محمود قرني *
عندما ترجم الدكتور ‘حسن ظاظا’ كتاب ‘القوانين’ لأفلاطون قال إنه يهديه لهؤلاء الحكام الذين أساؤوا لقيم الشعب، فلم يعلموا ولم يتعلموا. أما أفلاطون نفسه، الذي رأى أن ‘أثينا’ التي لم يعد لها دور تكتبه في سجلات التاريخ بعد أن تخلت عن أبنيتها الأخلاقية كافة، فقد أخذ في تأسيس أكاديميته التي كانت قد صيغت فيها أحلام ‘الجمهورية ‘، تلك التي طالما ظلت مطلبا إنسانيا سابغا، لكنه بعيد المنال.
وإن كانت الأطوار الشائهة التي مرت بها الجمهورية في عصورنا الحديثة لم ترضع من المثالية الأفلاطونية حد التشبع، إلا أنها لم تكن، بحال من الأحوال، التعبير الأكثر رجعية عن أشواق العامة في أمتلاك أصواتهم، بل كانت في جوهرها أعلى التجليات لمفهومي العدالة والمساواة، حتى وإن ظلت تأثيراتهما في الواقع لاتخلوا من الغموض والإبهام.
ومع ذلك فقد ظلت جمهورية محمد حسنين هيكل تواقة، لحما وعظما، الى شرعنة تلك الأحلام الأفلاطونية، في الوقت الذي كان فيه جنرالات ‘سايكس بيكو’ لم يغادروا، بعد، غرفة التقسيم، ربما لذلك وصفت الدولة الناصرية كلها بأنها دولة مجانين.
كان هيكل، لا شك أكبر هؤلاء المجانين، بل ربما كان مؤسس هذا الجنون ومنظره، فقد بدا كـ ‘جلجامش’ الذي رأى ‘فامتلك المعرفة، ولعل تحذيره من ‘سايكس بيكو’ الثانية لم يكن أضغاث أحلام، بل يتحقق الآن، بكل أسف، في صحراوات الربيع العربي.
إن جمهورية هيكل التي تأسست على حلم كان ينافس التراجيديا الإغريقية في دراميته ظلت التعبير الأقسى عن رفض استمرار سخرة الشعب لدى حكام الحق الإلهي حينا، وحكام الاحتكارات العرقية وأكاذيب نقاء السلالة في معظم الأحايين. كانت جمهورية هيكل تؤسس لمعرفة جديدة تعززها المعرفة العقلية لا النقلية، لذلك ظل المفهوم الملتبس للهويتين المصرية والعربية يتبلور دون البحث عن وظيفة تبريرية للتنابذ العقائدي الذي أثار غباره ولايزال جمهرة ليست قليلة من أطناب القرن الأول الهجري.
إن هيكل، الأبلغ إذا تكلم والأبلغ إذا صمت، كان يدرك الأوقات المثالية للصمت والأوقات المثالية للكلام، فـ ‘جيبون’ كواحد من أعظم المؤرخين، وكواحد من المعلمين الأوائل، لم يذهب بعيدا عندما قال إن الإمبراطورية الرومانية انهارت في اللحظة التي بات فيها الجميع متحدثا لا مصغيا، لذلك فإن نموذج المعرفة الثورية لجمهورية هيكل لم يعمد الى النفخ في القيمة الأخلاقية لـ ‘اللجاجة السياسية’ التي تشكلت في محيطها الدولة الوطنية، لذلك فقد كانت ولادة الدولة الحديثة سابقة على تشكيل مفرداتها، ليس على المستوي السياسي فحسب بل ربما على مستوي التدوال اليومي للغة الدهماء الذين مثلوا، لأول مرة، صوت الفرد والمجموع في آن.
فهيكل، الذي يحتفل الفكر السياسي العربي بتسعينيته في هذه الأيام، لم يكن كرجل سياسة، في مثالية الجمهورية الأفلاطونية، لأنه كان يعتبر خطابه السياسي بمثابة التمثيل الأكثر موضوعية لآلام واقعه وليس لأحلامه فحسب.
إن جمهورية ‘ناصر’ التي كان هيكل أحد آبائها لم تكن، في أية لحظة، طيشا سياسيا قدر ما كانت التعبير الأكثر وعيا بالميراث الحضاري للفكر الإنساني.
ولعل الأدبيات المثيرة والخطرة التي تركها لنا صاحب هذا المقام، قد عمدت الى استدعاء الكثير من رموز الفكر الحر في التاريخ الإنساني عبر وعي شديد الجذرية يمتح من مختلف المعارف بما في ذلك كافة أنواع الفنون، لدرجة تصيب الكثيرين بدهشة إزاء هذه القدرة الفذة على الإحاطة بفرائض العقل مقابل تطوحات الذائقة.
ولعل خطي هيكل، التي توقفت طويلا أمام قبر الفيلسوف الألماني ‘كانط’ صاحب كراسة ذائعة الصيت اسمها’ ‘مشروع للسلام الدائم ‘، كانت تستهدف البحث المضني في تجديد معاني الجمهورية في أول ميثاق يصنعه ‘صاحب العقل الخالص’ ليمثل أول امتهان جاد لجنرالات الحرب الذين جلسوا في ‘بازل’ تحت راية السلام المزعوم. غير أن منطلقات هيكل لم تكن، على نحو دقيق، هي منطلقات ثعالب السياسية الذين ذهبوا الى بلد أنيق، فقط، لتحصيل مهلة إضافية لاستئناف حروبهم.
هذا هو هيكل الذي طارده اليمين باعتباره سيد العصاة، وطارده اليسار باعتباره ابنا للعقيدة الاشتراكية الناقصة، وطارده القوميون ليحتكروا وحدهم الحديث باسم الجموع، وطارده الحكام لأنه كان أكبر من سوء الطوية.
لقد قال الرجل كلمته من فوق أعلى صارية، عندما وقف على منصة التاريخ وقال ما يجب على مفكر حر أن يقول. لكنه، بكل أسف، سيظل في حاجة لأن يعيد على مسامع الذين يحتكرون الفعل كما يحتكرون القول، ما قاله أبو العلاء:
يسوسون الأمور بغير عقل / وينفذ أمرهم فيقال ساسة
فأف من الحياة وأف مني / ومن زمن رئاسته خساسة.
* شاعر وصحفي من مصر
( القدس العربي )