عادل داوود يروي “حالات” بشرية بمزيج من التعبيرية والتجريد




هاني الحوراني *

بين ضفتي التعبيرية والتجريد يمخر عادل داوود بريشته عباب البرزخ الفاصل ما بين الحلم واليقظة. يبدأ عادل داوود لوحته بخطوط سريعة، مسلماً نفسه لحالة من اللاوعي التي تقوده الى تشكيل مركز عمله أو “لبُه”، ومن ثم يشرع بضربات فرشاة عريضة لملئ تخوم لوحته بمساحات من الألوان الصريحة التي ربما يعجز هو عن إدراك سبب اختياره لها. تتسارع ضربات الفرشاة ليضفي المزيد من الدرجات اللونية على مساحات التخوم، وتأخذ ملامح لوحته بالوضوح شيئا فشيئاً، فإذا به يضيف هنا وهناك رشقات من فرشاة عريضة، ليعود بعدها الى لب اللوحة، بفرشاة صغيرة، ليضيف المزيد من التحديد لمعالمها وغالباً باللون الاسود. تحتل مركز لوحته اجساد او وجوه غامضة الملامح، قد تجد وجهاً أو وجهان ملتصقان دون ان تعرف أين يبدأ الوجه الأول وأين ينتهي، كما لوأنهما باتا كياناً واحداً. قد يكون الوجه وجه طفل أو وجه رجل أو وجه امرأة. وسرعان ما يتحدد مكان الجسد في موضع ما من اللوحة، وليس دائماً في وسطها، وقد تتغير معالمه، وحتي شكل تموضعه، فقد يتكور حول نفسه، أو يتمدد على مساحة اكبر من اللوحة، وغالباً ما يتقرر موقعه النهائي عندما يكون عادل داوود في أوج توهجه ويقظته الحسية.



تبدو علاقة عادل داوود بلوحته كما لو أنها رقصة فالس، وأحياناً كما لو أنها مبارزة، فهو يقترب ويبتعد راشقاً فرشاته السريعة في وجه القماشة، وبين الحين والأخر يبتعد عنها ليتأمل نتيجة عمله، ليعود لرشقها بفرشاته، ويظل هكذا لساعات إلى أن ينهي عمله، وحينها يحملها ويضعها جانباً ليأخذ استراحة مع كوب من الشاي أو القهوة. لكنه لا يلبث أن يعود يستأنف الرقص من حول لوحة اخرى، وقد يمضي أياماً متواصلة على هذا المنوال، قبل يخرج الى وهج النهار وصحبة الاصدقاء .


عادل داوود الذي يقيم معرضه الثاني في صالة رؤى32 للفنون، فنان سوري شاب، من مواليد الحسكة، عام 1980، هو، في واقع الأمر، من سلالة فناني الجزيرة في شمال شرق سوريا، وهو مثل فنانين آخرين من أبناء منطقته، كردي بالولادة والدم، لكنه سوري العمق، أخذ مكانه سريعاً في طليعة جيله من الفنانين الشباب، بعد مشاركته في نحو خمسة عشر معرضاً جماعياً قبل أن تقوم صالة “آرات هاوس” في دمشق، باحتضان معرضه الشخصي الأول في نيسان | ابريل 2012، ثم استضافته صالة مركز رؤى32 للفنون بعمان لإقامة معرضه الشخصي الثاني، والذي يستمر حتى نهاية تشرين الاول/اكتوبر الجاري.

أعماله الأربعة والعشرين ، المنفذة على القماش بالألوان الزيتية والاكريليك، و التي يتراوح مقاييسها ما بين المتر المربع وبين المترين X متر ونصف، تفسر سرعة وصوله إلى صالات العرض الكبرى، وسر الكيمياء الاتصالية بينه وبين عيون المشاهدين، حيث تنجح المعادلة التي يقيمها الفنان عادل داوود ما بين الطاقة التعبيرية الكامنة في الكتلة المركزية للوحة وما بين فضائها التجريدي. إنها معادلة “لغزية” قد لا نستطيع تفكيك “كودتها” البصرية فوراً، لكنها تبعث في المشاهد طاقة إيجابية لا تقاوم .
مهما كان سر “مفاتيح” أو كودات لوحة عادل داوود، فإنها تجبرك على الوقوف والتأمل والتعاطف وربما التفكير في مصائر شخوصه. إن خلفية الفنان ومصادر إلهامه تفسر لنا سر المعادلة الخاصة للوحته، انه أولاً سليل سلسلة من فناني الحسكة والجزيرة عموماً، مثل عمر حمدي (مالفا) (المقيم في العاصمة النمساوية، فيينا، منذ عدة عقود) ودنيخا زومايا وبرصوم برصوما وعمر حسيب الذي توفي عام 1998، وزهير حسيب وخليل عبد القادر وسبهان أدم وعمران يونس ومحمود حسو، وعبد الكريم مجدل بيك وزبيريوسف (المقيم في المانيا) وبشار عيسى (من الدرباسية ومقيم في فرنسا)، وعدنان عبد الرحمن وبرهام حاجو ويوسف عبد ليكي، والاخيران هما من القامشلي. ولا بد أن هذه السلالة من فناني الجزيرة أخذوا من طبيعتها وألوانها ما أوقد شعلة الإبداع في صدورهم ودفعتهم إلى الصدارة، حتى باتوا علامات طريق لعادل داوود وهو يخطو خطواته السريعة في عالم الفن التشكيلي.


لقد تأسس عادل داوود على يد فنانين مخضرمين ومميزين في الحسكة مثل الفنان برصوم برصوما، خلال فترة دراسته في مركز الفنون هناك، حيث تمرس في الرسم الأكاديمي، ولا سيما في رسم الوجوه والطبيعة الصامتة، وفي الرسم التخطيطي قبل أن يكتشف هويته في التعبيرية الحديثة.
كما تأثر الفنان الشاب بالتعبيرية الألمانية المعاصرة، والتي كان من أبرز رموزها عربياً، الفنان السوري مروان قصاب باشا، الشهير برسمه للوجوه، كما لو كانت مشاهد طبيعية. وفضلاً عن ذلك فقد أثر به الفنان النمساوي “إيغون سيشيل” الذي اشتهر برسمه للأجساد العارية والأوضاع الإيروتكية ومات شاباً دون الثلاثين، ومع ذلك حفر إسمه في تاريخ الفن الأوروبي المعاصر. وكذلك هو حال الفنان الفرنسي تولوز لوتريك الذي يعد أحد مصادر الهام عادل داوود المبكرة.
لكن يبقى أن نشير إلى أن عادل داوود ليس هو حاصل جمع الخلفيات والتأثيرات المارة، وإنما هو نتاج تفاعل بينها وبين روحه الملحقه ما بين الحلم والخيال والرؤية الطفلية للواقع المعاش. فهو لا يرى واقعه بمقاييس المكان والزمان الماديين، وإنما من خلال رؤية متسامية عن التفاصيل المبتذلة أو الفائضة عن الحاجة. إن مركز إهتمامه هو الإنسان بما هو إنسان، ولذلك لا تجد في أعماله علامات دالة على المكان أو الزمان، حتى لكأنه ينتمي الى عالم “سديمي” لا يحتوي على علامات أو شارات أو لغة أو رموز.
معرض “مساحات” لعادل داوود علامة مهمة في الفن السوري المعاصر ، تنبئ بفجر جديد.


* باحث وفنان تشكيلي ومصور من الأردن

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *