ناهض حتر *
عرفته فتى ناحلا يبحث عن الحياة والحب والمعنى في ميادين الجامعة الأردنية؛ اكتشفتُ، توا، أنه الشاعر الذي منحه الشعب الكادح للحركة الوطنية الأردنية. ومذ ذاك، أحببته وأحبني، ولم نفترق أبدا.
أراه الآن وهو يقتحم مكتبي ويبدأ بالإنشاد، واقفا منفعلا فخورا، قصيدته عن الشهيد وصفي التل. كان يبتعد ويبتعد في ممارسات يعرف أنني أبغضها، لكنه ظل مخلصا للمهمات الشعرية التي انزرعت في وجدانه منذ سروات الجامعة وظلالها الغامضة. كان العهد السري غير المكتوب بيننا أن يكون أجمل ما في موهبته خالصا للأردن ورجاله وناسه وأرضه: نمر العدوان وصايل الشهوان وعرار ووصفي وحابس وتيسير السبول والشهيد الشيوعي حمدان الهواري والشيوعيين الأحياء والسنديان والكروم والتين والجنود والحراثين والصبايا السمر. وكان حرا بما يفضل من بقايا موهبة أن يتصرف بها كما يشاء.
أراد الفتى حبيب أن يكون شيوعيا؛ فلم يستطع أن يتقيّد بنظامية الفكر ولا أن يتحمّل الأعباء، لكنه ظل مخلصا للروح الوهاجة للأحمر في العلم الأردني حتى الرمق الأخير. وكانت آخر مشاريعه الاحتفال بسنديانة الأردن، الزعيم يعقوب زيادين. عشرون مرة هاتفني أو زارني لكي يتخيّل معي احتفالا عظيما في العالوك بالرجل الكبير.
كان حبيب ـ فعليا ورمزيا ـ يأتي إليّ ويذهب عنّي؛ “يخجل” ـ كما كان يعلن ـ من قدرتي على الولاء المواظب العنيف للأردن. الأردن عشقنا السري المشترك؛ نفهمه لهيبا فيه جذوة من التل وأخرى من زيادين. وكان يلجأ إليّ حين يرتكب الأخطاء، وأسامحه دائما، وأحبه دائما، وأهوّن عليه تقوّلات الجهلاء المتشنجين العاجزين عن رؤية النبع، وأولئك الحاقدين الذين يتمنون لو تجف أرض الأردن من ماء الحياة.
كان حبيب مولعا بحب النساء وبحب الأردن وبالحب يدشره في الطريق للبنات والأصدقاء والقصيدة؛ كان شاعرا كبيرا ـ ويعرف أنه شاعر كبير ـ ولم يكن يحفل بذلك، ظل ذلك الفتى المجنون اللاهي الحزين المفجوع البسيط المفتون المندهش الخائف الخجول.
لا تجود المجتمعات ـ إلا قليلا ـ بشعراء كبار يعبرون، بموهبة عالية، عن روحها وثقافتها ووجدانها ونبضها، وربما كان ذلك يحدث وفق قانون اجتماعي أدبي معقد من التراكم السياسي والابداعي عبر عقود، يظهر، نوعيا، في شاعر واحد. في بلدنا، أنتج المجتمع الأردني المتشكل من استقرار العشائر نصف البدوبة نصف الفلاحية ونشوء إمارة البلقاء في أواخر القرن 17، شاعرا كبيرا عبّر عن تلك اللحظة التاريخية هو نمر العدوان، ثم حدث انقطاع طويل حتى ولادة الدولة الأردنية التي أعطتنا شاعرا كبيرا آخر هو مصطفى وهبي التل ( عرار)، وتراكمت الإشعاعات الإبداعية للخمسينيات والستينيات في الشاعر الأردني الكبير الثالث، تيسير السبول، ثم جادت علينا السبعينيات، بالشاعر الكبير الرابع أمجد ناصر، والثمانينيات بشاعرنا الأخصب موهبة بينهم جميعا، حبيب الزيودي. وكم كنت أودّ أن يطلع على رأيي هذا في حياته، مكتوبا، لكنني كنتُ أتحاشاه لأسباب انتهت الآن برحيله. نعم .. حبيب الزيودي هو أهم شاعر أردني منذ تأسيس إمارة البلقاء.
