إنتر فيو **


أمير تاج السر*
ثقافات-               يوم عصبي لمهنتي في المستشفى الحدودي البعيد، فقد جاءتنا راكضة تعليمات من إدارتنا الإقليمية، تقضي بتعيين ممرضين جدد، وذلك لطرد الجوع المهني الذي كان يحاصر تلك المهنة، ويجعلها سيئة التغذية، تترنح وهي تؤدي مهماتها. كنا فرحين للغاية، أنا ورئيس الممرضين، ومحاسب الحسابات البائسة، وعدد من الفراشين، والمرضى أيضًا، كنا نرى في ركض التعليمات جدية، وعلاجًا لصمم كان مزمنًا في إدارتنا الإقليمية.
كانت الشروط ساذجة للغاية، ولعلها الأكثر سذاجة في العالم كله، أن يكون المتقدم من أبناء المنطقة، أن يكون حاصلًا على الشهادة الابتدائية أو ما يعادلها، ويشمل ذلك المعادل شهادات العُمد ونظار القبائل، وشيوخ الخلاوي، وبكاء النساء، واستعطافات المسنين، وأحيانًا توصيات غاية في الخشونة من برلمانيين إقليميين نهبوا مقاعدهم، ويسعون لنهب وظائف لمؤيديهم في الخدمة العامة. أيضًا حدد العمر بين السادسة عشر والثلاثين، فأعطيت مساحة شاسعة تكفي للعب بالأعمار ودس الصبية والمراهقين والكهول في بلدة لا تملك سجلًا قاطعًا للمواليد أو الوفيات.
كانت الحصيلة تسعين طلبًا، قدمت مبتسمة ومكشرة، واثقة وضارعة، ميتة ومسنودة بتوصيات العمد والبرلمانيين، حتى المراسل الذي كان يقف على باب مكتبي الريفي ويعد الشاي والقهوة، يتبسم في وجوه الأعيان ويكشر في وجوه «الغُبُش»، فوجئت به يرتدي الزي الأبيض اللماع، ويضع اسمي في خانة الأشخاص الذين يمكن الرجوع إليهم لتزكية المتقدم إلى الوظيفة، قلت له من عيَّنك ممرضًا يا محمد آدم؟.. قال: أنت يا عمي، ثم مضى إلى أحد العنابر حاملًا محلولًا من الملح، وحقنة للملاريا، وابتسامة أوسع من ابتسامة «جينا لولو بريجيدا».
قمنا بغربلة التسعين متقدمًا، قيمناهم أكاديميًّا وقبليًّا وعشائريًّا، واستبعدنا بضراوة أي منحى باتجاه المظهر العام. فظل الملتحون ملتحين، والحليقون حليقين، والذين يرتدون القمصان والجزم، مثل الذين يرتدون «العراقي» والسروال، وصنادل «التموت تخليه» المصنوعة من إطارات السيارات، والموغلة في المحلية، وعندما أعلنا أسماء العشرة المطلوبين كنا مرهقين وجائعين، وممزقي الذهن، لكن الأمر لم ينته.
كانت الثانية بعد الظهر عندما اقتحمنا «حقَّار شجر غابات» كان مهتاجًا لدرجة أن كيانه الأسمر الداكن كان معطونًا في العرق، وعينيه الموصوفتين بـ«العسليتين» في بطاقته الشخصية تنزان نارًا حمراء.. كنا قد أسقطناه بجدارة، لم نجد شرطًا واحدًا يسنده، فهو من أبناء جبال النوبة في أقصى الغرب، تسرب إلى الحدود «الإريترية» هربًا من جوع الغرب إلى جوع الشرق, ومن عشوائية «كادقلي» و«الدلنج» إلى عشوائية «قرورة» و«عيت» و«عدوبنا».. كان عكازه الأكاديمي الذي جاء يتوكأ عليه، شهادة في محو الأمية، عكازه الاجتماعي.. عدة أغنيات بالغة الأسى شدا بها في ليل الحدود وهو سكران، وعكازه البدني، عضلات صلدة تصلح لرفع شاحنة لا لحقن حقنة، أو تركيب قسطرة، أو وضع مطهر على جرح، حتى اسمه «حقَّار شجر غابات» كان يوحي بازدراء النظم، ومناطحة القوانين، وتسديد لكمات قاتلة للأسماء جميعها بلا حصر.
حاولنا إقناعه بهدوء فلم نستطع، بخشونة، فلم نستطع، بصراخ، وطرد، فارتفعت أكمامه إلى ما فوق رسغيه، وأطل سكين أميِّ من جيب سروال الممرضين الأبيض الذي فصله كقرار نهائي بلا رجعة. كانت نظارتي الطبية ترتعش، وكبير الممرضين الذي أنفق خمسين عامًا في تلك المهنة يكركر من بطنه بلا توقف. قال «حقَّار شجر غابات»:
– حتى إخواني في الدلنج عرفوا أنني أصبحت ممرضًا، وستأتي والدتي للعلاج هنا.
فجأة قال كبير الممرضين:
– سوف نمتحنك يا حقار.. فإذا نجحت نقوم بتعيينك.
ولشدة دهشتي تقبل الرجل الأمر، وارتخت عضلاته تمامًا، عادت عيناه عسليتين، وتقهقر سكينه إلى قاع جيبه. انغرس في أحد المقاعد وبدا متقدمًا عاديَّا وربما أكثر خجلًا وارتباكًا.
سألناه عن جداول الضرب، فتقيأها كاملة. عن وظيفة الطبيب فخاطها من قميصها الإنساني حتى حذائها العلاجي. عن وظيفة الممرض، فلم يترك فيها لحمًا إلا عراه. وعندما سألته في النهاية عن مرض والدته الذي يكبدها كل تلك الهجرة للعلاج هنا، قال: إنه مرض الفرح.. فرحة الأم بابنها.
في اليوم التالي كان «حقَّار شجر غابات» ممرضًا تحت التدريب يزهو بلباسه الأبيض، وأسنانه البيضاء، وعراك الملفات والمحاليل، وأوامر الطبيب، وكان يغني…..

* روائي من السودان يقيم في قطر
**فصل من كتابي الجديد ( سيرة الوجع ) الذي سيصدر قريبا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *