في ضوء ‘الربيع العربي’ المفترض أفكار حول أطروحة الإصلاح وعوائقه


أحمد المديني

راودتني منذ انطلاق حركة ما اصطلح عليه بـ’الربيع العربي’ فكرة الكتابة عن جملة الحوافز والمرجعيات الثاوية خلف هذه الحركة، والآفاق التي يمكن أن تطولها وتمتد إليها.
من الواضح والبدَهي، أيضا، أن قطب الرحى في هذه الحركة، وكما يُلتمس ذلك من إجماع الجمهور (فقهاؤها ونخبتها والشارع)، هو فكرة الإصلاح، وليس الثورة العارمة التي هلّل لها البعض، وظنوا، بحكم اكتساحات شعبية وتظاهرات عارمة، أنها حلت، لن تبقي ولن تذر. وجدتني تدريجيا، ونبرة الاحتجاج تتصاعد، وانهيارات أنظمة تتوالى، كانت في حكم المنهارة؛ بالأحرى هي جمرة حماسي تسير نحو الخمود، لا بسبب ما يُنسب عادة إلى المثقفين من برود التأمل، ولا لأن مفكري الإعلام المعلب سارعوا إلى قبر المفكرين الحقيقيين، ونزعوا عنهم عنوة كل ريادة وترقب في فهم الحاضر واستشراف المستقبل، بل بسبب ارتطام شديد وتضارب في الفهم والأفعال والتأويلات والمبادرات حول هذه الحركة المسماة ربيعا عربيا بإطلاق، ولا نعرف اليوم، وقد دخلت منطقة الغموض والترقب، نحو أي فصل آخر ستنتقل.
لقد كانت حالة هيجان سارية في كل الأوساط، الشعبية على الخصوص، مع اندلاع أحداث بلدة سيدي بوزيد التونسية وبطلها البوعزيزي، عقبها أطيح بنظام زين العابدين بن علي (15 يناير2011)، ثم اندلعت انتفاضة ميدان التحرير مما ولد مسلسلا انتهى إلى خلع الرئيس المصري حسني مبارك (يوم الغضب المصري 25 يناير2011)، لتشتعل حالة الغضب في البلدان العربية كافة، ويصبح الرفض هو التعبير الأعلى والنبرة الأقوى، من غير أن يكون مطلوبا تحديد أي مضمون محدد لهذه الانتفاضة الشعبية، التي وجدت عبارة واحدة تعلنها رمزا وشعارا لها بمطالبتها للحكام في أمر عاجل: ‘إرحل!’. أقول إن الغضب هو الطاقة الكامنة في الحركة كلها، جلها، وهو غضب استشرى وراح يحرق في طريقه، وبسواعد الشباب وحناجرهم، كل ما يجد، وتحديدا في احتجاجه ومطالباته الحارة لإسقاط الحكم الفاسد ورموزه، من غير أن نميز، من حيث الظاهر على الأقل، وبشكل مباشر، وجود قوى علنية تحرك الموج العارم، مع الجهر ببرنامج واضح، محدد، عدا الصمود في مطلب رحيل الفساد دون أن يعيَ الجمهور المحتج نفسُه المحتوى الكامنَ في الكلمة، أصبحت مرادفا لكل ما ليس مقبولا، وينبغي أن يزول، وإن عَنَتْ ضمنا في وجدان الناس وعقولهم مفردات: الاستبداد، الظلم الاجتماعي، قهر الحريات، انعدام المساواة، غياب الكرامة وحقوق الإنسان عموما، الخ..هذا ما فهمناه نحن في المغرب، مثلا، من وضع شعار محاربة الفساد عنوانا لحركة الاحتجاج الشعبي المسماة ‘حركة 20 فبراير’، لم تبَحّ حناجر أعضائها من ترديد الشعار نفسه رغم الاستفتاء على دستور جديد وتشكيل حكومة انبثقت من انتخابات نزيهة، بلا جدال.
لا يعدل كلمة أو شعار محاربة وإسقاط الفساد في الحركة الربيعية العربية إلا كلمة أو شعار: سقوط الخوف. توصيف لخروج الآلاف في المظاهرات والمسيرات المطالبة إما بإسقاط حكام وأنظمة، أو الداعية للإصلاح. خروج عام وكاسح في أغلب العواصم العربية، إما لم تتصد له السلطة، أو تقهقرت أمامه بعد مواجهات فاشلة، وأظهر بما لا يدع مجالا للشك بأن الخوف الذي كان يلجم المواطنين، تحت وطأة القمع الأمني والعسكري، قد تداعى جداره، والصورة اليوم أصدق إنباء من الكلمات وأي بلاغة. لقد قيل عن المواطن العربي ‘الغلبان’، إنه، وهو الذي لم يكن يفتح فاه إلا عند طبيب الأسنان، طبعا إن وجد ثمن مراجعة الطبيب، صار يصرخ بأشرس الاحتجاجات، يتصدى بشجاعة لهراوات الشرطة وأحيانا لرصاص العسكر. بدت أوقات تنفيس لا مثيل لها، وقد شاهدنا نحن الملايين ما جرى في ميدان التحرير وجواره من جسور وفروع، ووقفت بعيني على مشاهد المواجهات الدامية في القاهرة، وخضت مظاهرات الدار البيضاء الأولى والرباط المترددة، أولا، ثم الجامحة تباعا، وإذا هو جن الغضب يخرج من عقاله، وتاريخ طويل، رزح من الحنق والكبت، يريد أن يسقطه المتظاهرون، يخرج التعبير عنه في كلمات ما أكبرها وأهوَلها، كانت تقود ناطقها من قبل إلى سنوات خلف القضبان، وها هو يرسلها عفو الخاطر هتافا ونشيدا وغناء صادحا بأي غبطة، تراه لا يخشى في الحق لومة لائم! طبعا، لم يخطر ببال أحد في وقت الهيجان هذا أن يتساءل عن طبيعة لعبة الكر والفر في بعض الميادين، ولا لم استسلمت أنظمة ما بسهولة، لمجرد أن أفرادا وسط الحشد رفعوا يافطة كتب عليها’إرحل!'( D’gage) مثلا، وإلى أي حد وُجدت رغبة لترك البشر أحراراً غِضابا بعض الوقت، ينفسون عن غضبهم ويتحررون من خوفهم، ومن قبيل هذه الأسئلة كثير، وما هي تفلسف ولا ترف فكري، كما قد يتولى الرد أحد، والدليل ما نحن فيه اليوم، وما إليه تؤول في مسلسل متواصل في البلاد التي هبّ عليها الربيع، ذاك!
الآن، وقد مضت سنة ونيف على حركة الانتفاضة العربية الكبرى، وهذه تسمية لا تخلو من تعميم وحتى تجريد، نحس بالأنفاس، تلك الأنفاس الحارة، والحناجر الضّاجة، تنكفئ إلى البرود والخفوت، والمسارات تتحدد بطريقة وبأخرى، ترسم خريطة/خرائط تغييرات ومعالم تغيرات، تصعد فيها قوى إلى مراكز السلطة التنفيذية وتتولى أمور التشريع لها وللمجتمع، معلنة أن رسالتها هي الإصلاح لاجتثات الظلم والفساد، فيما تنهار إلى جانبها قوى احتكرت طويلا هذه السلطة، هي بدورها أعلنت استحواذها السابق للسلطة ذاتها من أجل الهدف عينه. ليس هذا وقت تقويم الأعمال ما دامت لم تتحقق بعد، هي على الأغلب في طور النوايا المعلنة أو مخاض الإعداد عبر النصوص الدستورية، والمناورات الانتقالية حينا، شأن مصر، أو التطبيقات المواجَهة بواقع المصاعب من كل نوع، شأن تونس، أو غيرها حيث يبدو التغيير كأنه عملية سلسة، فيما يخضع في العمق لامتحان ترويض النمرة، شأن المغرب تحديدا. بل هو ليس وقت الفحص الدقيق للخطابات، ما أكثرها، الصادرة عن القوى الصاعدة، في مقدمتها جحافل الشباب التي اكتسحت الميادين المختلفة، وبلورت لغة الاحتجاج عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والقوى السياسية والإيديولوجية الإسلاموية والمحافظة، الراسخة منها والمنبثقة، وقد قطفت ثمار الاحتجاج قطفا ‘مشروعا’ بواسطة المساطر الديموقراطية البحت. فللسياسة خطابها المتبدل، الحربائي، كجزء من طبيعتها وصورةً عن مراوحاتها البراغماتية، دون أن تتخلى عن إيديولوجيتها الناطقة أو الكامنة، وللقوى الإسلاموية في هذا المنحى تجربة طويلة، لا تملكها بطبيعة الحال شراذم الشباب القادمين من كل الاتجاهات، والذين لا يجمع بينهم، إن جمع، إلا الغضب، والمطالبة بإسقاط الاستبداد والفساد، وهذا شعار لا برنامج، والنقد الصائب المنهجي يتطلب في الأحوال كلها، وإزاء ما نحن بصدده، توفر البرنامج، ودخوله حيز التنفيذ.
يصبح مطلوبا إزاء هذه العوائق الأولوية، وفي انتظار أن تنجلي الصور الراسمة لبانوراما التحول الكلية، استجلاء بعض وجوه الغموض، وتدوين ملاحظات أولية، في هذا السبيل.
أولها، في اعتباري، ما جرى تداوله، وبدون تمحيص، خاصة على صعيد إعلام عربي سِمَتُه الخفة دائما، والضحالة كثيرا، من أن الشباب، الأجيال الصاعدة وحدها، من خلخل بنية الجمود داعيا إلى التغيير، بينما النُّخب العربية التي كانت رائدة في الماضي فاتتها الفرصة هذه المرة إن لم تكن قد انسحبت من الميدان. قولٌ ينطوي على جهل وإنكار وتسفيه مغرض، يمحو التاريخ، تاريخ ثقافة وشعوب وسيرة نضالية حافلة بالمشاريع النهضوية والبرامج الإصلاحية في المجالات المختلفة. وعملية المحو، هذه، قائمة منذ وقت على قدم وساق، وهدفها مكشوف هنا، بجعل تاريخ العرب يتحرك باستمرار في مدار الصفر، وخلق صدام مفتعل بين النخب والقواعد التي تنبثق منها هذه النخب، وتبلور مصالحها وتطلعاتها وفق برامج وآليات محددة.
ثانيها، متسلسل من الاعتبار الأول، مفادُه أن حركة الربيع العربي كأنها تأتي من سديم، من زمن خلا من كل الفصول، حتى ولو كانت خريفا وشتاء وأصيافا قاحلة. أي، هاهم العرب، مسلموهم ومسيحيوهم، معا، مشرقا ومغارب، يرفعون رأسهم، للمرة الأولى، وهكذا بجرة قلم، ضربة لازب، يتم التشطيب برعونة لا مزيد عليها، وإنكار جاحد، مفتقر ليس إلى الصدق الأخلاقي وحده، بل وقبله إلى الحقائق التاريخية والتوثيقية الدامغة، تلك المسجلة منذ أواخر القرن التاسع عشر، والعقود الهامة الموالية لها صُعُدا، حين انخرطت الأمة العربية، بعديد شعوبها ونزعاتها، كل حسب مقدراته وظروفه، في مشاريع الإحياء والنهضة والإصلاح، التي تحمل عناوين محددة، ومنظمة، في تاريخ الفكر السياسي والفكري والاقتصادي العربي وبالتالي ليست قابلة لشطط المحو وإقبار الذاكرة، ولا لعبث من يبغون عُنوة قتل أب لم يعرفوه، فضلا عن أنه سوى الروم خلف ظهرنا روم، يغذون هذه النزعة، من حيث يلوّحون زعماً تتسُّمَنا نفحات الربيع، طبعا الذي أينعت زهوره في صحراء ويباب، فأين يوجد هذا؟!
ثالثها، في زمن يطغى فيه الإعلام على الفكر، والترويج الدعائي والاستهلاكي، الانفعالي، يسبق التأمل ويستغني عنه، لا يوجد لا وقت ولا مجال لضبط وتدقيق المصطلحات، ونغرق في التعويم والتعميم، من ذلك أن كلمة إصلاح تتحول إلى قالب أجوف، قابل لأن يُُحمّل بأي شيء، والحال أن لها محتوى مخصوص، ومستقل بكل مرحلة تاريخية على حدة، وهذا منظم في تاريخ الفكر والسياسة العربيتين. لا يمكن إطلاق الكلام على عواهنه، وبتسيّب لا يراعي تاريخ الأفكار، فيفسد الفهم ويتلف المعنى، ونضيع الهدف الذي نريد، أو ما نحتاج إليه بالضبط. هكذا يفترض أن الإصلاح ينطوي على مرجعياته، يتم استحضارها كلما نطق بها طرف معني، وهو يرسل خطابا، ويخطط لبرنامج ذات أهداف (إصلاحية)، ويحدد طبعا نماذج قبْلية تواترت، فنحن معنيون في الخطاب بالنماذج والقوالب العقيدية والفكرية والإيديولوجية والاقتصادية، تختصر التطور التاريخي والتبدلات السوسيو ثقافية، وتختزن في آن المفاهيم والأنساق الكبرى. في نهاية ستينات العقد الماضي كان المفكر المغربي عبد الله العروي قد أنجز هذه المهمة بمعرفة موسوعية ومنهجية حاذقة، في كتابه ذائع الصيت: ‘الإيديولوجية العربية المعاصرة’ (صدرالكتاب للمرة لأولى سنة1967 بالفرنسية، عن دار مسبيرو، باريس، وبالعربية بترجمة محمد عيتاني، دار الحقيقة، بيروت، 1970. أعاد المؤلف ترجمته منقحا في’صياغة جديدة’، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 1999). والنماذج هي: الشيخ، والليبرالي، والتقنوي، تمثل ثلاثتُها تصورات ومشاريع التفكير لدى نخب العالم العربي منذ محمد علي وإلى مجرى الخمسينات للنهضة والتطور، للالتحاق بركب المدنية والانخراط فيها، وهو ما جعل كل النماذج وخطاباتها تزدوج فيه صيغة ووضع الأنا بالآخر، وحضور الآخر (الغربي، طبعا في الأنا). ولو أضفنا النموذج الماركسي الذي لم يتأصل أبدا ولا تجسد حكما ستكتمل الصورة. وبطبيعة الحال، تحتاج هذه الصورة إلى تحيين، لكنها لا تتعدل بكيفية جوهرية، اللهم من حيث حساب درجات الربح والخسارة للمجتمعات العربية بين ما تحقق عبر هذه النماذج وما أخفق. بمعنى أنها قائمة، ومتزامنة ومتصارعة دائما، إما بكيفية صريحة، أو متخفية في أنظمة الحكم الهجينة والمستبدة، وهي الغالبة في العالم العربي، تدعي التنوير والتقدم والعدالة، وتقوم بتكييف وتأويل المفاهيم والمبادئ الكونية على هواها، منتجة نُخبَها الخاصة تسخرها لهذه المهام. فيما تواصل احتكار الحكم باسم الشعب وهي تغتصب كل حقوقه، ومن أجل رسالة الإصلاح وهي تكرس الفساد، والتاريخ العربي الحديث متخم بالأمثلة، والسقوط المروّع لأنظمة الاستبداد في الحاضر لهو خير مثال.
خامسها، أن تأويل المفاهيم والمبادئ لم يكن يتم دائما على أساس مراعاة المضمون الفكري وسياقه التاريخي، بل لتسويغ وتكريس فهم بعينه، ولذلك تجد المشاريع العربية المنمذِجة لفكرة الإصلاح مبطنة بالإيديولوحية، وذات طبيعة سجالية بالدرجة الأولى، تفتقر للعمق والانسجام زيادة على نقيصتي الانتقاء والتلفيق، من هنا تعددت الاختيارات المنطوية بطبيعة الحال على مصالحها، بدت في الحقيقة تتعدد، بينما مفهومُها للإصلاح يصدر عن نظرة أحادية، وقيمة عسفية، قوامها وحدانية الرأي والتسلط وتغليب أقلية، ليست هي النخبة بالضرورة، وهي الطغمة العسكرية تسخِّر النخبة المتنورة أو تبيدها إذا اقتضى الأمر، وهي الدكتاتورية في هيئة فرد شِبه إِله، يتمثل في نفسه كل الرسالات، فيستبيح ومن معه كل شيء، وقد تحصّن بجميع الشعارات الممكنة، إلا بالمبادئ التي تضمن العدالة والديموقراطية، لأنه المستبد العادل. وهي كذلك السلطة العقيدية الإيديولوجية، مستمدة شرعيتها من الدين، بالأحرى تفسيرها لنصوصه، تلغي جميع شرائع الكون والقوانين الوضعية، ولا وجود للحاضر لديها إلا بالقياس إلى الماضي، والواقع صورة منقولة عن أمس، وغدا هو اليوم الآخر وحده، هنا، إذن، حيث يطغى الغيبي على سواه ساحقا الإرادة الفردية والكيان الإنساني، باسم هذا الدين الذي ينبغي أن يعتبر أصلا حرية اعتقاد فردية. تعتبر هذه الاختيارات والإيديولوجيات والسلط الناطقة باسم هذه المصالح أيّ مخالفة أو اختلاف معها تمردا، أو عصيانا، أو فتنة، أو خروجا عن الطريق المستقيم، فتعلن النفير لملاحقة العاقين ولفرض الإصلاح بغية تقويم الاعوجاج؛علينا إذن أن نعرف أي إصلاح هو؟
سادسها، أن الإصلاح المراد التوصل إليه في الحاضر، والذي يفترض أنه مسار مطلب ونضال جماعيين، كما عبرت الأحداث، يتجه ليصبح ملكا لجماعة أو فئات بعينها لتفرض من خلاله إيديولوجيتها وثقافتها، لتشغل بدورها موقع الاستبداد والرأي الواحد. وإذا كان الفهم المبسط لتحكيم القواعد الديموقراطية يبيح للبعض في باب السياسة الهيمنةَ ووضع تشريعات تؤكد سلطة الجماعة، فإن الثقافة الديموقراطية تختلف عن هذا الفهم، في باب الفكر خاصة، بما هي مجال واسع للحوار والاجتهاد، ولا يمكن أن تنفرد بها، أو توجهُها قوة واحدة مهما بلغت منَعتُها وغلبتُها العددية. لقد انطلقت الحركة الإصلاحية السلفية بالضبط من إرادة التصدي للجمود، ومناهضة سلطة سياسية وفكرية تأبّدت أزليتُها في كل المجالات، وعوّقت الاجتهاد، وخنقت معه حرية الإبداع والتفكير، وكم تمّ ذلك باسم تأويل غير منزه عن الغرض للشريعة، وبتحنيط للتراث في إطار القداسة. وبين الانغلاق في القراءة المحنطة، والانفتاح على القراءات المستجدة، بدأ مسلسل زحزحة الجمود والانتقال إلى فكر النهضة والتقدم والتنوير، قد تبلور في نماذج، أي جاء متعددا، إصلاحيا مستنيرا، وليبراليا وعلمانيا، ثم مستعيدا للتراث بقراءة عقلانية (م. ع.الجابري)، وهذا كله وغيره به نغدو في ما نسعى إليه اليوم من تغيير.
سابعها، نعم إن التغيير هو إحدى الكلمات المفتاح، والصعبة، التي لا يريد كثير النطق بها، إذ تظهر مرادفا لكلمة’ ثورة’ ذات المعنى والإحالات العنيفة، وإن استخدمت وُضعت في سياق غير دلالتها، التي لا تكف تتطور. نعم إن فكر الإصلاح هو مسلسل تصورات وعمليات تغيير متواصلة، والتغيير بذاته هو طريقة إصلاح، لكنه لا يعني الهدنة ولا استعادة النماذج القديمة في إهاب حديث، وهذا أحد وجوه الخلاف الكبرى بين الحداثيين وبين الإصلاحيين الذين تقبع مرجعيتهم الأم في الثقافة المحافظة، فإن انزاحت عنها قليلا فتمويهاً ولتجميلها هي.
وتعتبر مسألة فهم ووضع الهوية من البرادغمات الكبرى في بيان الخلاف واستقصاء نظرة الأطراف الاجتماعية والثقافية لحال الإنسان في ما هو فيه، ويريد أن يكون عليه، أي مستقبله.
وخلاف الحداثيين مع الإصلاحيين، المحافظين بالذات، والمحافظة هي مذهبهم وبنية تفكيرهم العميقة، يكمن في أن الهوية بمكوناتها المختلفة، وبأبعادها، لا توجد في الماضي، التراث وحده، ولا في أي تراث، هي في رصيده الحي القادر على التفاعل مع الحاضر، والمتصل بوشائج عقلانية، ما يتطلب القراءة النقدية دائما. قراءة تحيّن الترث، وتنسّب الموروث في ضوء حاضر ما انفك يتغير، يفرض شروطه الخاصة به، ولذلك يقول العقلانيون في خطاب منسق للإصلاحيين السلفيين، القائلين بأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ يقولون، ونحن نستفيد هنا من المفكر عبدالله العروي، ليكن، نحن معكم، إن شئتم، لكن أعيدوا لنا ظروف (زمنية وحدثية وشروط) تلك الأمة، وسنرى [سنرى أنكم تسبحون في التجريد واللاتاريخ[! .
ثامنها، وبالمقابل، فإن الهوية حالة، وضع إنساني، تاريخي، مادي، لا ميتافيزيقي أو لا تاريخي، متعدد لا أحادي بالمرة، أي أن الغيبي أحد مكوناته، لا مفرده ولا جوهره، والصيرورة نهجه لا الديمومة والثبات. هي هوية متحولة حسب الزمان والمكان، والثقافة الإنسانية عي تراكم مفاهيمها ومنجزاتها وتحولاتها، لا تخضع في تقويمها للمعيار الأخلاقي، والأخلاق والخصال البشرية في صلبها، ولكن للوعي ومنهجيات التأويل العقلانية، بذا لا مكان لمفردات من قبيل الاعوجاج والانحراف والصحوة في قاموسها الذي يضرب خصومها بالإلحاد والتكفير، الخ..
ثامنها، وفيه نريد أن نختصر القول، ونقول فيه رأينا مجتمِعا، وهو أنه لم ولن يوجد أبدا خطٌ ولا رؤية واحدة للإصلاح، التغيير، التطور (تتعدد التسميات، والأهمية لمضمونها). وبأن ثقافة العرب اليوم، ومفهوم الثقافة شمولي لا نظري ولا عالم وحدهما، ترتبط، ينبغي أن ترتبط بهوية متجذرة في تربة التقدم العلمي والتكنولوجي، بأسسهما العقلانية والمدنية والتحررية، وتتشبع بروح الحرية وتقاليد الممارسة الديموقراطية، تراعي تفتح الفرد وحقوق الجماعة في آن، ويكون الفكر المستنير لها دائما أفقا. لشدّ ما يبدو السؤال التاريخي القديم الذي طرحه شكيب أرسلان في كتابه: ‘لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم’ (1939) ملحا وقوي الحضور، شريطة أن لا نقع في التكرار والجمود لدى البحث له عن جواب، أن نعتبره شاغل الحاضر والمستقبل، لا سؤال الماضي، ومرجعيات الجواب عنه كذلك، وإلا سنستمر في إضاعة الوقت تاركين الباب مفتوحا لتأبيد التخلف والفساد والاستبداد. إن حقوق الحياة والحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية والمساواة والعيش الكريم، وحقوق الإنسان مطلقا، ليست هِبَةً من أحد ولا هي أبدا منّة. هي حقوق الإنسان في الأرض، ولا يمكن تعليقها بالأوهام، ولا احتكارها من طرف دعاة أي عقيدة وإيديولوجية. هكذا يصبح المطلوب على الصعيد السياسي خوض عمل مشترك بين جميع الفئات الاجتماعية والمصالح الاقتصادية ونُخبها وفق إرادة التغيير وتحقيق المطالب الشعبية الضرورية، أما فكر التغيير وتأصيل التحديث فمساره طويل، وصناديق الاقتراع لا تكفي، بل مزيد التعليم والتنوير واحترام حقوق الإنسان والإبداع الحر.

– القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *