هاني الحوراني *
مرت قبل أيام (16 أيلول الجاري) ذكرى رحيل منيف الرزاز، المفكر والمناضل والطبيب- الإنسان. وقد ذكرتني بهذه المناسبة المقتطفات التي نشرها في “الغد” إبنه عمر الرزاز وقدم لها، تحت عنوان “رؤية منيف الرزاز للمشهد العربي اليوم”، وهي مقتطفات إختارها من كتابين لوالده: “الحرية ومشكلاتها في البلدان المتخلفة” و”التجربة المرة” اللذين صدرا عامي 1965 و1967 على التوالي.
ورغم أني لم أعرف منيف الرزاز في حياته التي إنتهت في مقر إقامته القسرية ببغداد عام 1984، ورغم أن نفوري من الأحزاب القومية عامة، والبعثية خاصة، قد حال دون إطلاعي على مؤلفات منيف الرزاز العديدة، لكني، بالرغم من ذلك، فقد راكمت منذ زمن بعيد نوعاً من التقدير والاحترام لهذا المناضل الأردني الكبير، إستناداً للمتابعة البعيدة لمسيرته النضالية، بل إن وصوله إلى موقع الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، مباشرة بعد ميشيل عفلق، مؤسس الحزب وأمينه العام لردح طويل من الزمن- أقول أن ذلك “دغدغ” مشاعري الأردنية، بوصول ابن بلدي إلى هذا الموقع الرفيع، على رأس حزب حكم بلدين عربيين كبيرين بوزن سورية والعراق.
والواقع أن مأساة هذا الرجل أنه كان مثقفاً، والأرجح أنه كان مثقفاً حالماً. وقد وقع ضحية أحلامه، إذ كان من أوائل ضحايا الدكتاتورية البعثية التي أكلت أول ما أكلت أبنائها من قادة وكوادر الحزب، قبل أن تنتهي بالبلدين اللذين حكمتهما ما بين فكي الغزو والاحتلال، كما هو حال العراق، وأتون التفكك والحرب الأهلية، كما هو حال سورية اليوم. ربما لم يخطر ببال منيف الرزاز، حتى في أكثر أيامه كابوسية، وهو محتجز في إقامته القسرية، أن مؤلفاته السابقة، ولا سيما استخلاصاته حول الديكتاتورية هي أقرب ما تكون إلى النبوءة بمصائر العراق وسورية، وكذلك ليبيا واليمن، وغيرهما من البلدان التي رزحت، أو لا زالت، تحت كابوس الاستبداد السلطوي، لقادة مثل “القائد الضرورة”، و”ملك ملوك إفريقيا”، وما شابههما.
لقد تعمقت صلتي بمنيف الرزاز، من خلال إبنه البكر، المرحوم مؤنس، وذلك حين وضع بين يدي أوراق منيف الرزاز غير المنشورة، والتي إحتوت على فصول أولى من مذكراته، التي من غير المعروف إن كانت قد اكتملت وفقدت، أم أن ظروف الإقامة القسرية (وبالأحرى الاعتقال في منزله ببغداد) لم تترك له فرصة إستكمالها.
ولقد كان من دواعي سروري وافتخاري أن قمت بنشر هذه الأوراق في عام 1993 تحت عنوان “رسائل إلى أولادي”، ضمن سلسلة “إحياء الذاكرة التاريخية”، التي كانت قد بدأت بالصدور عن مركز الأردن الجديد ودار سندباد للنشر، في طلائع التسعينات من القرن الماضي.
في مخطوطته الأصلية عنون منيف الرزاز أوراقه غير المنشورة بعنوان “رسائل إلى ولدي”، ويعني هنا المرحوم مؤنس الرزاز، الذي كان حينها في سن الشباب، ما يؤهله لقراءة هذه الرسائل، وقد إجتهدت، بعد أن كنت تعرفت على عمر الرزاز، بتغيير عنوان الأوراق عند نشرها إلى “رسائل إلى أولادي”. فهي، بعد مرور هذه السنوات على كتابتها، وبعد وفاة مؤلفها بنحو عشر سنوات، وجدت أن من اللائق أن تكون موجهة إلى أبنائه الثلاث: مؤنس وعمر وزينة. والملفت أن المرحوم مؤنس، رغم أن الرسائل وجهت له بالأصل، لم يناقشني ولم يعترض على هذا التعديل الطفيف على اسم المخطوطة.
ما قربني من منيف الرزاز ليس فقط أوراقه غير المنشورة، “رسائل إلى أولادي”، وهو ما سوف أعود إليه في مقالة لاحقة، وإنما أيضاً تقديم مؤنس للأوراق. فقد أعاد التذكير بمنيف الرزاز كمفكر ومناضل، فهو يقول: “كتب أهم كتبه حول الديمقراطية وحقوق الإنسان وضرورة التعددية في عام 1952، حيث فاز كتابه “معالم الحياة العربية الجديدة” بجائزة جامعة الدول العربية عام 1953″. كما كتب في السبعينات “فلسفة الحركة القومية” بجزئيه، حيث نُشِرا، لكن مخطوطه الجزء الثالث صودرت وهو في الإقامة الجبرية”. ومما يقول مؤنس الرزاز في تقديمه لأبيه: “إن هاجس (منيف) الرزاز المستمر، والذي أدى إلى دفعه ثمناً باهظاً من حياته، هو إنحيازه لحقوق الإنسان، فقد كانت حقوق الإنسان، بالنسبة إليه، فوق الولاء للحزب وفوق أي شعار آخر”.
لا أحد يمكن له أن يتكهن بما كان يدور في رأس منيف الرزاز، وهو في إقامته الجبرية، وهل هذه النهاية المستحقة له، بعد مسيرته السياسية الطويلة، والذي دفع خلالها الكثير من حريته، ومن معاناة زوجته المرحومة لمعة بسيسو وأولاده، سواء أثناء نفيه إلى سورية (1952) أو إعتقاله المتكرر في بلده الأردن، عام 1957، في معتقل الجفر السيء الصيت، ثم في عام 1963، أي لمدد تصل إلى اربع سنوات، أو من خلال إختفائه وهروبه من سورية بعد إنقلاب رفاقه البعثيين، المشهور بإنقلاب 23 شباط 1966، الذي شكل أول تمزيق جدي لصفوف هذا الحزب، وإنتقال الهيمنة فيه، وفي الحكم، إلى العسكر، أم إبان فترة الإقامة الجبرية التي فرضت عليه، وعلى عائلته، في بغداد لمدة ست سنوات (1979/ 1984) إنتهت بوفاته. فهل فكَّر، مثلاً، أنه كان، ربما منذ البداية، في المكان الخطأ؟ وهل واسى نفسه بأن مصيره أفضل من مصير العديد من الرفاق القياديين الذين أُعدموا، عام 1979، بإطلاق الرصاص عليهم من قبل صدام حسين، لمجرد الإشتباه بتورطهم بتدبير إنقلاب عسكري ضده؟
لقد أحسن د. عمر الرزاز بتأسيس موقع لعائلته المثقفة المناضلة على الشبكة العنكبوتية (http://razzaz.com)، ليضم فيه أوراق منيف الرزاز ورسائله إلى زوجته المرحومة لمعة بسيسو وأوراق المرحوم مؤنس الرزاز، إضافة إلى صور ووثائق أخرى. ولعل تدشين هذا الموقع كان بمثابة إستجابة الشقيق لشقيقه، فقد كتب مؤنس في تقديمه لكتاب “رسائل إلى أولادي” ما يلي:
“قد يأتي اليوم الذي يواصل أحد أولاده أو رفاقه أو زوجته، ما إنقطع في سيرته الذاتية وخواطره التي وضعها في هذه الرسالة الطويلة التي هُرَبت من الإقامة الجبرية تهريباً. والتي كانت مجرد مقدمة لسرد ذكريات حياته في الأردن، فحالت يد المنون بينه وبين إنجاز هذا الهدف”.
تحية لروح منيف، ولروح زوجته ورفيقة دربه المناضلة لمعة بسيسو، ولروح مؤنس القلقة، والتي لم تسلم حياته القصيرة من سموم وظلال الدكتاتورية والإستبداد، التي كان والده قد حذر منها في شبابه ودفع ثمنها في كهولته.
وشكراً لعمر الرزاز الذي ذكَّرنا بوالده، وبصفحات لا تنسى من عذابات هذه الأمة التي لم تعش بعد ربيع الحرية والديمقراطية، والعزاء أنها على أعتابه، وإن طال تعنت الطغاة وإستفحلت المعاناة.
* باحث وفنان من الأردن
hourani.ujrc@gmail.com