طيور الجنة – قصة


محمد بديوي *


بسبب الغفلة المستمرة والتي لا تنتهي مهما اقسمنا تكررت رغما عني كلمة (وانتبهت ) وحاولنا….

كم كنت متعبا وكرهت كل ما اكتسبته من ثقافة حديثة وانا اعود صغاري على سماع قصة قبل النوم . اليوم انا متعب وصغيري يعبث بخطوط رسمها الدهر على وجهي , وكل ما يريده هو ان يسمع قصة جديدة , حاولت ان اقنعه بان ينام على ان اعوضه ما يفوته اليوم في يومه القادم لكنه ابى وبشدة . متعب ولكنني استسلمت لما يريد , وبدأت بقصة تحكي عن تعب الصالحين الاوائل وما بذلوه من جهد ودم وصبر وهم يضعون الاسس الاولى لقاعدة ستحمل اعظم بناء في التاريخ ,, تعبت اكثر وانا اشعر ان عيني منهكتان ولم يعد بامكاني فتحهما , وشعرت بارتخاء يده وهي تنزل على وجهي ببطئ والكلمات التي كان يجب ان تاتي قوية صلبة لضبط ايقاع القصة والمحافظة على وتيرة شدتها ورقتها قد بدأت تذوب لتنزل من فمي على شكل نقاط لا تساوي بحجمها الحرف


 شعرت ان النعاس يسحبني من قدمي الى قاع النوم , حاولت ان اقاوم ولم افلح وقد كنت اسمع اخر كلمات طفلي الشقي وهو يقول لامه (نيمته) حاولت ان ابتسم .. وربما انني ابتسمت وسمعته يطلب من امه ان تضع له على محطة طيور الجنة .

وامتد السلم من الارض الى السماء , وانا اقف بطابور بشري تعجز كل الالسن عن عد من يقفون فيه وقد كنت امسك بحقائبي بطريقة جيدة وكل ما في راسي
انني مسافر ووضع طبيعي انني مسافر لم يخطر ببالي أي دهشة اوانفعال المسافر كما غيري من الذين يقفون باعداد هائلة ويحملون كذلك حقائبهم ولم اكن ملهم في
حينها الى اين ستكون وجهتي .



بدأنا بالصعود وقد كانت خطواتنا سريعة جدا .. المشهد كان مدهشا ونحن نخترق السحب وقدكنت استرق بعض النظرات الى حديقة البيت من الاعلى ولكم بدت جميلة وهادئة , خالية من الصخب والضجر



وصلنا الى باب مغلق لا اعرف باي اتجاه يفتح اردت ان ارفع يدي لالمس السماء لكن شيئا بداخلي منعني دورت ببصري اشرب من جمال منثور من حولي احتاج الى دهر في شربه ولا ارتوي .. وجاء صوت الازيز قويا والباب الى الاعلى يرتفع فتح مرة واحدة لنكمل سيرنا والسلم ما زال يرتقي ، ويرتقي ، واختفت كل المشاهد من حولي لم اعد ارى الا بشرا يمشون امامي او من خلفي وبقينا على هذه الحال ، خطوة سريعة ومسافات تطوى حتى وصلنا الى قاعة لا حدود لها يعجزالوصف عنها ، طولها عرضها ارتفاعها ، وفجأة ظهرت مخلوقات لم ارَ خلال حياتي مثلها كانت جميلة وصلبة فرقت الطابور الواحد الممتد الى طوابير بسرعة مدهشة وكل طابور ذهب باتجاه حتى لم يعد أي منا يعرف في أي اتجاه هو او الى اين الاخرون ذهبوا وانا كنت ما زلت امسك جيدا بحقائبي واحافظ على مكاني حيث اوضع وما هي الا لحظات حتى دخلنا في قاعة اخرى وفي اخر القاعة يجلس رجال لم اعرف لهم من قبل شبها يجلسون على
مقاعد فخمة خلف طاولات واسعة متقنة وقد وضع عليها ملفات لا تعد ولا تحصى وانتبهنا الى منادِ  ينادي : كل من يسمع اسمه يتقدم الى الامام ليقرأ عليه عمله ولن
يفوته شئ فقد احصينا كل صغيرة وكبيرة وكل شاردة وواردة فمن كان مجموع ما حصل عليه مما جمع يؤهله لجنة المأوى دخل من هذا الباب الى سعادة مطلقة لا تفنى واما من كان شقيا وجمعه كان لا يؤهله يدخل من هذا الباب الى جهنم عذاب مقيم لا يموت فيها ولا يحيا ..

ارتعدت اوصالي وسقطت حقائبي من يدي تصبب عرقي وانا ارى اكثر من في الطابور يدخلون من الباب الشمالي كنت اسمع صريخهم واستجدائاتهم وتعبت لم اعد
قادرا على الوقوف نظرت امامي كان لا يزال حشد هائل وادركت ان زمنا طويلا جدا سيمر قبل ان ينادوا باسمي اردت ان استأذن للخروج من الطابور لم اقدر
ولاحظت تقدم احدهم مني وهويلاحظ ارتباكي .. نظر بوجهي وفتح ملفا صغيرا وبعد ان امعن قال بامكانك ان تجلس هناك قليلا واشار الى مقعد فركضت وجلست
وانا اتسائل كيف ادخل يوم الحساب وانا لا اعلم ..؟! كيف فاتني او كيف لا اذكر انني مت من قبل حتى احشر ، لم يخبرني احد انه الموعد وفي غمرة هذه الاسئلة والاضطراب بحثت عن باكيت سجائري فلم اجده ، ربما هو بالحقائب خطر ببالي ان اقوم وابحث فيها لكنني استدركت ان التدخين حرام كان في الدنيا فكيف اجرؤ على اشعال سيجارة وانا بانتظار اما ان اسعد او اشقى ، تمنيت لو انني املك حبة مسكن للصداع ، اوحبة منوم انام واتخلص من خوفي ، شربة ماء باردة ، وانتبهت من امنياتي وذلك المخلوق يعيدني الى الوقوف بالطابور مضت مدة طويلة والخوف والرعب لا يزال يتمكن مني اكثر وبدأت اتحاور مع نفسي الى اين انا ..؟! قالت انت تعرف مصيرك ، قلت لها تبا لك انا اتحدث عن نفسي لاني اعرف من تكونين واين ستكونين ، ضحكت بصوت مرتفع وهي تقول لي : تبا لك ايها الاحمق اولست انا نفسك .. ام انك الان تريد الخلاص مني ؟ قلت لها : لم تامرينني بمعروف قط , بل ولم تنهني عن مكروه , وكل ما كان يشغلك هو انت ورغباتك التي لا تنتهي , قالت : اولم تكن تشاركني تلك الشهوات ؟! قلت كان عليك ان تتذكري لحظة كهذه ، قالت ولما لم تتذكر انت ..؟! وضحكت مرة اخرى بصوت بغيض

تشاجرنا وعلا صوتنا وزجرني احدهم دون ان يكلمها شعرت بالامتعاض والحزن وانتبهت فاذا اول الطابور قد صار قريبا ولم يعد يفصلني عن الذين يجلسون خلف الطاولة الا مسافة بسيطة فصعقت وبكيت وارتفع صوتي لم يعد في قدمي عصب لتحملني وبللني العرق والمسافة تقضم ,فكرت بالهرب لم يكن ذلك ممكنا وصرت اعد على اصابع يديّ من هم امامي والمسافة تصغر ، اغمضت عينيّ وانا افكر انه لا بد وان اناقش هؤلاء بقرارهم اذا كنت ساذهب شمالا وساطلب تدقيقا على كل فعل واطلب شهودا سأستأنف واميز وشعرت ان قلبي يسقط من بين ضلوعي وانا اسمع المنادي وهو يلفظ بكل وضوح اسمي حاولت ان اتنفس لم اتمكن كنت اقف بمواجهتهم تماما نظر اليّ الذي يجلس بالوسط وهو يفتح ملفا يصل الى سقف الغرفة ثم عاد ونظر الي وهو يبتسم وسألني محمد ؟ قلت نعم ، هزرأسه فاهتزت كل عظامي وتفتقت كل اوردتي ، ثم همس بأذن الذي على يمينه ثم بأذن الذي على شماله ثم جمعوا رؤوسهم بشكل متقارب وكأن خلاف دار بينهم الا ان ابتسامة كنت اراها بوجوههم وانا احاول ان ابتلع اي شيءِ اعثر عليه بريقي , اريدهم ان ينتهوا لاستريح ولا اريد لهم ان ينتهوا فالامر مخيف , واخيرا عادوا الى جلستهم ونظر الي الذي بالوسط وهو يقول : محمد تأتينا في الغد فقد انتهى دوام هذا اليوم ، شعرت بالبداية انه يسخر مني ولما اعاد نفس الكلام نظرت اليه وانا لا اسيطر على ما يدور برأسي ابتسمت قليلا فابتسم ، ثم ضحكت وضحكت حتى ارتفع صوتي وكأن جنونا اصابني حاولت ان امسك نفسي لم استطع لكن اهتزازا عظيما حدث لانتبه ان الطاولة اختفت وكل من كان وراءها والقاعة والابواب وبدأت اتهاوى ، اتهاوى ، واتهاوى حتى سقطت عن الكنبة التي كنت جالسا عليها وانا اروي لصغيري قصة قبل النوم ، وانتبهت فاذا الطفل يضحك وامه تضحك ، وانا مندهش اضحك ، وطفلي يغني مع محطته طيور الجنة ، طائر النورس حلق حلق ، وانا اردد خلفه بجنون حلق حلق ، بجناحيه صفق صفق ، صفق صفق . اوقفتني زوجتي لتسألني : ما بك ؟ قلت لها لا اعرف ولكي اجيبك تاتي في الغد فقد انتهى الدوام لهذا اليوم وعدت للغناء مع ابني بصراخ مرتفع : طائر النورس حلق حلق ، بجناحيه صفق صفق ، وقبضة من الحزن تعتصر قلبي ، وموجة من البكاء



تذبح صدري وتخنقني ..!


* قاص من الأردن

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *