جدوى منه» (ص 308) تبعاً لمقولة “العبث” vanité في الأدب الباروكي، حيث الحياة قصيرة وعابرة، تتكالب عليها القوى، تتحارب من أجلها الأمم، وهي في سيرورة خلاّقة ومهدّمة في الوقت نفسه، خالقة للجديد ومجاوزة للقديم. تكمن الحصافة في كيفية تركيز هذا العبور الحلمي والحالم في حياة بشرية ثريّة قوامها “الزمن الكايْري” (من “الكايروس”)، أي في كيفية جعل حياة الإنسان بؤرة من العطاء كالفوّارة لا تجفّ ينابيعها حتى بعد وفاة الإنسان نفسه. والوجود مصادفات ونفحات، أفلح من أحسن اصطياد العطايا والواردات في الظروف السانحة بالذكاء المشتعل والحيلة المتوقّدة. كانت لابن عربي كلمة جامعة نافعة يلخّص بها هذه النفحة الوجودية بقوله: «عن الجود صدر الوجود» (الفتوحات، الجزء الثاني، ص 179). تنبع في الأوقات التي لا ينتظرها الإنسان واعياً ولا يتحيّن فرصها سوى بانتظار شبه واعٍ، في شكل يقظة أو انتباه. لهذا السبب كانت التحيّة الصباحية الإغريقية «خيرات» (Khaïrétè) كالعربية تماماً «صباح الخير» لأنّ لها بها جذر مشترك. والخير هو تلك النِعم القابلة للصيد في أزمنة ورودها ولحظات صدورها في العَوَد الوجودي الذي يتجدّد في متنفّس كل صبيحة.
تتصيّد الرواية النفحات البشرية وتلتفت إلى أقرب شيء للإنسان وهو بشرته التي تُبرز بشريته، تُظهر أدمته التي صدر منها، أي الطينة أو العجينة التي تكوّن منها. إنّ “باروكية” الرواية هي أيضاً حكاية عن هذه العجينة المبهمة المسمّاة “الجسد”. الرواية هي أيضاً قصّة أجساد، كادحة أو ناكحة، تلك التي تبحث عن ذواتها في أغيارها، تبحث عن الأمر الذي يكمّلها ويسوّي عجينتها في هذه الصيغة أو تلك، في هذا الشكل أو ذاك، جاعلاً منها الهيولى القابلة لكل صورة. للجسد في الرواية قيمة حسّية وشهوانية: جسد يخرج من جسد (الولادة)، جسد يلج في جسد (النكاح)، جسد يعفس على جسد (العنف، القهر)، إلخ؛ لكن دائماً بالمبهم والعجيب الخلاّب: «لا تحدّث ابنها الذي أنجبته، بل الرجل الذي قرّرتُ أن أكونه، أقصد ذاك الذي أنجبته أنا» (ص 311). تلد الأمّ الرجل في الطفل الذي أنجبته. مشهد غريب لا يختلف عن الغرابة الباروكية التي أنشدها أبو منصور الحلاّج بهذه الأبيات:
«إنني شيخ كبير في علوّ الدارجات،
ثم إنّني صرتُ طفلاً في حجور المرضعات (…)
ولدت أمّي أباها أنّ ذا من عجباتي،
فبناتي بعد أن كنّ بناتي أخواتي» [الديوان، قافية التاء، ص 294]
هذا القلب المرآوي هو كالبذرة الحاملة للشجرة في انطوائها الأصلي كما الشجرة ستحمل البذرة في انبساطها البعدي. «الحالم» هي قصّة “الحامل”، الجسد الحامل للجسد، الجسد الحامل للإرهاق وسنوات الكدّ والكدح، الجسد الحامل للذكريات، السعيدة أو التعيسة، الملتصقة بالبِشرة قبل الذهن، الموشومة في مفاصل الجسم قبل فواصل الكتابة، المرسومة في أطراف البدن قبل أطياف الخيال. فهي تروي سؤال الحمل وطرائق التوليد (Maïeutique) على الطريقة السقراطية: «أقصد ذاك الذي أنجبته أنا». أنجبته أمّه من أحشاء بطنها وهو أنجب شخصه الروائي من أحشاء باطنه. لم ينفكّ عن توليد الخواطر الدائرة في خُلده لتصبح شخوصاً تبتغي الخلود وتحيك المكائد لتنشقّ عن الرأس المدبّر لها. من كل الأحاسيس التي يستشعر بها الجسد ومن كل الهواجس التي تستبدّ به، وقع خيار “الراوي” ريماس إيمي ساك واختيار “الروائي” سمير قسيمي، لأفصل وأصل بشكل مرآوي بين “الراوي” و”الروائي”، بين الصوت الذي يوحي والقلم الذي يدوّن؛ أقول وقع اختيارهما على الذاكرة الشمّية، من رأس الرواية إلى ذنبها، تلك الذاكرة التي أشار إليها ابن عربي بقوله: «وقد رأينا من رجال الروائح جماعة وكان عبد القادر الجيلي منهم يعرف الشخص بالشمّ» (الفتوحات، الجزء الثاني، ص 392). وليس ببعيد عن هذا المنطق الجسدي الخاصّ يقول الراوي على لسان الروائي: «الأجساد قادرة على الشمّ ليس كما نفعل بأنوفنا» (ص 306). والعلّة هي لغوية أوّلاً وفلسفية ثانياً: 1- أمّا العلّة اللغوية وهي أنّ المعرفة لا تنفكّ في جسدها اللغوي عن “العَرف” (بفتح العين) وهو الشمّ: فمن عَرف فقد عَرف، أي من شمّ أحاط ذكراً بالشيء المشموم؛ 2- أمّا العلّة الفلسفية فإنّ المعرفة لها قنوات حسّية مثل النظر والسمع والذوق. وينفرد الشمّ ببقاء الأثر بعد زوال قرينة الحال، لأنّ ذاكرته فورية بمجرّد التقاء حاسّة الشمّ بالشيء المشموم؛ خلافاً للعين التي قد يلتبس عليها الحال فترى شخصاً تظنّ أنها رأته من قبل، وكذلك السمع الذي قد يخلط بين الأصوات.
المعرفة هي شمّية اشتقاقاً لغوياً وانشقاقاً أنطولوجياً. إذا جرت على لسان ابن عربي مقولة “الروائح” فلدلالة هي الأخرى لغوية ذات المضامين الفينومينولوجية، بحكم أنّ الرائحة من الروح، كما أنّ النَفْس (سكون الفاء) من “النَفَس” (فتح الفاء) حقيقة ومجازاً: 1- أمّا على سبيل الحقيقة فإنّ جوهر الحياة وبقاء النفس هو التنفّس، بل تكاد المدرسة الرواقية في الفلسفة الإغريقية تختزل النفْس في النفَس، أي في تلك النسمة التي بها حياة الإنسان؛ 2- أمّا على صعيد المجاز فإنّ النفس صادرة عن النفَس الإلهي الذي جاء للتنفيس عن كرب الأسماء الحسنى لخلق الوجود، فتطبع في العالم أعيانها، فجاء الخلق في صيغة الأمر: «كُنْ» (يس، 82). وما الشخوص في الرواية سوى على صورة هذا الكرب الأصلي الذي يستدعي التنفيس، فتخرج من رأس الروائي لتروي رغبتها في الكتابة والإبداع وصناعة شيء يكون له “الأثر” لأنّه سليل الأمر الأصلي «كُنْ». لكن الشخوص الروائية ليست مجرّد فبركة ذهنية، بل هي أيضاً صناعة جسدية، هي ما ينبثق من الجسد من ذاكرة حيّة ثبّتها الزمن بالحديد والنار أو بالكدّ والكدح أو بالألم والأسى أو بالذوق والشوق. فالشخوص هي كالأسماء، تسعى بولع وهوس إلى تحقيق أعيانها في الجسد مثلما الأسماء تغرس في العالم علاماتها بقوّة الخلق والطبع. تحكي الشخوص قصّة الجسد أمام هواجسه ورغابته، طريقة إفراغه لشحناته، سبيل تفريج كربه. تتأرجح بين الحكاية والحياكة، بين الطريقة الذكيّة في سرد وقائع الحياة ومَواطن الجسد، والطريقة الفنّية في نسج خطاب حول الشرط البشري أمام مساره ومصيره: «نحنّ بعقلنا الباطن إلى حيوانيتنا» (ص 306) يقول الراوي للروائي، أي هذا ما تقوله الشخوص على لسان الكاتب. وعلينا نفض كلمة “الحيوان” من الدونية الملتصقة بها، لأنّ الحيوان هو الكائن الذي يتوهّج بالحياة وليس هذه البهيمة التي نمقتها وننعتُها بأحطّ الدلائل. هناك “حيوانية” دفينة في أجسادنا بحكم الميول الغريزي لإشباع الرغبات والنزوات، وفي سلوكيتنا بحكم النزوع نحو الهيمنة والتسلّط تصدّقه ظواهر الصراع والتعدّي والمناطحة مضافاً إليها الرذائل من كل صنف ولون كالحسد والحقد والضغينة وفبركة المصائد والمكائد للإيقاع بالمنافس. نعم الإنسان هو حيوان ينضح بالحياة، والحياة هي في الوقت نفسه بناء وهدم، خلق وإعدام، ارتقاء وانزلاق، وفي ذلك التسمية الراقية للبشري اللصيق ببشرته أي جسده الذي هو أقرب إليه كالتنفّس الذي يسمع دبيب شهقته وزفرته.
خاتمة:
لقد حاولتُ في هذه القراءة المبدئية الوقوف على نمط باروكي في الكتابة الجزائرية الحديثة مع روائيين شباب لهم من الحماس والالتماس ما يثير الدهشة ويُغبط الذات، كتابة هي نتاج محنة معيشة طبعت النفوس والأجساد بقسوتها خلال أزمنة العنف والعبث. وكما أوضحتُ سابقاً، يَبرز الأدب الباروكي في أزمنة الأزمة لما ينطوي عليه من قيم الانطواء على الذات والانعراج في الأسلوب والخطاب باستعمال مكثّف للبلاغة وللأساليب البيانية كالاستعارة والمجاز المرسل وللصور المبهمة الدالّة على حقيقة لا يطيقها الوعي من فرط فظاعتها والتي تشتمل على مظاهر الحرب والعنف والمرض والجنون واليأس والقلق. وحده الأدب الباروكي يمكنه التعبير عن هذه المظاهر التي ينكمش فيها العقل وينتفي أثره لصالح قناة حسّية أو نظرية لها من الجحوظ والانتباه ما يجعلها تتحسّس دبيب الوجود وهمس الواقع بقرون استشعارية في غاية اليقظة والاحتراس. وتمنحنا رواية «الحالم» بعض المفاتيح الذكيّة التي ينبغي التقاطها في هذه المتاهة لفتح خزائن العوالم التي تتحدّث عنها. لكل عالم قفل ولكل حكاية مقدار معيّن من الحركات التي يمكن إدارتها لفتح الخزانة. لهذا السبب نجد أنفسنا في دهاليز تستدرجنا. في مدخل كل عالم من العوالم عقبات يتوجّب تجاوزها بفطنة للظفر بالمفتاح وفتح الخزانة، لأنّ الإبهام والالتباس يأتي من كون أنّ العوالم متشابهة في اختلافها بالذات ولأنّها مرايا عاكسة تخربط المواقع وتُضاعف من الأشياء والكائنات التي تعكسها. إنّ «الحالم» هي أروع رواية من حيث العرض الفنّي والسرد المتموّج الذي يباغت القارئ بقفزات وانثناءات ودروب متشعّبة ومتشابكة، تجعل القارئ نفسه في وضعية الحالم، لأنّها وببساطة رواية حلم داخل حلم، ولأنها هي أيضاً رواية داخل رواية، حكاية داخل حكاية، دهاء عنكبوتي يُنتج نسيجه من صُلبه. ولهذا السبب هي رواية ساحرة تتوّج الرواية الجزائرية ببريق من الشجاعة ومن الكتابة الصبورة والمحترفة، وأقول أيضاً المحترقة بنيران السليقة والذكاء المضطرم.
* مفكر وباحث جزائري مقيم في باريس