عبدالإله عبدالقادر
عبد الله السري وغانم سعيد مطر ومقر شغلي، آنها، في« اللّية» بالشارقة، على الخور
مباشرة، وفي الطرف الآخر من المدينة. وكان معظم العاملين في الشركة، أو قل جمعيهم،
من الجالية الآسيوية، ما عدا رئيس قسم الميكانيك، اللبناني حسن (رحمه الله). وفي
خضم ذاك الواقع، بقيت مهجوساً بالتفتيش عن أي نشاط ثقافي .. مسرحي، كي أمارس
هواياتي، ولأعود إلى مجال تأسيسي وتكويني الذي خبرته جيداً، وتعلقت به منذ بداية
حياتي.
لم تكن سنة 1980، أولى مراحل عهدي ومعرفتي بالإمارات، إذ سبق وأن زرتها في العام
1967، تحديداً في الأول من مارس، حيث تزوجت في دبي، بتاريخ 17 مارس 1967، ومن ثم
اضطررت للعودة إلى العراق مع زوجتي. وعقب زيارتي تلك، عدت إلى الإمارات بعد قرابة
12 عاماً، أي في عام 1979، وكانت زيارة رسمية، ترأست خلالها، وبحكم عملي في وزارة
الثقافة العراقية، وفداً عراقياً متخصصاً. وأعددت، حينها، أسبوعاً ثقافياً عراقياً،
قدمته في الشارقة ورأس الخيمة، ومن ثم في أبوظبي.
زيارة مثمرة
تعرفت خلال زيارتي الثانية للإمارات، على مثقفين عرب وإماراتيين، عديدين، وأذكر
منهم المرحوم الأديب حسب كيالي، والذي أعتز بلقائي به والعمل معه، لاحقاً، في إذاعة
دبي، وذلك بعد أن كنت عرفته فقط من خلال قراءاتي له. كما التقيت الإعلامي عبد الله
العباسي، والفنان عبد اللطيف القرقاوي( أخي وعديلي بالنسب) إذ كان يعمل في بلدية
الشارقة، ثم كان لي شرف لقاء الشيخ أحمد بن محمد القاسمي. وأيضاً، إلى جانب مبدعين
كثر، لا تحضرني أسماؤهم الآن.
مرحلة جديدة
بدأت مرحلة جديدة في محطات حياتي، منذ العام 1980، حين هاجرت من العراق، وانتقلت
لأقيم، أنا وأسرتي في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث استقرينا في الشارقة.
وأظنني كنت محظوظاً، من البداية، إذ حللت في العاصمة الثقافية للإمارات، وتحت
مظلة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم
الشارقة. كما عملت لدى جهة جيدة، وفي مركز وظيفي مميز، حتى وإن كان حقل عملي،
آنذاك، بعيداً عن طبيعة العمل الذي كنت قد مارسته، قبلها، طوال حياتي:(
المسرح).
وفي تلك الفترة، حاولت أن لا أنقطع عن الساحة الفكرية والفنية، فكان من الطبيعي
أن أتابع الأنشطة الثقافية. وهكذا، قرأت، مرة، إعلاناً عن عرض مسرحية “السلطان”
لمسرح الشارقة الوطني، من تأليف ناصر النعيمي وإخراج عبد الله المناعي.
وبذا وجدت الفرصة سانحة لي لأكسر جمود الحياة العملية، المحاطة،آنئذ، بسياج من
العمالة الآسيوية. لم أواجه أية صعوبة في سعيي إلى تحقيق مبتغاي بحضور عرض ”
السلطان”، إذ كنت أعرف مكان العرض بتفاصيله: قاعة إفريقيا.
وكذا القائمين عليها، ذلك بفعل تقديمي عروضاً فنية على مسرحها بحضور الشيخ أحمد
بن محمد القاسمي، في أثناء زيارتي الإمارات( 1979).
إلا أنني وجدت، عندما وصلت القاعة، إعلاناً جديداً، يفيد بتأجيل عرض المسرحية،
فأصبت بخيبة أمل، خصوصاً وأني كنت أعددت نفسي بشكل كامل، على صعيد التهيؤ الفكري
لاستكناه مضمون العمل وأبعاده، إلى جانب حرصي على أناقة مظهري. وبذا تلاشت آمالي
بفرصة متابعتي الأولى للعروض المسرحية في هذا البلد الطيب، والذي أصبحت، لاحقاً،
جزءاً من ترابه.
حفاوة وتقارب
حيرة كبيرة تملكتني خلال ذلك الموقف، بينما أنا أقف في مدخل قاعة إفريقيا، وكان
هناك ثمة صبية، جاؤوا، مثلي، بغرض مشاهدة العرض لكنهم فوجئوا بتأجيله. وكذلك هي حال
المسؤول عن حراسة القاعة، والذي لم يتأخر، أبداً، في تذكره إياي والتعرف علي، إذ
كنت زائراً للقاعة ومشاركاً في عروضها، قبل عام واحد فقط.
وبذا وجدته يحتفي بي بترحاب وثناء كبيرين، وهو ما لفت انتباه الصبية في المكان،
فتحلقوا حولي مرحبين ومؤهلين، وكأنهم على علاقة بي منذ سنين طويلة، ولم أجد تفسيراً
لذلك إلا أن معدنهم الثمين، بجانب انفتاحهم وحبهم المسرح، مصدر ودافع قربهم مني في
دقائق معدودة.
وسرعان ما تعارفنا، وكم سعدت بذلك، أنا المتعطش، آنذاك، إلى الحديث باللغة
العربية والتي كنت محروماً من التخاطب بها، بحكم بيئة عملي التجاري على ضفة الخور
الأخرى في اللية، والتي أكن لها عميق الحب لأنها محطة ومرتع عملي الأول.
وطبعاً، كانت تمثل اللية، في تلك الأثناء، مركزاً تجارياً حيوياً تتمركز فيه
غالبية الشركات، إضافة إلى وجود ميناء خالد البحري فيها، ومصلحة الجمارك. علاوة على
مجموعة فنادق جميلة، تقع على البحر مباشرة في منطقة الخان.
مبدعو المستقبل
هكذا إذاً ارتسمت مشهدية الأحداث ومآلاتها في ذاك الحدث.. فتأجيل عبد الله
المناعي موعد عرض “السلطان”، كان سبباً لمعرفتي بشباب المسرح( الصبية الذين صادفتهم
أمام قاعة إفريقيا)، والذين كبروا وتعلموا، لاحقاً، فأسهموا، بجدارة، في إثراء
الحركة المسرحية في الإمارات. وأذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر: عمر غباش،
ناجي الحاي، محمد الدوسري، علي العبدول، أحمد الشيخ، رائد فريد. ك
ما تعرفت، وعبر صلاتي وتواصلي مع هذه النخبة من الشباب، على كل من: المخرج محسن
محمد، المرحوم الأديب أحمد راشد ثاني، المرحوم الفنان الراحل يوسف خليل. وغيرهم
الكثير. وجسدت هذه المجموعة من الشباب المبدع، مفتاح ولولوجي الحياة المسرحية
المحلية، كونهم، حتى مع فارق السن، أصدقائي الأوائل في المجال، إذ بقوا أوفى من
تعرفت عليهم.
وبادرت كوكبة الشباب هؤلاء، بعدها، في تقديمي إلى الحياة المسرحية، من خلال
الندوات التي استضافتني بها، في النادي الأهلي، أو عبر تبني نصوصي المسرحية في
العروض الخاصة بفرقهم. ولا تزال علاقتي الحميمية معهم، مميزة، لغاية الآن، وذلك بعد
أن حققوا هم إنجازات عديدة، على كافة مستويات العمل المسرحي، فأصبح لكل واحد منهم،
اسماً لامعاً في البيت المسرحي والثقافي والإعلامي، بل إن بعضهم، تبوأ مراكز قيادية
في الدولة، مثبتاً أهلية فريدة.
جهود كبيرة
لم يفتني، في بدايات انخراطي في مجالات العمل الإبداعي في الإمارات، أنني احتاج
بذل جهود كبيرة ومضنية، لأكون فاعلاً في نسيج الحياة الثقافية والبيت المسرحي، إذ
ليس المهم ما كنت قد أنجزته في العراق، بهذا الشأن.
إنما كان الرهان الذي يمكنني التعويل عليه، ما أقدمه من منتج فني وثقافي في هذه
الساحة، البكر حينها. وخدمت مسيرتي في هذا الاتجاه، ظروف وأساسات عديدة، إذ، وكما
ساعدني شباب مسرح دبي الأهلي فقدموني إلى الحياة المسرحية والثقافية، مهد لي أصدقاء
كثر، طرق الوصول إلى ما أبتغيه من حقول وأمور. وأذكر منهم، بحب كبير، الأديب
والصحافي جمعة اللامي، الذي مثّل رمزاً مهماً في صحيفة “الخليج”.
إذ فتح لي باب الكتابة في صفحاتها، منذ الأيام الأولى لوصولي الإمارات، حيث كنت
التقيته صدفة، وقد أفادني كثيراً، إذ غدوت، آنها، وعبر مساعدته تلك، قادراً على
الوصول إلى القراء والمثقفين والمسؤولين، والقرب منهم، من خلال قلمي الذي ظل، إلى
اليوم، رفيق دربي. لا بد لي هنا، من أن أذكر دور أخي وصديقي، الدكتور يوسف عيدابي،
الذي تعرفت عليه في منزل جمعة اللامي عندما بدأ الإشراف على الصفحة الثقافية في
الصحيفة تلك.
فهو من وسّع الباب أمامي، إذ خصص لي صفحتين كاملتين، في كل أسبوع، واحدة يوم
الاثنين ( في الصفحة الثقافية)، والأخرى (في الملحق الثقافي الذي كانت تصدره
“الخليج” بإشراف عيدابي نفسه).
ومارست شتى أنواع الكتابة من خلال هاتين الصفحتين، وكنت يومها أعمل مديراً
للمشاريع في شركة الغانم للإنشاءات، التي كانت مملوكة للسيدين عبد الله السري وغانم
سعيد مطر.
وهكذا، كنت أحمل أوراقي وكتبي في سيارتي ذات الدفع الرباعي، لأستغل الوقت الذي
يتاح لي في الكتابة أو القراءة، ذلك حسب مناخات العمل الوظيفي وأوقاته، والذي يبدأ،
آنذاك، في الخامسة فجراً ليستمر إلى العاشرة مساءً. وكان يحتم علي عملي، أن أتنقل
للإشراف والمتابعة، ما بين سويحان في أبوظبي، ودبا الحصن في الشارقة، مروراً بمدينة
الشارقة، وبكل من: إمارة الفجيرة ومدينتي خورفكان وكلباء.
إلا أنني حرصت دوماً، وفي خضم هذا العناء والازدحام في العمل، على الاستمرار في
الكتابة الصحافية كواجب مهني لا بد منه، وبذا واصلت متابعاتي وتغطياتي للعروض
المسرحية، إلى جانب إبداع مقالات رؤيوية وتنظيرية حول فن المسرح، إذ لخصت نظرية
ستانسلافيسكي في المسرح، بالكامل.. وفي أثنائها لم تك لتغيب أو تنقطع المتابعة
اليومية الدقيقة لي، من قبل عيدابي، سعياً منه إلى استكمال الكتابات الأسبوعية،
والتي كانت مؤثرة في مضمون التأسيس المسرحي لشباب تلك الفترة.
أحداث ومعايشات كثيرة مرت بي وخبرتها خلال تلك الفترة الصعبة من حياتي، والتي
وسمت بمحاولاتي الدؤوبة للتوفيق بين جذوري الثقافية ( المسرحية) ورغبتي في مواصلتها
من جهة، واحتياجات عملي الذي يعيلني وأسرتي من جهة أخرى.
ومن بينها، موقف اعترضني خلال أحد الاحتفالات السنوية بيوم المسرح العالمي،
والذي ما أزال متمسكاً بالاحتفال به كمناسبة عزيزة على نفسي، كوني رجل مسرح
مخضرماً.. وطبعاً، لم يك لدي أي متسع أو وقت فراغ يمكنني من القدرة على الذهاب إلى
أبوظبي ومشاركة زملائي المسرحيين في هذه المناسبة التي كان يحتفل بها، حينها، في
النادي السياحي
. ولكنني لم أستسلم، فحاولت توفير فرصة ما، بأي شكل، وبذا حرصت على توظيف مواعيد
شغلي الخاصة بزيارات مواقع العمل، بحيث توفر لي هامش وقت فراغ يؤمن حرية تحركي في
الوقت المحدد لذاك الاحتفال.. إذ حددت موعد زيارتي موقع سويحان بتوقيت مقارب
للموعد، واقترن هذا بتحضيري للأمر جيداً، فحملت معي في السيارة، ملابسي الرسمية
كاملة، بالإضافة إلى قطعة صابون وفرشاة أسنان و”جلكان” ماء وقنينة عطر.
وعقب أن أتممت تفتيشي الموقع ومتابعة مراحل العمل فيه، قدت مركبتي خارجه، ومن ثم
توقفت في الصحراء، فاغتسلت وخلعت ثياب العمل لأرتدي الرسمية، ثم تعطرت. وعقبها،
توجهت إلى قاعة النادي السياحي، وشاركت في الاحتفال، ومن ثم رجعت إلى مقر عملي في
مكتبي، في أول شارع العروبة بالشارقة.
هذا ما كان، وما لا يغيب عن ذاكرتي ومخيلتي بينما يمر عليه الآن، أكثر من ثلاثة
عقود استطعت أن أحقق خلالها، بعض أحلامي.
صدفة جميلة
إنني فخور جداً بكوكبة المبدعين الذين كنت التقيتهم وهم فتية، أمام قاعة
إفريقيا، في ثمانينات القرن الماضي، وأعتز بكوني أحد الذين حاول أن يقدم لهم،
عصارات فكرية من ما خبر واكتسب في ساحة الثقافة والفن والحياة.. ولا شك في أنني كنت
محظوظاً عندما أجل عبد الله المناعي عرض مسرحيته” السلطان”، يومذاك، إذ تعرفت عليهم
صدفة.
قرار صائب
لعله من الطريف، في فترات بداية انخراطي بالعمل الثقافي في الإمارات، أن معظم
الإخوة المسرحيين، لم يتعرف على صورتي، لحرصي على عدم نشرها مدفوعاً بالخوف من
السلطات العراقية التي كانت تتابع مواطنيهاذ بدقة وإحكام. وهذا الحرص بقي شديداً
لكوني أعلم جيداً عواقب الأمر، خاصة وأنني تركت العراق واخترت الإمارات، وطناً
ومسكناً. وأدرك الآن كم كان قراري صائباً حين رحّلت عائلتي وتبعتها، لنستقر سوياً،
على هذه الأرض الطيبة، فنحظى بالعيش بكرامة واعتزاز.