مازن حيدر *
قبل موعد بيروت مع الانفجار الأخير وصل المسافرون الهولنديّون الخمسة في أوّل زيارةٍ لهم الى لبنان. جولةٌ تقليديّة في المناطق بين البقاع والشمّال مرورًا بجبيل ثمّ جنوبًا نحو أسواق صيدا فصور، عدَّد مُنظّم الرحلة اسماء المناطق، أضاف بعضها ليكسر رتابة البرامج التقليديّة. أمّا بيروت فهي بداية الرحلة وهي تستحقُّ يومين كاملين أو ثلاثة حسب قوله. في الماضي كانت المنشورات السياحيّة للبنان تُقسّم المدينة الى جزءين، القديمة منها أي منطقة البَلَد بأسواقها وساحاتها، والحديثة في رأس بيروت بشوارعها الأنيقة ومحالها الفخمة، وتختصرهما أخيرًا بزيارة المتحف الوطني. أمّا بعد الحرب فقد نشأ اهتمامٌ مُتزايدٌ بتاريخ المدينة الحديث والمعاصر، حتّى باتت قصّة الحرب الأهليّة وآثارها جزءاً لا يتجزّأ من رحلة اكتشاف بيروت. تتحدّدُ هويّة المدن بتاريخها، أي بتراكم الحقبات عليها وما أنتجه كلٌ منها من عمارة ومن تنظيماتٍ مدنية. يتجاور انتاج القديم مع الحديث والحديث مع المعاصر، ولا يقضي الجديد على ما سلفه، وان ظلَّ طاغيًا والاّ تحوّلت الهوية واندثرت المعالم وانتقل المكانُ الى معان جديدة يكادُ لا يفهمها أهل المكان أنفسهم. أكسبت بيروت السنون ألوان التقسيم والحروب والرعب وقد حلّت فوق ألوانٍ أكثر نصاعةً طبعت في ذاكرة أجيال الحقبة السابقة، تلك الأجيال التي عرفت وسط المدينة وجالت في أسواقه وعايشت نمو رأس بيروت الجديد. الحرب الأهليّة حاضرةٌ اذًا بشكلٍ مُباشرٍ وغير مُباشر. هي جليّةٌ في العمارة المُتضرّرة وأثار إصاباتها على واجهات الأبنية. لكنّها حاضرة أيضًا من خلال تقطّع أوصال المدينة بعضها عن بعض تارةً، وفي تداخل النسيج الحديث جدًا في بقايا مدينة أوائل القرن العشرين تارةً أخرى، وكأنّ هذا النسيج الجديد نبت في يومٍ واحدٍ بعد سنوات انتظار طوال. لم ترفع بيروت عنها آثار الحرب، ليس لأنّ سياسةً ذكيّة سعت لذلك، ولا لأنّ عقدين ونيفاً يفصلاننا عن نهاية الاقتتال الأهلي، بل لأنّه بسحر ساحرٍ تمكّن أهلها من تحريف معنى الاقتتال والتدمير، فأعطوه صيغةً جديدةً في زمن السلم. فقد صبّوا العنف الدّفين على ما بقي من إرثٍ معماريٍ وما كان من توازنٍ جمالي بين بناءٍ وآخر مُجاورٍ له. عادت لُغة الحرب تُغيّر المعالم وتطمسُ وجوه الأحياء لتُكسيها بغشاءِ الاستثمار الوحشي. يتسابق الميليشياويون الجُدد على الانقضاض على الأحياء القديمة الآهلة، يعرضون الأموال، يتشبّثون بعروضهم، يُسارعون إلى إتمام المُعاملات قبل أن يسبقهم أخصامهم ويحتلّون الجوار فيضيّقون عليهم رقعة الحلم بالبرج الكبير. ترتفعُ الأبراج شاهقةً أينما كان، ويتبارى الميليشياويّون الصّغار بمدى انتصابها تمامًا كما يفعلُ الأطفال بلُعبة المُكعّبات، أو كما يفعل عاطلٌ عن عمله بورق الشدّة. يتبنّى كلٌ طرف إنتاجه فيُطلقُ على البرج اسم ذلك الذي صمّم على بنائه. كأنّه حلمٌ طفولي كبته هؤلاء المستثمرون لسنوات بل لعقود، وعادوا وفجّروه وسط إعجاب من ساندهم من جمهورٍ تمرّسَ بالتصفيق والتهليل لزعيمه. قبل موعد بيروت مع الانفجار الأخير، وصل مُسافرون هولنديّون خمسة في أوّل زيارةٍ لهم الى لبنان. طُلبَ منّا أن نُرافقهم في رحلةٍ وجيزةٍ من خارج مبنى المتحف الوطني، مرورًا بطريق الشّام الى أمام «بيت بيروت»، أي المتحف قيد الإنشاء والتأهيل عند تقاطع النّاصرة. وَخَزَنا ضجيجُ السيّارات. سعينا في حديثنا لنربطَ تاريخ لبنان الحديث بنشوء المتحف الوطني، لنعودَ ونستذكرَ معبر المتحف، وما عاصرناه من فترة تقسيمٍ فنعودُ لواجهة البناء الذي رفع عنه آثار الحرب. خطر للوافدين الجدد أنّ آثار الحرب ظاهرة أمامهم، وهي رفيقة الهدم والإعمار على طريق الشّام من حيثُ أتى بهم السّائق. وقبل أن نُعاود مسيرتنا دوّى الانفجار أمامنا وتصاعد الدخان فكيف نتوقّف عن المسير ونحن لا نزال في أوّله على أدراج المتحف. تابعنا الكلام عن آثار الحرب المُباشرة وغيرها والدخان من على يميننا. تصرّفنا كمُضيفي الطيران الذين لا يُبدون أيّ انفعال بأي تعثرٍ تقني، علّهم هكذا يُطمئنون الركّاب. اختصرنا المحطات وتوقفنا أمام بيت بيروت، وقد ازداد الهلع من حولنا. علا صوت أبواق السيّارات على حوارنا عن مشاريع الترميم والذّاكرة والحرب. استرجعنا صفاءنا برهةً، لنتأكّد أن مطّبات كثيرة ستواجهنا في سردنا للحرب الأهليّة، فهي حاضرةٌ دومًا في المشهد حولنا، في العمارة القديمة والجديدة، في تبارز الأبراج وفي ألف مشهدٍ نُصادفهُ يوميًا، اعتدناه حتّى أصبحَ جزءًا منّا. اعتيادنا هذا المشهد الشّاذ هو الدليل القاطع على أنّنا ما زلنا في قلبِ الحروب.
* مهندس معماري من لبنان
( السفير )