كان حبيب يأتمنني على قصائده السياسية الهجائية؛ يأتيني ليقرأها سرا، فأسجلها في ذاكرتي سرا وأدوّنها، وكنت أفاجئه، أحيانا، بنشرها أو نشر مقاطع منها فيضطرب لكنه يعود فيأتمنني مرة أخرى.
قبل بضعة شهور، اتصل بي حبيب ليقرأ لي قصيدة جديدة بعنوان ” جاري”، وحين بلغ منها ربعها أدركت أنه لن ينشرها وربما تضيع، فاستمهلته وشغّلتُ مسجلة الهاتف وطلبتُ منه أن يعيدها ثانية، وحين نشرتها كان حائرا وخائفا وسعيدا، وأظنه اعتذر عنها تحت ضغط ما، فهاتفته عاتبا وغاضبا، وكان صبورا وخجلا وكان بيننا موعد لمراجعة الموقف بقصيدة جديدة يقطع فيها مع تردده ولحظات ضعفه، لكنه قضى كسلفه عرار عن 49 عاما، عاشها ملء القلب الذي لم يحتمل التناقضات فهوى.
في قصيدة ” جاري” ملخص لعذابات الأردن البري وناسه المفقَرين والمهمّشين، ليس فيها حقد وإنما حزن عميق على أردن قضى تحت عجلات الكمبرادور المسرعة وذهب ضحية فواتير المشاريع السياسية الامبريالية:
…
…
يحدّثني بزهوٍ حين نجلسُ في فناء البيتِ عن سور الرخام
… يلوحُ في بالي على وجعٍ
سياجُ الدار لما كان جدي يربط الفرسَ المشاكس
آه .. يا جار الرضا
كان السياجُ أحنّ
لما كان من حطب الجبالْ
وليس من ايطاليا
هو مثل سوركَ يا أبا محمود قبل الاحتلالْ
ووراء هذا السور كانت جدتي في الصبح مع كنّاتها يخبزن، مع شمس الضحى، الخبزَ الحلالْ
وعلى ممر الورد…
كانت خمسُ تيناتٍ يقفن كأمهاتٍ خلف منزلنا
حنوناتٍ على صوت الدجاج
وكنّ أجمل من ممرّ الورد هذا
آه يا جار الرضا
صرنا يتامى الأم لما ماتت التينات
يا ابن أبي تعال
لعلنا نبكي معا
كلٌ لصاحبه ـ
على مهلٍ ـ جحيمَ الاحتلالْ
جاري … يغضب كلما ذكر المنابتَ والأصول
ووحدها سندات تسجيل الأراضي في خزانته تبرّد قلبه
فاقول دعك من المنابت تلك مسالةٌ تقررها البنوك
… ودائما عنب الخليل
يقول لي ويقول لكْ
في الأرض دمعٌ ليس يفهم سرّه لا مَن أطاع ومَن عصا
او مَن مَلَكْ
لكنه كالبرق يومض في جوانح مَن أحبّ ومن أحبّ ومن أحبّ ..
ومَن هَلَكْ
يا رب بيّن لي الحرامَ من الحلالْ
القرميد في روسيا يذكّر بالثلوج وبالرعاة على الجبالْ
القرميد في اسبانيا رمز البنفسج في السلال
لكن للقرميد في بلد الهنود الحمر معنى واحدا:
السهم في جرح الغزالْ
السلامُ على وطنٍ
نحن نكتبه في السطور
ونشطبه في الصدورْ
السلام على وطن
لن يظل لأحفادنا فيه إلا القبور !
…
من حقّ حزنك أيها الهندي أن تبكي سدومَ وأن تمرّ على خرائبها وأن تبكي على الطلل الأخير
من حقّ حزنك أن تطالب هذه الدنيا بتقرير المصير
×××
حبيب وداعا أيها الفتى .. وداعا للابتسامة المندهشة في عينيك .. وداعا لجمرة قلبك التي لم تنطفئ .. الآن أنت حرٌ وحرٌ وحر… لن تكون مضطرا بعد لكي تداري خوفك أو تتابع مطامحك أو تقدّم التنازلات ..تستطيع اليوم في رحاب الله أن تكون أردنيا كما تريد وشيوعيا كما تحبّ …
سلّم على حمدان الهوّاري .. وقل له: قسما بسروات الجامعة وعذابات الحب والمطر الخفيف في تشارين البعيدة، أن جمرةً تركتها في قلب الأردن لن تنطفئ.
( عمون الاخباري )